توشك الإجراءات الدستورية لانتخابات رئاسة الجمهورية علي البدء مبكرا نسبيا، عما كان يتوقع في بداية هذا العام، و لم تعد المسألة مجرد تكهنات، أو تسريبات، أو حتي تصريحات رسمية، لكنها تدور في إطار التوقعات، وإنما قطع رئيس اللجنة القضائية العليا المختصة بإدارة العملية الانتخابية الشك باليقين، وذلك حين صرح منذ أيام، بأن اللجنة علي وشك البدء في إعداد الاحتياجات الإدارية، واللوجستية لانتخابات رئاسة الجمهورية المقبلة، ولما كانت هذه الدورة من الانتخابات الرئاسية تختلف كثيرا بطبيعة الحال – وكما أشرنا في مقالنا السابق هنا – عن الدورتين السابقتين، حتي وإن كان الرئيس عبد الفتاح السيسي، سيعيد ترشيح نفسه ، فإن علينا أولا: أن نرصد أوجه ذلك الاختلاف، وعلينا ثانيا: أن نستقرأ دلالات، ونتائج ما ظهر من مستجدات على الحياة السياسية المصرية في العام السابق على الاستحقاق الانتخابي الرئاسي، ثم علينا ثالثا: أن نضع هذا كله في سياق التنبؤ بالمستقبل القريب جد، أي البحث عن إجابة أو إجابات عن سؤال ما الذي سيحدث عام ٢٠٣٠؟ حين تنتهي الفترة الرئاسية الجديدة، والتي لا أشك – بصفة شخصية ولو بنسبة ١% – في أنها ستكون للرئيس السيسي، مثله مثل كل الرؤساء الذين سبقوه من المؤسسة العسكرية، وحين ينتهي الحق الدستوري للرجل في إعادة ترشيح نفسه.
في المقال السابق لنا مباشرة هنا قلنا، إن الحياة السياسية المصرية تشهد منذ بعض الوقت، وفي ظل أزمة سياسية اقتصادية اجتماعية شديدة الوطأة، وتخصم بقوة من شعبية النظام الحالي … تشهد أشكالا من الحراك السياسي الجاد، لم تتبلور أصلا في الدورتين السابقتين، هذا الحراك يتعامل مع تلك الانتخابات بوصفها فرصة، إما للتغيير الفوري، أو التغيير طويل النفس، أو الإصلاح، أو المشاركة المؤثرة.
واستطرد ذلك المقال منوها، بأننا نعرف أن النائب السابق أحمد طنطاوي يتحرك الآن ميدانيا؛ لتأكيد ترشحه، ولاستكمال الإجراءات المطلوبة دستوريا لهذا الترشح، وتكتسب حملته زخما ملحوظا، (والجديد هوأنني كمراقب رصدت اعترافات في دوائر ثقافية بنضجه، وتطور أدائه، ودقة تحليله لأزمة الوطن).
كذلك نوه المقال السابق، بأن عددا من أقطاب الحركة المدنية الديمقراطية قد أكدوا في أكثر من مناسبة عزم الحركة الدفع بمرشح؛ لمنافسة الرئيس السيسي (الذي لم يعلن رسميا عزمه الترشح حتي الآن، لكن كل الأطراف تعتبر ترشحه (تحصيل حاصل)، وفي أوضح تعبير عن هذه النية، قال الصديق مدحت الزاهد، إن عدم الدفع بمرشح عن الحركة المدنية هو استسلام مبكر. (أضيف هنا إلى ما ذكر في المقال السابق اجتماع الساحل الشمالي؛ لبحث فكرة تشكيل فريق يمثل المعارضة في الانتخابات المقبلة).
وأعود الي ما ذكر في المقال: فمن جانبه لم يجد الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي، وهو من أركان الحركة المدنية الديمقراطية، ما يمنعه من إبداء استعداده للانخراط بكل الإيجابية في الاستحقاق الانتخابي الرئاسي المقبل، سواء بالدفع بمرشح عن الحزب، أو بتأييد مرشح توافقي، وذلك حال توافر النية، والقرار والسياسات والإجراءات التي تجعل تلك الانتخابات بداية مسار؛ لتحول مدني ديمقراطي في البلاد، وعدد بيان الحزب القرارات والسياسات والإجراءات التي تكفل مناخا صحيا لانتخابات رئاسية تحظي بالمصداقية، ومن ثم تجدد الشرعية، ومنها تصفية حالات السجن والحبس الاحتياطي لأسباب سياسية بالكامل، وغير ذلك من الشروط الجوهرية؛ لإعادة بناء المجال السياسي التعددي التنافسي السلمي، و التي يمكن إجمالها في استعادة هذا المجال برمته من أيدي أجهزة ألأمن، والبيروقراطية الحكومية إلي أيدي المواطنين، والأحزاب والمجالس المنتخبة.
وفي هذا السياق، وبما لا يقل أهمية تأتي مجموعة رسائل الدكتور حسام بدراوي في حديثة الصحفي الأخير، وبغض النظر عن القيمة الذاتية الكبيرة لهذه الرسائل، فإنها فسرت في المجتمع السياسي القاهري، علي أنها جس نبض للأطراف المعنية حول إمكانية ترشح د حسام نفسه للاستحقاق الرئاسي المقبل، ممثلا لجبهة عريضة، تضم تيار الوسط علي اتساعه يمينا ويسارا، وهو بالمناسبة ما يلقي ترحيبا في دوائر عديدة من الحركة المدنية الديمقراطية.
(لايلغي إعلان د/ بدراوي يوم السبت الماضي، أنه لن يترشح لانتخابات الرئاسة، دلالة تصريحاته السابقة التي دعا فيها الرئيس السيسي إلي عدم الترشح، استنادا إلي حيثيات تفصيلية لقيت ترحيب قطاعات واسعة من الرأي العام، ومن القوي السياسية، وهذه الدلالة هي، إنها حلقة مهمة في الحراك السياسي المستجد قياسا إلي الدورتين السابقتين للانتخابات الرئاسية).
بعد رصد المستجدات وبعد الاستشهاد بمقالنا السابق، فإن كل القوى الفاعلة في الحياة السياسية المصرية في الحكم، وفي المعارضة، ومن المستقلين مطالبة بالنظر الي انتخابات الرئاسة المقبلة، بوصفها منافسة مفتوحة تشكل بداية المسار المأمول؛ للتحول الي دولة القانون المدنية الديمقراطية، وليست تحصيل حاصل كما حدث كثيرا من قبل، بحيث يكون المجتمع، والدولة العميقة، والقوى السياسية في حالة استعداد واع، ومبصر لـ عام ٢٠٣٠، وما بعده ولا نفاجأ، بأننا (محلك سر)، أوعدنا إلى الخلف علي طريقة كوريا الشمالية أو سوريا مثلا.
ولما كان ذلك لا يتأتى إلا بالعلنية والثقة المتبادلة، فإنه لا بد من توافرالشروط والحوافزالجوهرية التالية:
أولا: تطبيع الحياة السياسية المصرية: وهو ما أصبح مطلوبا بقوة، وممكنا بلا مخاطرة بعد نجاح الدولة، والمجتمع في القضاء التام علي الإرهاب، وغيره من أشكال العنف السياسي والتحريض عليه، وفي مقدمة متطلبات ذلك التطبيع تصفية أوضاع المسجونين، والمحبوسين احتياطيا، والممنوعين من السفر؛ لأسباب سياسية من غير المدانين، أو المتهمين باستخدام العنف، أو التحريض عليه، وإعادة النص المتعلق بالحبس الاحتياطي في قانون الإجراءات الجنائية إلي ما كان عليه قبل عام ٢٠١٤.
ومن هذه المتطلبات، حرية عمل وحركة الأحزاب السياسية، بما ينهي حصارها داخل مقارها، ويبدد أسباب قلق المواطنين من الانضمام إلي عضويتها، حسب اختيارهم الحر، كما يتطلب تطبيع الحياة السياسية في البلاد رفع الرقابة المفروضة واقعيا، ودون سند من الدستور والقانون علي الصحف ووسائل الإعلام، وإلغاء حالات حجب المواقع الإلكترونية، ونبذ أساليب التدخل الإداري، والأمني في كافة الانتخابات العامة والمحلية والنقابية.
وتعديل قوانين الانتخابات؛ لضمان التمثيل العادل، والمتوازن لكافة القوى المجتمعية، وذلك من خلال إقرار نظام القوائم النسبية.
ثانيا: تفعيل الأدوار الدستورية لكل مؤسسات الدولة، ومن ثم تفعيل أدوات الرقابة والمساءلة البرلمانية، و كذلك إدارة الاختصاص التشريعي لمجلس النواب، والذي هو حق أصيل له بالتفاهم مع السلطة التنفيذية، وليس خضوعا لتوجيهاتها، ويتلو ذلك، ولا يقل أهمية عنه دعم استقلال القضاء الذي نعتقد، أن القضاءعلى الإرهاب، وإلغاء الحبس الاحتياطي يرفعان عن كاهله أعباء ضخمة.
ثالثا: فيما يتعلق بإدارة الانتخابات الرئاسية المقبلة، فإذا كان مطلوبا من أجهزة، ومؤسسات الدولة، عدم الانحياز للرئيس عبد الفتاح السيسي، إذا قرر الترشح، فإن عليها كذلك عدم التعامل مع أي منافسيه المحتملين معاملة تفضيلية علي حساب المنافسين الآخرين، بحيث يترك لمن يريد الترشح حرية الحركة، والسعي لجمع التوكيلات، والاتصال بالناخبين والتغطية الإعلامية كل على قدر طاقته، وثقة الجمهور فيه، بمعني، أنه ليس مطلوبا من الأجهزة مساعدة أحد من المرشحين، ولا عرقلة أحد منهم. في حين أن العكس سيوحي، بأن المنافسة غير جادة، وأنها سابقة التجهيز، بما يصادر كل أمل في اعتبار هذه الانتخابات بداية المسار المأمول؛ للتحول إلى دولة القانون، والمواطنة المدنية الديمقراطية في مصر.
رابعا: بناء الثقة فيما بعد الانتخابات الرئاسية: ولهذا الغرض يجب منذ الآن
الالتزام بعدم تغيير الدستور، لفتح مدد الرئاسة مرة أخرى، وتأسيس مفوضية مكافحة التمييز، وتخويلها صلاحيات كاملة للقضاء علي كافة إشكال التمييز، وعدم المساواة بين المصريين ، و الالتزام الصارم من كافة الأطراف بالاستمرار في مكافحة الإرهاب، والتطرف، ورفض توظيف الدين في العمل السياسي، وإقرار الحق في تأسيس، وإشهار التنظيمات النقابية المستقلة، ثم وهذا هو واجب الوقت التوافق على أن أي إصلاح اقتصادي، أو جهد تنموي، إنما يهدفان إلي تحسين مستوى معيشة المصريين، يوما وراء يوم، وعاما وراء عام، ولذا فإنهم يستمسكون بتعهد الرئيس في برج العرب، منذ بعض الوقت بعدم إطلاق سعر صرف الجنيه المصري، مقابل العملات الأجنبية، تفاديا لموجة غلاء جديدة فادحة الكلفة الاجتماعية، والسياسية في أسعار السلع والخدمات، مع تطبيق الترشيد اللازم للإنفاق، ودعم الإنتاج والتصدير؛ لدعم عملتنا الوطنية، ومن ثم دعم مستوى معيشة المواطنين كافة.
أعرف أن كثيرا من القراء، ومن الزملاء في المعارضة، وزملاء المهنة، قد لا يعجبهم هذا التحليل، خاصة التركيز علي عام ٢٠٣٠، وما بعده، وذلك لأنهم سيرون في ذلك خذلانا، لأي مرشح جاد لمنافسة الرئيس السيسي في الانتخابات التي نقف جميعا على أعتابها، وردي هو، أن أي مرشح جاد، وكل مرشح جاد، هو علامة كبيرة، وحلقة مهمة، وقوة دفع هائلة نحو مستقبل ينتظرنا، وننتظره، منذ وقت طال أكثر من اللازم، حتي وإن لم يفز هذا المرشح هذه المرة، إما من خلال نظام مدني ديمقراطي كامل الأوصاف، أو من خلال فترة انتقالية، تقوم علي الحل الوسط التاريخي بين القوي المدنية، وبين المؤسسة العسكرية الأمنية، بحيث يختص المدنيون المنتخبون انتخابا حرا، بالشأن الداخلي بكل مكوناته الاقتصادية، والسياسية والاجتماعية والثقافية، بلا أي تدخل، في حين تبقي قضايا الأمن القومي، و السياسات الإقليمية والدولية الكبرى، اختصاصا مشتركا للبرلمان والحكومة المنتخبة، والمجلس الأعلى للدفاع الوطني، أو المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وفق صيغة دستورية معلنة ومقننة، علي غرار الدول التي مرت من قبلنا بمثل هذه المراحل الانتقالية، خاصة تركيا في تجربة الجنرال كنعان إيفرين، وحكومة تورجوت أوزال.
ومع ذلك، لا أستطيع اخفاء تشاؤمي من طريقة الاستقبال المتجهمة، والمتهجمة من جانب المحسوبين على النظام لكل تلك المبادرات، نحو حراك سياسي في البلاد، والأكثر مدعاة للتشاؤم هو حيثياتهم، ومنهجهم ومفرداتهم في تزكية الرئيس السيسي، والدعوة إلي انتخابه، فبدلا من الاعتراف بالأخطاء، وإثبات أن هناك حلول، يحدثوننا عن الرئيس الذي لا ينام ، والرئيس الذي تريد كل القوى المعادية إزاحته، وكأن مصر والعالم لم يتغيرا، منذ ستينيات القرن الماضي، لكن من الإنصاف والموضوعية، أن ننتظر لنرى برنامج الرئيس الانتخابي الرسمي لفترته الجديدة والأخيرة.