لعل أحد أهم ما يشغل المرشحون المحتملون لانتخابات الرئاسة القادمة في مصر، هي ضمانات إجراء انتخابات حرة ونزيهة. وسبب تلك الضمانات، أن الانتخابات المصرية على طولها وعرضها لم تعرف النزاهة والشفافية، باستثناء مرات قليلة، ما جعل الضمانات مهمة؛ لخوض تلك الانتخابات ليس فقط للمترشحين في الوقت الحالي، بل في مرحلة لاحقة للناخبين أيضًا، فهؤلاء هم الطرف الثاني، والمهم في العملية الانتخابية، والذي بيده المشاركة فيها بحيوية عبر التصويت، أو مقاطعتها بشكل قد يحجب عنها الشرعية.
من هنا، تأتي أهمية الضمانات في كافة الانتخابات العامة حول العالم، والتي تشجع على المشاركة ترشيحا وانتخابا، وإلا ستوصم العملية الانتخابية، بأنها مسرحية هزلية، غرضها كسب شرعية شكلية للنظام السياسي القائم، ومن ثم لا تمت بصلة لأي شرعية حقيقية، اكتُسِبت من الشعوب. بعبارة أخرى، إن الشرعية النابعة من انتخابات غير نزيهة هي مجرد شرعية ورقية، غرضها استيفاء استحقاقات دستورية متصلة بتداول سلمي للسلطة، والظهور أمام عديد القوى في داخل وخارج البلدان المعنية بالانتخاب، بأن مستندات وأسانيد بقاء الحكام التسلطيين على رأس السلطة، قد استوفت. لكن واقع الأمر وفي إطار ما جعل العالم، منذ عقود قليلة كالقرية الصغيرة، بسبب تطور نظم المعلومات والاتصالات، وغيرها من مظاهر العولمة، لم تعد لكل تلك الأمور الشكلية أي سند، يكتسب منه الحكام شرعية حقيقية؛ للبقاء في السلطة لا أمام الداخل ولا أمام الخارج. من هنا أصبحت النظم السارية نحو الديموقراطية، ومن باب أولى النظم التسلطية، مطالبة بأن تكون هناك ضمانات حقيقية قابلة للتصديق، حتى تتصف الانتخابات بالشرعية، عوضًا عن حجج وأشكال، أصبحت لا تنطلي إلا على عقول سذج وبسطاء.
وقد تعددت الضمانات في الانتخابات المصرية في الأعوام السابقة، إلى الحد الذي لا يمكن لأحد الاعتراض عليها، بل طلب المزيد منها، وذلك من خلال ما سطرته الدساتير والقوانين المصرية، لكن بقى السؤال لماذا –رغم تلك الضمانات المتزايدة- تنحسر نسب المشاركة في الترشيح في الانتخابات (رئاسية ونيابية ومحلية)، ولماذا تنحسر نسب المشاركة في الاقتراع فيها؟.
أهمية وجود إدارة انتخابية غير معنية بالنتائج ومناخ سياسي محفز
للإجابة عن هذا السؤال، من المهم أن نرصد أن أهم ضامن لإجراء انتخابات شفافة وحرة ونزيهة، هي أن تكون الإدارة الانتخابية غير معنية بنتائج الانتخابات، أي لا مصلحة لها في نجاح أو هزيمة أي طرف. لكن هذا الأمر لا يكفي وحده؛ لضمان إجراء انتخابات تعددية وشفافة، يشارك فيها الناس بحرية، لذلك كانت نسبة المشاركة في الانتخابات العامة المصرية متدنية، رغم وجود لجان شبة مستقلة قبل عقد تقريبا من أحداث 25 يناير2011، وحتى اليوم. هنا نشير إلى أن أكبر نسبة مشاركة في الانتخابات المصرية كانت انتخابات2012، لمجلس النواب والتي شارك فيها نحو 60% من المسجلين بقاعدة البيانات، ورغم أن تلك النسب جيدة وليست ضخمة مقارنة ببعض معدلات التصويت في النظم المتمدينة، إلا أنها بالمعدلات المصرية تعد كبيرة للغاية. وهو أمر يعود إلى المناخ المحفز وهو ما تمثل فيما يلي: –
1- إنها انتخابات جرت في مرحلة حرجة من عمر الوطن.
2- أن صلاحيات البرلمان كبيرة، وهنا نشير إلى، أن انتخابات الشورى -ذو الصلاحيات المحدودة-في ذات العام، لم تتجاوز المشاركة فيها 12.5%.
3-أنها انتخابات عبأت لها القوى السياسية الفاعلة في الشارع، خاصة جماعة الإخوان المسلمين، والتيار السلفي، والقوى المدنية المناوئة لهما.
بموازاة ذلك، كانت الانتخابات الرئاسية الأكثر زخمًا من حيث المشاركة هي انتخابات 2012 أيضًا، ثم انتخابات 2014، وقد ميز الانتخابات الأولى (شارك في جولتيها 47% و50.1%) الأسباب الأربعة التالية، بينما في الثانية (نسبة المشاركة 47.34%) الأسباب من 3-5 فقط: –
1- أنها انتخابات تعددية حقيقية شارك فيها 13 مترشحًا.
2- تعبئة وحشد القوى السياسية الدينية والمدنية لها بشكل منظم.
3- أجريت في لحظة حاسمة من عمر الوطن، رغم مناخ عدم الاستقرار الذي شاب أجواء البلاد.
4- أجرى الانتخابات طرف لا ناقة له ولا جمل في نتائج الانتخابات (رغم الجدل الكثير حول هذا الأمر).
5- لم يكن بالبلاد رئيسا مرشحا.
بالطبع قد يقول قائل، إن الإدارة الحالية للانتخابات هي أيضا غير معنية بنتيجتها، لأن الهيئة الوطنية هيئة مستقلة. هذا الرد صحيح شكلا، وهو يرد عليه ملاحظة مهمة، وهو أن الهيئة من حيث التكوين تشكل من قضاة بعضهم خاضع لوزارة العدل، أي أنها تابعة للحكومة المعنية بنتيجة الانتخابات. أما من حيث المضمون، فإن الضمانات الواردة في قانون الهيئة الوطنية بالانتخابات (ومن قبلها لجان الانتخابات المختلفة) على أهميتها، غير مفعلة، وذلك بالنسبة لانتخابات الرئاسة أو الانتخابات التشريعية. هنا يشار إلى، أنه لم يعرف حتى الآن حالة واحدة، قامت فيها الهيئة الوطنية، ومن قبلها لجان إدارة الانتخابات بشطب مرشح خرق قواعد الحملة الانتخابية الضامنة؛ لخوض انتخابات نزيهة يتساوى المرشحون فيما بينهم بشكل متكافئ.
استغلال مقدرات الدولة أبرز الانتهاكات
ولعل أبرز الانتهاكات المانعة؛ لإجراء انتخابات عامة شفافة (خاصة الرئاسية)، هو ما مردت السلطة التنفيذية في العقود السابقة على استخدامه أو تشجيعه، لدعم مرشح دون آخر. وهو استغلال مقدرات العامة (وتسخيرها للمقدرات الخاصة) للترويج للمرشح/الرئيس، وهو ما حدث في المرشح الرئاسي الفرد في حقبة كل من الرؤساء عبد الناصر والسادات ومبارك، والمرشح في الانتخابات الرئاسية التعددية عام 2005، وهو الرئيس مبارك، ومرة واحدة في عهد الرئيس السيسي عام 2018، إضافة إلى انتخابات 2014 والتي لم يكن فيها السيسي رئيسا خلال الانتخابات، لكن أجهزة الدولة وقفت وراءه بكل قوة. وكل ما سبق وما تلى لا ينفي ترويج الدولة لبعض المرشحين في الانتخابات البرلمانية، وهنا نشير تحديدًا، مع الخلاف في المراحل الزمنية، لمرشحي الحزب الوطني الديمقراطي ودعم مصر ومستقبل وطن.
وتتمثل أبرز أشكال استغلال مقدرات الدولة في الترويج للمرشحين في انتخابات الرئاسة (وربما البرلمانية)، فيما يلي: –
1- ظهور صور وأحاديث وبيانات وخطب وشعارات المرشح الرئاسي في وسائل الإعلام المرئي المملوكة للدولة كل الوقت، وبشكل أكثر كثافة عما هو معتاد.
2- ظهور صور المشاريع التي افتتحها الرئيس المرشح، وإبراز الإعلام لما ينعم به الناس من جراء القرارات المتخذة طوال عهد المرشح في الحكم.
3- إصدار السلطة التنفيذية قرارات، أو إغماض عينها عن تجاوزات، سبق أن جرمتها قبل الانتخابات، وذلك لدعم الرئيس المرشح الرئاسي (أو الحزب المقرب من السلطة إبان الانتخابات البرلمانية)، ومن أمثلة ذلك اتخاذ قرارات بوقف العمل بزيادة أسعار سلع، أو خدمات كان منتظر صدورها (الكهرباء والطاقة مثلا) أو التغاضي عن إزالة زراعات الأرز المخالفة لمناطق الزراعة، أو التوقف عن توقيع غرامات عليها؛ بسبب استهلاك المياه، أو إصدار قرارات لدعم الفلاحين المستدانين من البنك الزراعي، أو إماطة اللثام عن تجريف الأرض الزراعية بالبناء عليها…إلخ.
4- ظهور الناس أنفسهم في وسائل الإعلام المرئي من خلال تصريحات، تتضمن توجيه الشكر والمديح للمرشح/ الرئيس لما شكلته قراراته من عوائد، حملت الرخاء والازدهار للناس.
5- تفنيد وسائل الإعلام لحجج الأطراف الأخرى، التي تنقص وتنكر إنجازت المرشح/ الرئيس.
6- ظهور لافتات المرشح/ الرئيس في الشوارع والميادين، في شكل صور شخصية أو بانرز أو بوابات، مرفقة أحيانا بعبارات المبايعة، والدعم والتأييد من رجال أعمال، وتجار يتركز نشاطهم في نفس الجهة، وأحيانا تتناول تلك اللافتات المرشحين المنافسين بعبارات تنم عن رفضهم. وكل تلك الأمور تتم إما بمبادرات شخصية، أو بتعليمات من قبل الأجهزة الإدارية في المحليات، وهي تتضمن أحيانًا إثابة من يقوم بتلك الدعاية، وأحيانًا عقاب كل من يتجاهل المشاركة في مسايرة الرغبات الإدارية.
7- إمعان البعض في توزيع كراتين المواد التموينية على الناخبين، لحثهم على انتخاب مرشح بعينه، ويحدث ذلك على وجه الخصوص في الانتخابات البرلمانية، وهنا يتشابه المرشح الإخواني (مدعى المبادئ والمثل) مع المرشح المدني في اتباع هذا الأسلوب.
8- حشد الناخبين يوم الانتخاب في وسائل النقل، بغرض الذهاب لمقرات الاقتراع، وذلك بتجميعهم من مقرات أعمالهم من المؤسسات العامة.
9- إعلان رؤساء المصالح والمؤسسات العامة، وبعض المؤسسات الخاصة، في وسائل الإعلام المختلفة عن دعمهم الكامل للرئيس المرشح في الانتخابات الرئاسية، أو للحزب الذي تدعمه السلطة في الانتخابات البرلمانية، وكل ذلك يأتي في إطار الرغبة في نيل المكاسب الشخصية متعددة الأشكال، أو تسديد الفواتير القديمة بين الطرفين.
أحد الحلول الحاسمة لقضية الضمانات
كل هذه الوسائل، ووسائل أخرى، تبرز إمعان الإدارة في عدم العدالة والتكافؤ بين المرشحين، فهي تخل بأبسط قواعد الضمانات الخاصة بعقد انتخابات حرة ونزيهة، وهي كما تبين إجراءات تظهر واضحة للعيان، رغم صعوبة إثبات بعضها. من هنا تبرز الحاجة الماسة؛ لتشكيل لجان مستقلة لضبط خروقات الحملات الانتخابية، خاصة المخلة بمبدأ تكافؤ الفرص. وهي لجان يقترح أن تشكل من مؤسسات المجتمع المدني الدفاعية، وخبراء الدعاية والإعلان، وأساتذة الإعلام والعلوم السياسية والقانون. فمن خلال تلك الوسيلة الرقابية التي تتناول الانتخابات قبل فتح باب الترشيح لها، وحتى إعلان النتائج، مرورًا بالحملة الانتخابية، يمكن الوقوف في وجه العنصر الأهم الخارق لمبدأ تكافؤ الفرص، خاصة لو قامت تلك اللجان المستقلة بنشر تقارير أسبوعية، وربما يومية، موثقة عن الخروقات التي تضرب ضمانات النزاهة في مقتل. يترافق ذلك مع ضمانة أخرى مهمة، وهي كفالة حرية التعبير من خلال الإفراج عن سجناء الرأي، وتقرير تشريعات تحد من الحبس الاحتياطي، ورفع قرارات حجب المواقع الإلكترونية. ولعل مردود كل ذلك هو دعم المشاركة ترشيحًا وانتخابًا، ودعم مصداقية الانتخابات في الداخل والخارج.