التنافس بين الولايات المتحدة، والدول التي تهدد الهيمنة الأحادية لواشنطن على الساحة الدولية، وخاصة الصين انعكس بشكل واضح على أمن منطقة الشرق الأوسط. صعود الصين كقوة تهدد الأحادية القطبية للساحة الدولية، حث الولايات المتحدة على إعادة توجيه مواردها عن طريق التراجع في الشرق الأوسط، والاتجاه نحو آسيا؛ لوقف نفوذ الصين المتصاعد.
رأت دول الخليج في تراجع اهتمام واشنطن بأمن الشرق الأوسط خطرا وجوديا على أمنهم. ودفعت تلك الآثار الأمنية في المنطقة الناتجة عن صراع القوى العظمى، السعودية والإمارات؛ لتطوير علاقاتهم مع الدول المنافسة للولايات المتحدة، وأهمها الصين من أجل حماية أمنهم من التهديدات المحتملة القادمة من إيران. وفي هذا السياق فبعد أن كانت العلاقات الخليجية مع دول مثل، الصين وروسيا علاقات اقتصادية بشكل أساسي، أصبح لتلك العلاقات الآن أبعاد أمنية ملحوظة تؤثر على توازنات الأمن الإقليمي.
الاتجاه الخليجي للصين: من النفط إلى السلاح
من المحطات الهامة في العلاقات السعودية-الصينية التي وضحت دفء التقارب بين البلدين، هو زيارة الرئيس الصيني للسعودية في 2022. ولقد استقبلت الرياض الرئيس الصيني بحفاوة بالغة. ولكن هذه الزيارة أيضا أوضحت قلق واشنطن تجاه العلاقات بين رياض وبكين، حيث قال المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي جون كيربي وقتها، بأن الولايات المتحدة مدركة لمحاولات الصين لمد نفوذها في منطقة الشرق الأوسط، وشدد على أن الصين لا تراعي المحافظة على نظام دولي يرتكز على القواعد.
مثلت المصالح المشتركة بين بكين والخليج وقودا للتعاون بين الصين، ودول مجلس التعاون الخليجي. يجادل جوناثان فولتون في دراسة عن العلاقات السعودية-الصينية، بأن التعاون بين الصين والدول العربية يمكن فهمه من خلال نمط 1+2+3 الذي تمت الإشارة إليه في عدة خطابات، ووثائق رسمية. الرقم 1 من هذا النمط يمثل الطاقة، لأن مسألة الطاقة والنفط تحتل المرتبة الأولى في أولويات هذا التعاون. أما الرقم 2 يشير إلى البنية التحتية والتجارة والاستثمار. وأخيرا الرقم 3 يمثل الطاقة النووية والأقمار الصناعية والطاقة المتجددة.
وبالفعل احتياج بكين للنفط، جعل دول الخليج شريكا محوريا للصين؛ لتحقيق مصالحها في مجال الطاقة. يلاحظ جوزيف ويبستر، وجوز بيلايو، بأن النفط الخليجي من ركائز أمن الطاقة الصيني، حيث أنه في 2022، مثلت واردات الصين من دول مجلس التعاون الخليجي نسبة 41% من إجمالي واردات الصين من النفط، وأكبر ثلاث دول مصدرة هي: السعودية والإمارات وعمان، كما أنه تم التوسع في الاستثمارات المشتركة في صناعات البترول مثل، استثمار الصين 10 مليارات دولار في مشاريع في مصفاة ينبع، وتطوير الصين مدينة صناعية بالإمارات بقيمة 10 مليارات دولار. بالإضافة إلى أن السعودية استحوذت على 10% في شركة نفط صينية، وتعاونت أرامكو السعودية مع شركات صينية في بناء مجمع؛ لتكرير البترول والبتروكيماويات في الصين. هذا التعاون تزامن مع انخفاض حاد في واردات الولايات المتحدة من نفط دول مجلس التعاون الخليجي؛ بسبب زيادة إنتاج الولايات المتحدة للنفط الخفيف. ولذلك يقول ويبستر وبيلايو، إن اعتماد الصين على نفط المنطقة بهذا الشكل الكبير جعلها المستورد الرئيسي للنفط من دول مجلس التعاون الخليجي، هذ بدوره جعل الصين شريكا اقتصاديا هاما لدول الخليج، ولذلك أصبح تأمين امدادات النفط من أولويات الصين.
العلاقات الصينية – الخليجية شملت أيضا مجال السلاح. السعودية والامارات اتجهوا للصين؛ لشراء الأسلحة، خاصة الطائرات دون طيار، وهذا يرجع لعدم وضع الصين أي اشتراطات تذكر حول شراء الطائرات الصينية واستخدامها – على عكس الولايات المتحدة التي تضع شروطا صارمة- خاصة أن الولايات المتحدة رفضت بيع طائرات في أوقات سابقة لدول في المنطقة منها، الإمارات والسعودية، بالإضافة إلى أن الطائرات الصينية سعرها منخفض مقارنة بالأسلحة الأمريكية. تعليق الرئيس الأمريكي جو بايدن أيضا لصفقة بيع طائرات F-35 للإمارات، كذلك ما حفز هذا التوجه نحو الصين بشأن الصفقات الهامة، هو الإعلان في 2017 عن صفقة ضخمة تتضمن شراء السعودية 300 طائرة دون طيار من طراز وينج لونج 2. وهذا العام تم الإعلان عن اتمام صفقة بين الإمارات والصين؛ لبيع طائرات تدريب قتالية صينية من طراز L-15.
ولقد لعبت الطائرات الصينية دورا في حروب الإمارات والسعودية. لقد استخدمت السعودية والإمارات الطائرات الصينية في حربهم على اليمن، كما استخدمتها الإمارات في ليبيا. على الرغم من أن تلك الأسلحة الصينية ليس بمقدورها استبدال الأسلحة الدفاعية الأمريكية المتطورة التي تعتمد عليها دول الخليج، ولكن ازدياد مبيعات السلاح الصيني للخليج أثار حفيظة واشنطن، مما جعل المسئولين الأمريكيين يحذرون دول الخليج من التوسع بشراء الأسلحة الصينية، وشدد مسئولون عسكريون أمريكيون على أنه ليس بالإمكان دمج الأسلحة الصينية مع النظم، والشبكات الدفاعية الأمريكية في المنطقة.
مشاريع عسكرية ونووية
تلك العلاقة الخليجية – الصينية توسعت الى الإنتاج المشترك للسلاح والتعاون العسكري. أعلنت شركات سعودية، وصينية توقيع اتفاق مشترك لصناعة طائرات عسكرية دون طيار في السعودية. بالإضافة إلى أن السعودية لم تكن تنتج صواريخ باليستية سابقا، ولذلك كانت تشتري من الصين صواريخ باليستية، ولكن في العام 2021 حدث تطور هام، حيث كشفت صور للأقمار الصناعية بأن السعودية بدأت في تصنيع صواريخ باليستية في السعودية، وأشارت تقارير استخباراتية أمريكية بأن تطوير الصواريخ يتم بمساعدة الصين. أما بالنسبة للإمارات، فلقد اتفقت مع الصين لإجراء تدريبات عسكرية مشتركة. ولكن تظل الواقعة الأكثر لفتا للنظر هي ظهور تقارير حول قيام الصين بتشييد قاعدة عسكرية في الإمارات. ولكن قامت الإمارات لاحقا بتعليق المشروع بسبب غضب واشنطن. إلا أن تقرير للواشنطن بوست، هذا العام أشار إلى أن الصين عادت لاستكمال القاعدة العسكرية في الإمارات. استكمال بناء القاعدة العسكرية الصينية في الإمارات أعاد إثارة قلق المسئولين في البيت الأبيض مجددا. بالإضافة إلى ذلك، ظهرت أيضا مؤشرات لبداية تعاون عسكري في مجال الأقمار الصناعية، حيث وقعت وزارة الدفاع السعودية مع الصين مذكرة تفاهم في 2019، للتعاون في استخدام نظام بايدو للملاحة بالأقمار الاصطناعية.
تسعى الرياض؛ لانشاء مشروع نووى سلمي في إطار خطتها؛ لتغطية احتياجاتها من الكهرباء مع تقليل اعتمادها على النفط. في سبيل تطوير هذا البرنامج النووي، لجأت السعودية للتعاون مع الصين. ظهرت تقارير في 2022 لنيويورك تايمز، ووال ستريت جورنال، بأن مسئولين أمريكيين يشعرون بالقلق من التعاون الصيني – السعودي في مجال الطاقة النووية، بالإضافة إلى قلق الاستخبارات الامريكية من إمكانية تطوير الرياض لأسلحة نووية لاحقا، ولقد أشار تقرير لوال ستريت جورنال، إلى أن الرياض بالفعل تبني مع الصين منشأة؛ لاستخراج اليورانيوم في مدينة العلا. الأمارات أيضا بدأت في التعاون مع الصين في هذه المجالات النووية. لقد وقعت مؤسسة الإمارات للطاقة النووية مذكرات تفاهم مع مؤسسات صينية؛ لتطوير مشاريع الطاقة النووية السلمية في الإمارات.
الرؤية الصينية لأمن الشرق الأوسط
علاقات الصين مع الخليج هي جزء من رؤية أوسع للصين حول أمن المنطقة. يجادل توفيا جيرينج، بأن الصين أصبحت أكثر اهتماما بالتدخل في أمن الشرق الأوسط، وتسعى لتحقيق رؤيتها لمعمار أمني جديد في المنطقة، يعتمد على مفهوم الأمن المشترك. تحاول الصين عرض رؤية لأمن الشرق الأوسط، يختلف عن منظور الولايات المتحدة. هذا المنظور انعكس في تصريحات وزير الخارجية الصينية بقوله، إن هناك ترابطا وثيقا بين دول الشرق الأوسط والقضايا المختلفة في المنطقة، ولذلك يجب التعامل مع المنطقة بشكل منهجي، حيث إنه من الخطأ أن تعطي دولة في المنطقة الأولوية لأمنها دون الوضع في الاعتبار أمن الدول المجاورة. ولقد صرح وزير الخارجية مسبقا، بأنه لا يوجد فراغ أمني، وأن دول المنطقة يجب أن يرسموا أمن المنطقة بأنفسهم. ولكن يجادل جيرينج، بأنه على الرغم من أن التدخلات الصينية تهدد هيمنة الولايات المتحدة في الإقليم، ولكن الصين لا تزال غير قادرة على استبدال الشبكات الأمنية للولايات المتحدة في المنطقة، كما تظل رؤية بكين غير مكتملة ولا تمتلك حلا لأزمة أمن دول الخليج. كما يقول عماد حرب، إن الصين لن تقدم مظلة أمنية، وليست مستعدة للانخراط بشكل عميق في الصراع الإيراني – الخليجي.
ولكن على الرغم من هذا تستمر تدخلات الصين في أمن الشرق الأوسط بالازدياد والتطور، ومعها تتغير أشكال العلاقات القديمة في المنطقة. لقد قامت الصين برعاية اتفاق بين إيران والسعودية؛ لعودة العلاقات الدبلوماسية بعد انقطاع طويل. لاحقا تم اختيار الصين؛ لتصبح مكان اجتماع وزير الخارجية السعودي مع نظيرة الإيراني في أول لقاء رسمي عقب إبرام الاتفاق. في العام الجاري أيضا، وافق مجلس الوزراء السعودي على انضمام الرياض لمنظمة شنغهاي للتعاون بصفة شريك حوار، وهي منظمة سياسية واقتصادية وأمنية بقيادة الصين. بجانب الصين، تجمع المنظمة عدة دول أخرى مثل، روسيا وإيران.
الخليج لم ينسَ روسيا
بكين ليست القوة العظمى المعادية للولايات المتحدة الوحيدة التي تقربت معها دول الخليج. لقد رأت دول الخليج، بأن التقارب مع موسكو سيكون له فوائده أيضا. الإمارات كانت حريصة على إظهار موقف حيادي تجاه الغزو الروسي لأوكرانيا، فامتنعت عن التصويت على قرار لمجلس الأمن يدين الغزو الروسي. حاول المسئولون في الولايات المتحدة إقناع الإمارات بعزل روسيا (بجانب تقليص العلاقات العسكرية مع الصين) ولكن لم يحقق البيت الأبيض نتائج تذكر. كشفت وثيقة أمريكية مسربة، بأن الإمارات وافقت على التعاون مع الاستخبارات الروسية؛ للعمل معا ضد الاستخبارات في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. بالإضافة إلى أن إحدى تقارير البنتاجون توصلت إلى أن الإمارات تمول مجموعة فاجنر في ليبيا. وعلى الرغم من وجود عقوبات ضد روسيا بسبب غزو أوكرانيا، قامت موسكو بعرض أسلحتها للبيع في معرض للسلاح بأبو ظبي. السعودية أيضا اتفقت مع روسيا؛ لتخفيض إنتاج النفط، مما أغضب بايدن وتوعد الرياض بعواقب. ولكن لم يقم بايدن باتخاذ خطوات يعاقب بها السعودية على قرارها. وهذا يأتي في سياق إعادة تقييم البيت الأبيض العلاقات مع الرياض عقب التوترات السابقة، حيث إن المسئولين الأمريكيين أصبحوا يرون، بأن الخلافات مع الرياض أضرت بالمصالح الأمنية للولايات المتحدة. من الوقائع الهامة أيضا التي توضح علاقة الرياض مع موسكو، هو تدخل السعودية في الوساطة؛ لتأمين خروج أسرى أجانب في أوكرانيا وتبادل أسرى بين أوكرانيا وروسيا.
الاتجاه للشرق للعودة للغرب
التحولات على الساحة الدولية دفعت دول الخليج لمراجعة علاقاتها، وترتيباتها الأمنية السابقة. في السابق، كانت العلاقات الخليجية مع الصين وروسيا محدودة في المجالات الاقتصادية، ولكن التقارب الحالي يشمل أيضا الجوانب الأمنية. هذا التعاون أعطى الفرصة لخصوم الولايات المتحدة، الصين بشكل خاص، للتدخل في بناء الشرق الأوسط الأمني والتأثير فيه. تقارب الخليج مع دول منافسة للولايات المتحدة حركته الرغبة لملء الفراغ الذي تركته واشنطن في المنطقة، ومحاولة الخليج للحد من الاعتماد الأمني المطلق على الولايات المتحدة. ولكن على الرغم من ذلك تدرك دول الخليج، بأنه لا بديل عن الولايات المتحدة لحماية أمنهم. فاعتماد الخليج الأمني على واشنطن متجذر، ولا يمكن فكه بسهولة، كما أن الصين وروسيا لن يقدموا المظلة التي قدمتها واشنطن للخليج، منذ عقود طويلة. ولذلك يستمر المسئولون الخليجيون بمطالبة واشنطن؛ للعودة للتدخل بشكل حازم مجددا في حماية أمن الخليج، إما في تصريحات معلنة وإما خلال مفاوضات غير معلنة. في المفاوضات الجارية حاليا بين الرياض وواشنطن حول اتفاقية لتطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل، اشترطت الرياض أن تقوم الولايات المتحدة بتقديم التزامات لحماية أمن السعودية، بينما طالبت واشنطن السعودية بوضع حدود لعلاقة الرياض مع الصين. ولذلك في هذا الإطار تتضح الأهمية السياسية لمناورات الخليج مع الدول العظمى. فتقارب الخليج مع خصوم الولايات المتحدة يمثل ورقة تستخدمها الدول الخليجية؛ للضغط على الولايات المتحدة من أجل أن تستمر واشنطن بالالتزام بدورها الأمني في المنطقة.