كانت بعض الصحف الغربية قد أشارت قبل أيامٍ، من افتتاح قمة تكتل البريكس الأخيرة بجنوب إفريقيا، إلى أن مصاعب جمة تهدد القمة، وتنبأت بفشلها، بينما رددت بعض الصحف الغربية الأخرى، ما كان -وما زال- يُتَدَاول في أروقة صنع القرار الغربية من تشكيك، وتهوين لنتائج القمة، لدرجة أن صحيفة بريطانية رصينة راحت في افتتاحيتها، تردد إشاعات، أحاطت بتغيب الرئيس الصيني بشكلٍ غير متوقع عن خطاب، كان مُقرَرًا له إلقاؤهُ بفعالية افتتاح القمة يوم الثلاثاء، لكن أتى الرجل في ختام القمة؛ ليصفها بأنها “حدث تاريخي”. كان من أهم نتائج القمة أنه قد تم التوافق على معايير؛ لتوسيع العضوية، انطبقت على ست دول أخرى، بخلاف البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا، وهي: مصر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، والأرجنتين وإثيوبيا وإيران، بالإضافة إلى تأكيدات روتينية من قبيل البحث عن حلول اقتصادية عادلة، وضرورة حل الأزمات الدولية بشكلٍ سلمي، والاستمرار في توسيع العضوية. إلا أن واحدًا من أهم التأكيدات كان قد أتى في كلمة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين؛ بشأن أهمية بحث التعامل التجاري بين الدول الأعضاء بعُملة “مشتركة”، بالإضافة إلى العملات المحلية للدول الأعضاء.

كان كاتب هذه السطور واحدًا من أوائل من نادوا بضرورة انخراط مصر في التجمعات الاقتصادية الدولية، وعلى وجه التحديد تكتل بريكس الذي لن استطرد في بيان مزاياه الاقتصادية، لسابقِ ما أبديته من رأي في مقالاتٍ وفعالياتٍ، شاركت بها خلال السنوات الماضية، ولأن كثيرًا من الأصدقاء والزملاء قد قاموا بعرض تلك المزايا بالتفصيل المُستَحَق، إثر إعلان قبول عضوية مصر يوم الخميس الماضي. سيقتصر مقالي هذا على محاولةٍ متواضعةٍ؛ لتقييمِ حدثٍ بأهمية ما جرى في جوهانسبرج بشكل لا تحكمه نوازع عاطفية، ولا مجال فيه للمزح في وقت الجد، راجيًا أن يكون تقييمًا موضوعيًا وعلميًا، يقوم على تقدير للمتغيرات الجيو سياسية بالعالم، وفهم لطبيعة دور الدولة، ومعانٍ مكاسبها على الأمدية القصيرة والمتوسطة والطويلة.

فيما يتعلق بالمتغيرات الجيو سياسية، فالصين باعتبارها العضو الأهم بالتكتل، قد صارت في الآونة الأخيرة تلعب دورًا بالغ التأثير، في العالم برمته للدرجة التي اعتبرتها الولايات المتحدة بمثابة المنافس الوحيد لها، وفقًا لاستراتيجية الأمن القومي المعروفة باسم استراتيجية “بايدن- هاريس” التي صدرت في العام الماضي. وها هي روسيا ما زالت تفعل ما تشاء عسكريًا بتطوير غزوها لأوكرانيا، واقتصاديًا بالتحكم في مصائر دول أوروبا من جهة الطاقة، ودول الجنوب من جهة الغذاء. وها هي الهند وقد صارت تتنافس اقتصاديًا على مراتب تعلو على دولة كبريطانيا، قد أرسلت مركبتها الفضائية بسلام للقطب الجنوبي غير المُكتشف من القمر. وها هي البرازيل قد أعادت الساحر المُخَلِص “لولا دا سيلفا” إلى مقعده بالقصر الرئاسي حامِلًا خططًا طموحة؛ لإعادة البناء التي سبق، وأن مارس خبراتها من قبل. وها هي جنوب إفريقيا تسعى، رغم ثقل ديونها الخارجية، وأوضاعها الاقتصادية الصعبة، لاستعادة التقدم بشكلٍ لا تمر حلوله عبر بوابة البيت الأبيض.

كانت الرسالة سياسية بامتياز، مُلَخَصُها أن لدى مؤسسي بريكس خياراتهم وحلولهم الخاصة، كما أن لديهم من المقومات والمُقدرات الطبيعية والبشرية والتقنية ما يؤهلهم؛ لإنجاز تلك الخيارات، وهذه الحلول باستقلالٍ تام. من زاوية أخرى، كان الحرص على ضم الأعضاء الجدد مبنيًا على اعتبارات المتغيرات الجيو سياسية بالعالم، فالدولة المصرية لا يمكن الاستغناء عنها في تحالفٍ كهذا بحُكم التاريخ، والجغرافيا والفعل المُباشر في التأثير بالعالم سياسيًا واجتماعيًا، رغم الصعوبات الاقتصادية الهائلة، ولأن احتمالات توجيه استثمارات هائلة بمصر، هي مسألة واعدة، وتحمل مغريات جذب شديد، والمملكة السعودية قد صارت تلعب دورًا إقليميًا هامًا ،تخرج بموجبه تدريجيًا من تحت جناح الولايات المتحدة بِحُكم سيطرتها على الجانب الأكبر من احتياطيات الطاقة بالمنطقة، وبرسمِ محاولاتها الجادة للانعتاق وطموحات حاكِمها المشروعة للخروج من شرنقة الماضي بكل ملامحه الاقتصادية، والسياسية والاجتماعية، وإيران قد صارت تجمع بين يديها أوراق ضغط هائلة، لا تقتصر على الغاز والنفط والتفوق النووي النسبي، لكنها تمتد إلى تنامي نفوذها بمناطق مُلتهبة من العالم. الأرجنتين وإثيوبيا هما، أضعف الحلقات في تكتل البريكس، لكن ربما كان قرار ضمهما خاضعًا، لاعتبارات تتعلق بالحيلولة، دون انحيازهما لطرف الولايات المتحدة في صراع المنافسة مع الصين.

تقوم الدولة في أغلب الأدبيات السياسية على ثلاثة أركان: إقليمٌ له حدود معينة، ومجتمعٌ يمثل شعبًا يعيش بين حدود هذا الإقليم، وأجهزةٌ تدبر شؤون هذا المجتمع، سواء كانت تنفيذية أم تشريعية أم قضائية أم من مؤسسات العمل المدني، بمفهومه الواسع. وبناءً عليه، فقد تتفق أو تختلف الشعوب مع سياسات أجهزتها التنفيذية، لكنها تتعامل مع ما يمثل مصالح الدولة بمقاييس مختلفة تمامًا. وأرى في هذا الشأن، أن نظرتنا لانضمام الدولة المصرية لتكتل البريكس، لا يجوز إلا أن تكون في إطار المصلحة العليا للدولة، وفقًا للمفهوم الذي ذكرته أعلاه، بعيدًا عن أية خلافاتٍ في السياسات المُطبقة حتى وإن كانت مشروعة. ولما كانت شئون العالم المُضطربة في هذه الفترة لا يمكن أن تقاس بشكلٍ حَدّىٍ، أي أنه لم يعد هناك محل على الإطلاق للألوان الصافية، سواء الأبيض أو الأسود، إذ ساد الرمادي بكافة درجاته، ولما كانت التحالفات الاستراتيجية الدائمة قد اختفت من دنيا السياسة، وحل محلها تحالفات تكتيكية مبنية على مصالح، ترتبط بأهداف مرحلية تتغير في طبيعتها، ومن ثم في أنماط وأساليب التعاطي معها، فقد صار على أي ممارس للسياسة في مثل هذه الظروف، أن يوازِن بين الأمور بميزانٍ بالغٍ الحساسية، يأخذ بالاعتبار التأثير المُتَبادَل بين ما هو سياسي، وما هو اقتصادي؛ حيث يستحيل الفصل بينهما، آخذاً بالاعتبار فلسفة إدارة المخاطر عميقة الدلالة كأساس استراتيجي؛ لبناء إطارٍ عامٍ للتعامل مع المخاطر المحيطة، والتي تم التعبير عنها بعبارة: “ينبغي أن ننظر للمخاطر، باعتبارها فرصًا يمكن اقتناصها لا باعتبارها تهديدات” (We must view risks as opportunities not as threats).

في ضوء ما سبق، يمكنني التأكيد على المزايا الاقتصادية المباشرة لانضمام مصر لتكتل البريكس، والتي لا يختلف أحد على أن تحققها يتوقف على ضرورة أن تكون هناك خطط تنفيذية مدروسة، وبالغة الدقة؛ لتحقيقها فعليًا، وهو أمر يقتضي تطويرًا للصناعة والزراعة في إطار رؤية عامة؛ لتحويل النمط الاقتصادي من كونه استهلاكيًا-ريعيًا إلى أن يصبح إنتاجيًا- تنمويًا، استخدامًا لما سيتم ضخه من استثمارات أعضاء التكتل الجديد، والتي ينبغي عرض فرصها بشكلٍ احترافي عالي الجودة، أقترح أن يتم بالتعاون مع بنوك الاستثمار الوطنية التي تدرك متطلبات المستثمرين من دول البريكس، وغيرها تمام الإدراك، وتعرف كيفية التعامل معهم بما يُعَظِم من حجم الاستثمار الأجنبي المباشر، وخاصة في مجالات الصناعات الهامة التي اتُفِق على توطينها كالتكنولوجيا، وصناعة السيارات على سبيل المثال لا الحصر.

من ناحية أخرى، ربما يساهم انضمام مصر لتكتل البريكس في تكوين جبهة تحالف ضخمة لأعضائه؛ لتسوية ديونهم السيادية – بينيًا وخارجيًا- بشكل لا يهبط بالتصنيف الائتماني لأي منهم، حيث للتفاوض الجبهوي ثِقَلٌ مختلف. من زاوية أخرى، وحتى لا نحيد عن جادة الموضوعية، وحتى لا تختلط الأحلام القابلة للتحقق بالأمنيات الطوباوية، فإن الإشارة تجدر إلى الصعوبة العملية، لما طرحه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين؛ بشأن تسوية التبادلات التجارية بين أعضاء تكتل البريكس من خلال عملة موحدة أو بالعملات المحلية. فالدولار الأمريكي سيبقى -لمدى لا أظنه قصيرًا- عُملةً للتسويات الدولية، وسيظل نظام السويفت هو النظام المعمول به لنفس الفترة، ما دامت العلاقة الأمريكية الأوروبية والعلاقات الأمريكية الإسرائيلية قائمة، دون توترات حادة، وما دام وهم العملات الرقمية وعشوائيات الأوفشور المرتبطين بالنظام المالي الأمريكي قائمَين، حيث يتم غسل أموال كل الأعمال القذرة من إرهاب ومخدرات ودعارة، عبر هذا الوهم وتلك العشوائيات بالدولار الأمريكي. الأمر إذن يحتاج إلى نظام جديد، يعادل السويفت، يجب أن يبدأ العمل فيه من الآن، إن كان الأمر غير طوباوي، بحيث يتم تجهيز البنى التحتية ببنوك الدول الأعضاء بتكتل البريكس؛ كي يتم التعامل بينها بنفس مستوى السويفت، وهو أمر سيستغرق وقتًا، ليس بالقصير، إن بدأت الدول الأعضاء فيه من الآن. أما فيما يتعلق بتسوية المعاملات بالعملات المحلية، فإن الأمر يقتضي عمليًا قيام الدول الأعضاء تكوين احتياطيات بالعملات المختلفة، وفقًا لأحجام التبادلات التجارية، حتى يتسنى لها تسوية تلك المعاملات، وهو أمر يقتضي أيضًا وقتًا، ليس بالقصير وتفاهمات، وعقود معقدة نوعًا ما، لكنها غير عصية على التنفيذ.

مرحبًا بكم في العالم الجديد.