بقدر اقتراب الأدب من الأحداث الفارقة التي غيرت وجه التاريخ، بلا تدليس في وقائع، أو تجهيل بعصر، يكتسب قيمته، وتأثيره على الذاكرة العامة جيلا بعد آخر.
يساعد هذا النوع من الأدب في شرح نظريات الأمن القومي، دون ادعاء وبأبسط لغة ممكنة.
هناك من يصطنعون كهنوتا حول نظرية الأمن القومي تحجب الفهم العام، كأنها أسرار خلف أبواب مغلقة، يقف عليها حراس وحجاب.
وقد كان عمل كاتب السيناريو الكبير الراحل “محفوظ عبد الرحمن” “بوابة الحلواني” اقترابا دراميا نادرا بلا كهنوت، وحواجز من جوهر نظرية الأمن القومي في مصر.
نظريات الأمن القومي، لا تُخترع ولا تنشأ من فراغ، فحقائق التاريخ تصوغها فوق خرائط الجغرافيا.
رغم أن “محفوظ عبد الرحمن” لم يشر أبدا إلى أسبابه في اختيار اسم ذلك المسلسل التلفزيوني، فإنه لا يصعب على المشاهد العادي استنتاج قصده.
فقد اعتاد المصريون لقرون طويلة على القول بأن “الذي بنى مصر كان في الأصل حلواني”، وكان ذلك نوعا من الولع بالوطن، ومواطن الجمال فيه، رغم كل ما اعترضه من محن وشدائد، وغزوات جاءت أغلبها من الشرق.
بنفس الروح، وصفوا عاصمتهم القاهرة بـ “المحروسة” اعتقادا، بأن كل احتلال ينقضي وكل غزو يهزم بالنهاية، وأنها قادرة على هضم، وتمصير كل الثقافات والحضارات التي مرت بالسلاح فوقها.
كما كانوا يطلقون ـ حتى أوقات قريبةـ على العاصمة اسم “مصر”، كأنها تلخص البلد كله، وترمز إليه وحدها.
في ذلك شيء من إرث مصر القديمة الذي تحفظه البرديات: “الكل في واحد”.
بمعنى سرى في روح المسلسل، فإن المصري “شايل حمولها ويعدل المايل” ـ كما تقول أغنية المقدمة التي كتبها مبدع كبير، هو الشاعر “سيد حجاب”.
“بندق ندق بوابة الحياة بالأيدين
قومي افتحي لولادك الطيبين قومي”.
إلهام الشاعر أمسك بجوهر ما أراده المؤلف.
كلاهما مثقف له انحيازاته، وأفكاره التي صاغت تجربته الفنية.
“بوابة الحلواني” هي ذاتها “بوابة الحياة”.
التعبير الأول- ينصرف إلى مصر مباشرة عند حدودها الشرقية في سيناء، والكلام داخل في صلب نظرية الأمن القومي.
تاريخيا المصير المصري تعلق صعودا، وسقوطا بالحروب، والغزوات التي تعبر تلك الحدود.
إذا ما هُزمت انكفأت على جراحها، تُنهب مواردها ويستبد بشعبها.
وإذا ما نهضت تكتسب مهابتها في جوارها.
تلك قاعدة رئيسية في نظرية الأمن القومي المصري، كما استفاض في شرحها الدكتور “جمال حمدان” في سفره الجليل “عبقرية المكان”.
والتعبير الثاني- يضيف ويشرح ارتباط الأمن القومي بقضية الحياة نفسها، وأن إرادة المقاومة هي ذاتها قصة مصر المتألمة التي تبحث عن أمل، وتحن لأيام عزتها حين “نطوى الأنين بالحنين”.
كان حفر “قناة السويس” حدثا تاريخيا محوريا في التاريخ المصري، بات بعده البلد مرهون بالكامل لصراعات النفوذ، والمصالح الكبرى.
عندما علت أسواط السخرة منتصف القرن التاسع عشر فوق ظهور مئات ألوف الفلاحين عند حفرها، ولقى أغلبهم حتفه، كانت الإمبراطوريتان الفرنسية والبريطانية تتنازعان الجوائز، وامتدت المحنة حتى تأميم القناة عام (١٩٥٦).
كاد “بوابة الحلواني” أن يكون الاقتراب الدرامي الوحيد من ذلك الحدث الحاسم في التاريخ المصري الحديث.
لم تستغرقه أية أحكام مطلقة، ولا غابت عنه روح الإنصاف لعصر الخديوي “إسماعيل”، الذي شهد طفرة عمرانية، وتطورا في وسائل الحياة والتمدن، غير أنه وقع في مصيدة الدين العام للإمبراطوريتين العظمتين، بما أفضى في النهاية إلى التخلص منه بالنفي، وتولية ابنه الأكبر “توفيق”، الذي استدعى الاحتلال البريطاني لقمع الثورة العرابية.
ولعله العمل الأدبي والفني الوحيد، الذي أنصف عصر “إسماعيل”، رغم أن مؤلفه ينتمي بفكره إلى تجربة (٢٣) يوليو التي أسقطت حكم أسرة “محمد على”.
إنصاف التاريخ من ضرورات التقدم إلى المستقبل.
هذه حقيقة، لا يصح أن تغيب تحت أي ظرف، أو في أي عصر.
قرأ ملف قناة السويس، وكل ما أتيح من وثائق وشهادات، ورسم صورة للعصر، يصعب أن يلم بها المؤرخون المحترفون.
تعددت مستويات الدراما في نسيج واحد بين ما يجرى في قصر الخديوي، وصراعات حاشيته، ووجهاء المجتمع، وأصحاب المصالح وممثلي القوى الدولية المتنازعة على القوة، والنفوذ والمواطنين العاديين، كما روح العصر وذائقته الفنية التي تجلت في شخصيتي “ألمظ” و”عبده الحامولي”.
كانت قناة السويس محور العمل الذي تدور حوله صراعات ومصائر أبطاله.
وقد أضفى بطولة إضافية على قرية نائية مجهولة اسمها “الفرما”، أصبح اسمها فيما بعد “بور سعيد”.
بطولة “الفرما” تعبير درامي، وتاريخي عن حجم التحول في اعتبارات الأمن القومي بعد حفر قناة السويس.
لقرون طويلة كانت الجيوش المصرية تعسكر في منطقة الصالحية على تخوم محافظة الشرقية، حيث نهاية العمران.
إذا ما سقطت الصالحية تحت ضربات أية قوات غازية تكون القاهرة قد سقطت في نفس اللحظة، وإذا ما تحركت الجيوش من معسكراتها في اتجاه الشرق؛ فالتاريخ يأخذ مسارا آخر.
لم يكن اختيار هذه البقعة اعتباطا استراتيجيا في فترة حكم الأيوبيين، فبعدها يمتد الخلاء حتى الحدود الشرقية.
في عمل درامي سابق لـ “محفوظ” استلهم من التاريخ المصري قصة الصديقين اللدودين، وكلاهما حكم مصر على التوالي، “سيف الدين قطز” و”الظاهر بيبرس”.
في طريق عودة الجيش المنتصر على المغول بعد معركة “عين جالوت” اغتيل “قطز” بتدبير من “بيبرس”.
في مونولوج طويل فيه حب ومقت، إعجاب وكراهية، ولاء وانتقام، أخذ “بيبرس” يرثى صديقه الذي قتله للتو في رائعة “الكتابة على لحم يحترق”.
أي لحم هذا الذي يحترق؟
إنه لحمنا نحن، والكتابة عليه، تعلم بقدر، ما تجرح، وتلهم بحجم ما نستوعب.
بنفس الروح كتب سيناريو فيلم “ناصر ٥٦”، كأنه استطراد لـ “بوابة الحلواني”.
القصة واحدة، ومتصلة بوجوه جديدة وأبطال جدد.
وقد كانت رسالته بحجم الأثر الذي أحدثه، أن كل ما له قيمة في هذا البلد يستحيل حذفه، وكل أمل دفع المصريون استحقاقاته لا يتبدد.
لم يكن تأميم القناة محض قرار الرئيس “جمال عبد الناصر” بقدر ما كان رد اعتبار للوطنية المصرية التي أهينت، واستبيحت ممن كان يطلق عليهم “أصحاب المصالح”.
أي تأويل آخر، لا يعرف شيئا عن عمق الجرح المصري، والتجهيل بالتاريخ يضرب في جذور الأمن القومي.
لهذا السبب، تدفقت على بور سعيد قوافل المتطوعين، حملوا السلاح، وواجهوا العدوان الثلاثي البريطاني الفرنسي الإسرائيلي، وبدا أن مصر تغيرت، وتوشك أن تدخل عصرا جديدا.
حسابات الأوطان غير حسابات البقالة، الأولى، تضع نصب عينها اعتبارات الأمن القومي، وقد كان التأميم قضية بلد صغير استقل حديثا، يطلب الحرية والكرامة.. والثانية، لا تعرف غير لغة الربح والخسارة.
بقدر المبادرة والاستعداد لدفع الأثمان، خرجت مصر من السويس دولة كبرى مؤثرة بعمق في عالمها العربي، وقارتها الإفريقية والعالم الثالث.
هكذا نظر “محفوظ عبد الرحمن”، أحد أبرز مؤسسي الدراما التلفزيونية العربية إلى أعقد مسائل الأمن القومي التي هي “بوابة الحلواني”، أو “بوابة الحياة”.