تشير الأدبيات السياسية العامة لدور مركزي للنخب في مسألة تكوين، واستقرار المجتمعات، وتشكيل نسق الحكم والفكر والتوجه العقيدي…. إلخ. وهكذا فإن النخب هي مكون أساسي في صنع الواقع السياسي والثقافي والديني في أي مجتمع، وقد يكون من نافلة القول، إن تقدم المجتمعات قد أسفر عن تعدد أنواع النخب بين ما هو سياسي، ومنها ما هو غير سياسي، ومن الفريق الأخير، هناك النخب العسكرية والاجتماعية ذات الطبيعة القبلية أحيانا، وأيضا البيروقراطية.

وعطفا على هذه الحقائق، ربما يكون من المهم في هذه اللحظة التاريخية، والحرجة في السودان أن نتطرق إلى أمرين: الأول، هو طبيعة ممارسات النخب السودانية على اتساعها، مع ملاحظة خصوصيات أدوارها في مجتمعات، هي منقسمة لأسباب متعددة منها ما له طبيعة عرقية، وثقافية ومنها ما له طبيعة سياسية، وأيديولوجية، والأمر الثاني، هو طبيعة التفاعل المطلوب للحفاظ على دولة السودان الوطنية في الوقت الراهن.

الدور المركزي للنخب في تقدم المجتمعات، وهو ما يقودنا بالضرورة لمحاولة استطلاع دور النخب السودانية في مرحلة الانتقال بعد ثورة ديسمبر، وصولا إلى اللحظة الراهنة التي أنتجت حربا، وكذلك طبيعة دور هذه النخب في وقف الحرب، أو بلورة عملية سياسية، تنقل البلاد من مرحلة التهديد الوجودي إلى مرحلة الاستمرار والاستقرار المأمول ربما.

في هذا السياق نستطيع القول، إن النخب السياسية المؤطرة تنظيميا، سواء الأيديولوجية، أو النخب العسكرية السودانية، قد فشلت بامتياز في مهامها المترتبة على حالة ثورة شعبية وقعت عام ٢٠١٨، بينما كانت النخب المهنية والبيروقراطية، والمستقلة في مراحل مبكرة من الأزمة السياسية أكثر وعيا، وفاعلية على أسس ترنو، نحو حالة وطنية جامعة غير متحققة في السودان، ولكنها للأسف فارقت هذه الحالة بعد فترة من الحرب، لتطرح مجهودها مقسما حاليا على أربع أطروحات.

وعلى الرغم من التهديد الوجودي الذي تواجهه دولة السودان، فإن حالة الحرب لم تنتج على ما يبدو إدراكا نخبويا سودانيا، بضرورة تغيير الممارسات، والتوجه نحو التوافق ولو عند حدود دنيا؛ فحالة الاستقطاب والتراشق السياسي الذي مارسته النخب السودانية طوال الفترة الانتقالية، وكانت مسئولة بنسبة مقدرة عن قيام هذه الحرب اللعينة، ما زالت ماثلة، وكذلك حالة الانقسام في مجهودات وقف الحرب، ما زالت قائمة، وبطبيعة الحالة لا ترنو هذه الممارسات، رغم إدانتها من مستوى أداء نخب الجبهة القومية الإسلامية الإجرامي، وهي المنخرطة في ميليشيات حاليا، تؤجج الحرب، وترفض المبادرات السلمية، وآخرها مبادرة مالك عقار نائب رئيس المجلس السيادي.

حاليا، ومع خروج رئيس المجلس السيادي عبد الفتاح البرهان من مخبئه، وتواجده في بور تسودان والاتجاه، ربما نحو تكوين حكومة طوارئ، فإنه من المطلوب الانتباه أن ثمة فرصة أخيرة تلوح في الأفق؛ للحفاظ على دولة السودان، وأن هذه الفرصة تعني، أن يرتفع الجميع إلى مستوى من المسئولية الوطنية المطلوبة؛ لإنجاز مهمتي وقف الحرب، وإنقاذ الدولة. وطبقا لذلك، ربما يكون من المطلوب أولا، وبشكل تأسيسي إدراك أن الخطابات الغربية بإسناد عمليات التحول الديمقراطي، ليس بالضرورة أن تكون ذات مصداقية، فها نحن نرى معارك تقسيم النفوذ من حولنا في القارة الإفريقية، وأن الممارسات الديمقراطية الإفريقية ما زالت عاجزة عن إنجاز التنمية الاقتصادية؛ بسبب رئيس، هو السياسيات الدولية وعمليات استنزاف الموارد، عبر ممارسة سياسات الاحتواء للنخب الحاكمة بآليات الفساد، والإفساد والتي يمارسها هؤلاء المبشرون بالديمقراطية في السودان، وطبقا لهذا الواقع المؤسف، يكون على عاتق النخب السودانية في هذه المرحلة إنتاج الصيغ المناسبة للظروف المحلية، والمنتجة أولا، لوقف الحرب وإعلاء ممارسات العفو، والقيم التقليدية والتاريخية للمجتمع السوداني.

و قد يكون المأمول، وعلى نحو عاجل توحيد المبادرات السودانية المدنية التي أنتجتها النخب البيروقراطية، خلال الفترة الماضية في أسرع وقت ممكن، وبالتوازي خلق آلية تواصل، وتوافق بين آلية هذه المبادرات في حال توحدها مع تحالف الحرية والتغيير في صيغته الموسعة، بحيث تكون العلاقة المستقبلية علاقة توافقية، وليست صراعية، كما جرى خلال الفترة الانتقالية بين حكومتي حمدوك المدنية وتحالف الحرية والتغيير.

على الصعيد العسكري، فإن واقع فشل الجيش في دحر ميليشيات الدعم السريع معتمدا على تحالف مع ميليشيات الجبهة القومية الإسلامية، ونخب حزب المؤتمر الوطني المحلول، يفرض على قيادته الراهنة اتخاذ مسارات جديدة، طبقا لمعطيات الواقع التي تقول، إن هذه الميليشيات لم تستطع أن تحسم الصراع العسكري، لا لصالح الجيش، ولا لصالح أعمدة نظام البشير ومصالحهم الذاتية، بل إن اتجاههم لتأجيج الحرب هو سبب رئيس من أسباب تدمير البنية التحتية للسودان، وبالتالي، فإن تشكيل حكومة طوارئ، لا بد وأن يكون في إطار مشروع سياسي شامل، يضمن حكم مدني، يضم تشكيلة بيروقراطية واسعة منتمية لكل التيارات بشروط النزاهة، والاستقامة المالية والسياسية.

في المقابل، فإن النخب السودانية التي قدرت يوما، أن الدعم السريع يمكن أن يكون مشروعا قادرا على تدشين حكم ديمقراطي عليها الاعتذار للشعب السوداني على سوء التقدير، وفساد التحالف الذي دفع ثمنه السودانيون بنهب بيوتهم، واغتصاب نسائهم.

هذا المجهود لا بد، وأن تسانده نخب تيار الإسلام السياسي السوداني في العواصم المختلفة، والتي تكتفي حاليا، بدور المتفرج فهؤلاء قد ربطتهم علاقات تنظيمية، بل وعائلية أحيانا ببعض ممن يأججون الحرب حاليا، ويسعون إلى الحفاظ على مصالح، قد تكون قد تآكلت بالفعل بحكم التطورات على الأرض، ومن هنا، فإن فتح الحوارات مطلوب؛ لترشيد حالة التأجيج، وتهدئتها ومحاولة الوصول إلى صيغة تأمين وجود الدولة التي لن تتحقق بانهيارها أي مصالح لأي طرف.

على الصعيد الإقليمي، تكون مهمة توحيد المبادرات المطروحة هي مسئولية نخب تحالف الحرية والتغيير، بصيغته الموسعة، وكذلك إرادة واعية من جانب كل عواصم الإقليم، أن الصراع على حساب الشعب السوداني باستقطاب قسم من شخصيات، أو نخب يدفع ثمنه الأبرياء الذين دُمِرت كل مفردات حيواتهم، وأمنهم الإنساني، ذلك أن هذا النوع من الصراعات والتنافسات الجميع فيه خاسرون.

قضايا تأسيس الدولة السودانية لا بد، وأن تكون مطروحة بالتوازي مع مجهودات وقف الحرب على أجندة النخب السودانية، ولا بد من بلورة منصة للنقاش حولها، وهي منصة لا بد، وأن تكون،  على مسافة ما، من السياسيين في هذه المرحلة، وأن تضم جميع الأطياف الأيديولوجية، وكذلك يتوافر لها الوقت الكافي، والخبرات المستقلة، سواء المحلية أو الإقليمية العربية والإفريقية للاستبصار، والنظر في التجارب من حولنا، وخصوصية أوضاعنا، وطبيعة الصراع على مواردنا.

إجمالا، تبدو مسئولية النخب السودانية بكافة أنواعها المدنية، والعسكرية في هذه المرحلة كبيرة، وأساسية؛ لإنقاذ دولة السودان من حالة الاندثار الذي ما زال ماثلا للأسف.