مع تحفظي على استخدام لفظ “المعارضة” – الذي لم أعثر له على مصادقات -أي انطباقا في الواقع المصري، وإنما مجرد ظلال؛ فلا أتوقع منها فوزا. منذ نشأة الدولة الحديثة في مصر مع محمد علي (١٨٠٥- ١٨٤٠)، لم يتغير حاكم بانتخابات؛ إنما بالموت أولا: وبتدخل أجنبي -مثل الخديوي اسماعيل، أو انتفاضة شعبية -كما في يناير ٢٠١١، أو انقلابات – وقد شهدنا منها الكثير على مدار العقود الماضية.

 من المؤكد أن نتيجة التصويت ليس لغزا؛ ما هو أقل وضوحًا هو تداعيات ذلك التصويت على ثلاث قضايا:

١- قدرة المعارضة على تحدي سردية النظام، وبداية بناء سردية بديلة.

٢- استعادة جزئية للسياسة في بر مصر بعد تصحيرها.

٣- استيعاب جزء من الغضب الشعبي من خلال قنوات سياسية؛ تضغط على الدولة للسير في الإصلاح الذي يستدمج أولويات الناس لا تحالف الحكم الضيق.

من سردية البطل المخلص إلى سردية وطنية جامعة.

تعمل الأنظمة السياسية بشكل عام لإنتاج سرديات محددة عن السياسات التي تقوم بها، وتسويق هذه السرديات. الأنظمة الديموقراطية أو التي تشهد منافسة سياسية لديها فرص أوسع، وإمكانية لإنتاج سرديات متنافسة أو مُضادة، وفي المقابل، فإن النظم السلطوية يسود فيها سردية وحيدة، يتم الترويج لها والتأكيد عليها باستمرار، وهي عادة لا تتسم بالمرونة، وإنما قد ينشأ من داخلها سرديات فرعية؛ لمواجهة أحداث طارئة أو أزمات كبيرة.

 استندت سردية النظام المصري بعد ٢٠١٣، إلى عدد من السمات -قام الباحث المتميز أحمد محسن 

برصدها وهي:

١ سردية متكاملة مبنية على البطل الذي يحارب الأشرار؛ من أجل حفظ الدولة وإنقاذ الضحايا والأبرياء (المصريين).

٢ الحل الأساسي الذي كان يتم تقديمه في السردية الرئيسية قبل 2020، هو “أصبروا معايا وانتوا هتشوفوا مصر تانية”. بمعنى آخر، أن الوعد بمستقبل أفضل على المستوى الاقتصادي خلال السنوات القليلة القادمة، كان هو المغزى الرئيسي لهذه السردية.

٣ موقع الجيش من السردية: هناك تركيز على استعداد، وجاهزية القوات المسلحة المصرية للتدخل في أي وقت.

٤- هناك تركيز على استعادة قدرات مؤسسات الدولة.

٥- استخدام العامل الديني في تأكيد محتوى السردية، وإضفاء نوع من المباركة الإلهية، أو الإعجازية على الإجراءات والسياسات التي يتم اتخاذها.

٦- مع تصاعد الأزمات؛ تراجع مقدار التفاؤل بالمستقبل، وارتفع التركيز على الأثر السلبي للعوامل الخارجية، ومسؤوليتها عن أية أزمات تحدث. أصبح لوم الآخرين والظروف والعوامل الخارجة ملمحا أساسيا في تبرير عدم تحقق الأهداف.

٧- انغلاق السردية على تحالف الحكم القائم، وعدم انفتاحها على من هم خارجه.

التوجه نحو الحديث مع أفراد ومؤسسات من خارج مؤسسات الدولة الرسمية، لا يعني أن محتوى السردية التي يقدمها النظام كانت أكثر انفتاحاً تجاه المجتمع. فمضمون سردية النظام أثناء الحرب الروسية الاوكرانية احتوى على خطاب تبكيت وتهديد. التبكيت على، أن خروج المواطنين في 2011، هو سبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة حالياً – فبسبب هذه الاحتجاجات تبدلت الأوضاع الاقتصادية للأسوأ.

8- وأخيرا وليس آخرا؛ فقد استمدت السردية كثيرا من شرعيتها من الإنجاز الذي تحقق في مجالات كثيرة.

هناك محاولة للحفاظ على هذه السردية الرئيسية، بلا تغير في حين تظل تظهر من آن لآخر تغييرات طفيفة على هامش هذه السردية أو سرديات صغرى مساندة.

النقاط السابقة تبرز بعضا من ملامح سردية النظام في خصائصها الكلية، ويصبح السؤال الأساسي مدي وعي، وقدرة المعارضة علي تحدي هذه السردية، وتقديم سردية بديلة؟ – خاصة أن الشروط التي أنتجتها وروجت لها قد انتهت، أو على أقل تقدير تراجعت؛ وأقصد بها الخوف من الانزلاق إلى عدم الاستقرار، وغياب الإخوان باعتبارهم “الشيطان الأكبر” الذي يحمله النظام الشر كله، كما ألقت الأزمة الاقتصادية بظلال كثيفة على القبول بها.

في ملامح السردية البديلة يمكن أن نشير إلى التالي:

١- تحميل البطل المخلص مسئولية، ما آلت إليه أوضاع البلد من أزمة اقتصادية، ووهن مصر في محيطها الإقليمي.

٢-سياسة تشاركية تقوم على شراكة حقيقية بين المجتمع، والدولة من ناحية، وتكامل أدوار مؤسسات الدولة من ناحية أخرى -لا تقدم مؤسسات بعينها يطلق عليها سيادية على حساب المؤسسات الأخرى.

٣- تجاوز الاستقطاب الذي ميز السياسة على مدار العقد الماضي؛ فبدون تحقيق حد أدنى من التوافق الوطني، لا يمكن لمصر أن تخرج من أزماتها.

٤- معالجة مأزقنا الوطني شأن داخلي لا خارجي. صحيح أن مصر أكبر من أن تفشل؛ لكنها في نفس الوقت أثقل من أن تعوم إلا بجهد أبنائها.

يجب على المعارضة، أن تسعي لصنع إجماع إيجابي داخل الحياة السياسية المدنية، ليس وفق ما يبتغيه النظام، أن يكون هذا الاجماع حول دور المؤسسات التي يطلق عليها سيادية؛ ولكن حول إعادة توزيع الأدوار بين الدولة بمؤسساتها، والمجتمع من ناحية، وبين مؤسسات الدولة المختلفة من ناحية ثانية، وفي الاقتصاد: بين اقتصاد الدولة والقطاع الخاص.

مع تصاعد الأزمات، غابت النبرة المتفائلة المستعدة؛ لمواجهة الأزمات والصعاب؛ لتحل محلها سرديات أقرب إلى وضع “البطل الذي بلا حيلة” -على حد قول محسن – والذي يبحث عن برامج أو سياسات، يمكن أن تساهم في حل الأزمة، لكنه لا يجدها. أخشى أن نخرج من الانتخابات، فنكون بإزاء دولة ومجتمع ومعارضة ورئاسة بلا حيلة.

تحرير جزئي للمجال السياسي.

أشرت في مقال سابق: انتخابات ٢٠٢٤، وهيكلة المجال السياسي في مصر  

على موقع مصر ٣٦٠، إن هيكلة المجال السياسي تتم في الصراع، والتسويات والحوار الذي يجري بين شبكات المصالح في الاقتصاد، وأخشى ما أخشاه – وربما يكون ذلك صحيحا- أننا نرجع إلى ما يشبه الصراع بين اقتصاد سوق تقوده الدولة في مقابل اقتصاد سوق يقوده القطاع الخاص، بامتداداته الإقليمية والدولية، وهي الصيغة التي حكمت السياسة في العقد الأخير من حكم مبارك (١٩٨١- ٢٠١١).

نحن نحتاج إلى رسم خرائط جديدة، لأنصار كل طرف، وامتداداتهم داخل هياكل الدولة، وعلاقاتهم الداخلية والخارجية. أود أن أشير لعودة بعض الوجوه القديمة في إدارة ملف الخصخصة (محمود محي الدين مثالا)، وبدأت تبرز المصالح المشتركة بين النخبة القديمة والنظام القائم، هل سيكون لذلك انعكاس سياسي في المرحلة القادمة (من حيث تواجد هذه النخبة داخل المسرح السياسي) -سؤال يستحق المتابعة، لكن المحقق هو أن الشبكات القديمة ستلعب دورا هاما في هذه الانتخابات.

أين موقع المعارضة من شبكات المصالح هذه؟ وما موقفهم منها؟ -أسئلة ضروري الإجابة عليها حتى لا تكون -بمشاركتها- وقودا في تنافس لا تملك خيوطه ولا تدري تضاريسه.

ملمح ثاني في استعادة السياسة وهو، أن المعارضة نجحت إلى حد ما في التعبير عن المظالم السياسية من اعتقالات، وغياب للحريات العامة والفردية، لكنها عجزت – حتى الآن- عن التعبير عن المظالم الاجتماعية، والاقتصادية التي يعاني منها قطاع عريض من المواطنين الذين تم استبعادهم تماما من تحالف الحكم في الجمهورية الجديدة. الطبقة الوسطى تم تهميشها، ودفعت أثمانًا باهظة للسياسات الاقتصادية للجمهورية الجديدة، دون أن تجني منها شيئا.

أنشأ النظام بشكل أساسي مساحة، يمكن فيها التعبير عن المظالم السياسية والاجتماعية – وبالتالي استحضار انطباع بوجود مداولات عامة حقيقية – دون تحدي الوضع السياسي الراهن بأي طريقة ذات مغزى. الحوار الوطني ومؤتمرات الشباب، والبرلمانات المتعاقبة مجرد أمثلة على ذلك.

هناك ظاهرة تميز السياسة في بر مصر، وهي أن احتدام الجدل حول موضوع ما، ليس له تأثير علي السياسة المطبقة، إلا فيما ندر، وذلك لضعف الهياكل السياسية القادرة على تحويل الجدل إلى سياسات عامة، وقد يستخدم الجدل العام للتغطية على موضوعات وقضايا أخرى أهم.

هل باتت المعارضة ظاهرة صوتية تظهر في الإعلام والسوشيال ميديا فقط؟

٣-  يرتبط بذلك، أن السياسة وكما أشار هشام سلام – أستاذ العلوم السياسية في جامعة ستانفورد بالولايات المتحدة- في مقاله عن خصائص السياسة في الجمهورية الجديدة.

تتم في القاعات المغلقة المتحكم في أجندتها، والمدعوين لها والكلام المعروض، والمعروف مسبقا نتائجها.

يلاحظ المرء، أنه مع جولات المرشح الرئاسي أحمد الطنطاوي في أحياء القاهرة، ومدن الجمهورية، هناك محاولة لاستعادة السياسة التي ترتبط بالمواطنين العاديين في الحواري والأزقة. قام النظام بالرد، فعقد مؤتمرا بين أهل مطروح، ولكنه يظل نمطا من السياسة المتحكم في طبيعتها.

٤- الاستناد إلى تنظيمات سياسية؛ فلا سياسة من غير تنظيمات سياسية، وهياكل ونخب سياسية حقيقية. التحدي الذي واجه الجميع بعد يناير، وتأكد بعد الانتخابات الرئاسية ٢٠١٢، – كما ظهر مع أبي الفتوح وحمدين صباحي، ومن قبل مع البرادعي في تجربة حزب الدستور- أن هناك فجوة كبيرة بين فائض التسييس، وبين القدرة على تحويله إلى تشكيلات سياسية.

٥- وأخيرا وليس آخرا؛ حرص النظام على اقتلاع الجماهير من السياسة؛ ليحتلها الأمن. تحدي هذه الانتخابات هو عودة قطاعات من الناس إلى السياسة – خاصة الشباب الذين أحبطوا بعد يناير، أو انسحبوا أو تحول الجدد منهم إلى اللامبالاة.

كانت استراتيجية الجمهورية الجديدة هي إبقاء السياسة المدنية ضعيفة، ومجزأة وغير مواتية للعمل الجماعي، فهل تكون الانتخابات القادمة سياسة مضادة لهذه الخصائص؟

الانتخابات وبداية الاصلاح

بحلول أوائل عام 2023، كان النظام قد أهلك الموارد التي يحتاجها الآن؛ لإقامة واجهة مقنعة للسياسات التشاركية؛ للتخفيف من مخاوف شركائه الدوليين وامتصاص السخط الشعبي.

كانت أحد وظائف الحوار الوطني: بالإضافة إلى تحسين الصورة الدولية للنظام؛ احتواء الغضب الشعبي؛ لتصاعد الأزمة الاقتصادية. تحول الحوار الوطني في النهاية إلى امتصاص، واستيعاب نخب انتهت صلاحية معظمها، وتنظيمات سياسية شاخ أغلبها، والأخطر أن غابت عن أجندته أهم وأخطر الموضوعات مثل، السياسة الخارجية والأمن القومي، كما استبقت نتائجه بالسياسات والقرارات – كما كتب د. جوده عبد الخالق -وزير التضامن الاجتماعي سابقا- مرارا وتكرارا.

كيف تعاملت المعارضة مع الحوار الوطني؟ سؤال يستحق المتابعة، لكن نشير سريعا إلى أنها: خرجت منه أكثر انقساما، صحيح أنها انتجت تصورات، ورؤى بديلة للسياسات المطبقة (آفاق الخروج -وهو كتاب أنتجته الحركة المدنية)، لكنها لم تعمل على ترويجه والدعاية له. قدرتها التفاوضية محدودة؛ فلم تستطع أن تطلق سراح عدد معتبر من سجناء الرأي؛ برغم أن هذا كان أحد مبرراتها للالتحاق بالحوار؛ ناهيك عن تحرير، ولو جزئي للمجال السياسي من قبضة الأمن. صحيح أنه جرت استعادة محدودة للجدل العام، ولكن دون تأثير على السياسات المطبقة -كما أشرت.

الانتخابات أطلقت عملية مستمرة ومتصاعدة؛ لاستعادة المسرح السياسي، لكن على ما يبدو فإن الخلاف لا يزال قائما بين أجهزة الدولة على كيفية إدارته؛ وإن اتفقت على استمرار طبيعته السلطوية.

هل يمكن للمعارضة أن تستفيد من هذا التباين؛ لاستعادة بعضا من مقومات المجال السياسي؟

استعادة السياسة تجري من خلال الاقتصاد؛ فلولا الأزمة الاقتصادية -أساسا- لم نكن لنشهد أية مبادرات من طبيعة سياسية. مع تصاعد وتيرة الأزمة الاقتصادية، احتجنا إلى السياسة، لكن القنوات التي يتم من خلالها التعبير عن المظالم الاقتصادية ضعيفة، ومتهالكة ولا تتمتع بالثقة الكافية؛ لذا فإن المخاوف التي تسود بين قطاعات معتبرة من المصريين، وكذا السلطة وبعض قوى المعارضة، هو انزلاق الأوضاع إلى احتجاجات في الشوارع، لا أحد يتحكم فيها أو يحركها، وهو ما لا يتحمله الوضع المصري.

هل يمكن للانتخابات القادمة، أن تكون سبيلا لامتصاص -ولو جزئي- للغضب الشعبي، وصرفه نحو الضغط على الدولة للسير بجدية في مسار الإصلاح؟ -أرجو أن يتحقق ذلك.

أختم فأقول: إن معارضة بلا فئات اجتماعية تمثلها، ولا شبكات مصالح تعبر عنها، ولا كوادر مدربة تقودها، ولا برامج سياسية تقدمها …تصبح صيدا سهلا، وأرضًا خصبة للتوظيف من قبل السلطة في معركتها؛ لتجديد الشرعية التي تآكلت، واستعادة الثقة التي تراجعت.

تظل الانتخابات الرئاسية فرصة للمعارضة – كما هي للحكم. تستطيع ظلال المعارضة -عبر الانتخابات- أن تشرع في السير في طريق طويل؛ لتصبح معارضة حقيقية تملك تنظيمات تساندها، وكوادر تقودها، وتوافقات تبنيها، وسرديات بديلة تتواصل بها مع الناس؛ لتمثلها وتعبر عن مصالحها. بغير ذلك ُربما تجمع مصر بين سردية اللاحيلة

وسردية اللابديل.