في بلد متصدع، مأزوم ومحاصر، يوشك على الانهيار تحت ضغط تحدياته، واحتقاناته الاستراتيجية والاقتصادية والطائفية، تأكدت مسئولية الصحافة، وضروراتها حتى لا يفقد بوصلته وقدرته على البقاء حيا.
في بلد مثل لبنان، وأي بلد آخر متصدع، يكاد يكون مستحيلا، أن يقدر على الصمود أمام التحديات الوجودية الضاغطة، إذا لم تكن صحافته حاضرة، ومؤثرة وقادرة على إلهام المقاومة، وشيء من التماسك الوطني.
“بيروت تحترق ولا ترفع الأعلام البيضاء”.
هكذا عنونت صحيفة “السفير”، التي أسسها الصحفي اللبناني الكبير الراحل “طلال سلمان”، مانشيتها الرئيسي، أثناء الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام (1982).
كان ذلك تلخيصا رمزيا لحياته المهنية، معناها ورسالتها في لحظة تقرير مصائر.
لم يغلق أبواب صحيفته، كما فعلت الصحف والمطبوعات الأخرى، ظل يصدرها تحت الحصار والقصف، داعيا إلى المقاومة حتى النفس الأخير.. والحبر الأخير، دون رفع راية واحدة بيضاء.
بعد سنتين، كاد أن يدفع عمره ثمنا؛ لمواقفه حين جرت محاولة لاغتياله عام (1984) أمام منزله، تركت ندوبا وآثارا على جسده.
مسئولية الصحافة مسألة انتماء.. ومسألة ضمير.
لا يمكن كتابة التاريخ السياسي لبلد صغير في حجمه، ومؤثر بدوره كلبنان، دون إدراك أهمية الأدوار التي لعبتها صحافته بكل تعقيدات ذلك الدور.
في الخمسين سنة الأخيرة، قدمت الصحافة اللبنانية للعالم العربي مدرستين كبيرتين.
الأولى: مدرسة “النهار”، التي انحازت إلى خيارات سياسية، واستراتيجية أقرب إلى التيار المحافظ في العالم العربي، لكنها امتلكت قدرات مهنية فائقة، قادها باقتدار عميد الصحافة اللبنانية “غسان تويني”.
الثانية: مدرسة “السفير”، وقد كانت تعبيرا صريحا عن التيار العروبي الناصري، والهوى المصري غالب عليها، وقدراتها المهنية صاغت حقبة كاملة من التاريخ الصحفي العربي.
على وقع نكبة فلسطين (1948)، اكتسب مؤسسها “طلال سلمان” وعيه العروبي، وهو في العاشرة من عمره.
بعين الصبي، تابع بقدر ما استوعب محنة النزوح والتهجير القسري لآلاف الفلسطينيين من ديارهم إلى لبنان المجاور، استقر في خاطره سؤال الشاعر الفلسطيني الأكبر “محمود درويش”: “لماذا تركت الحصان وحيدا؟”.
لم تكن مصادفة أن ينضم “درويش” إلى كوكبة “السفير” بعد أن استقر في بيروت، أو أن يطل لسنوات طويلة على عالمه العربي، عبر منبرها وصفحاتها الثقافية التي أشرف عليها لوقت طويل الناقد المعروف “إلياس خوري”.
“درويش” و”طلال” ابنا جيل واحد، متقاربان في السن، أولهما فلسطيني، وقد حمل بموهبة الشعر قضية بلاده طوال حياته، شأن شعراء فلسطينيين آخرين، ألهموا فكرة المقاومة.
والثاني لبناني، حمل القضية نفسها بموهبة الصحافة إلى آخر الشوط، دون مساومة عليها، شأن صحفيين لبنانيين وعرب آخرين، ساعدوا في بناء وعيٍ عامٍ، أن القضية عربية بقدر ما هي فلسطينية.
إنه رجل وجد في العروبة خلاص بلده التي انتزعت من وطنها الأم سوريا باتفاقية “سايكس بيكو”، وتأسست على طائفية، أنهكت حيويته رغم التضحيات التي بذلت.
رجل عنده قضية عروبته معياره، وفلسطين بوصلته.
من يتحالف عليها فهو ضده.
إنه ابن الأحلام الكبرى والهزائم الفادحة في العالم العربي، منذ النكبة حتى الآن، لكنه لم يفقد حلمه أبدا، ولا استسلم لهزيمة يوما.
تجربته المهنية فريدة من نوعها، صعد من أسفل السلم مصححا، ومراجعا حتى اكتسب اسمه الكبير.
هو نموذج استثنائي للشغف بمهنة الصحافة، أعطاها وقته كله، اتسعت علاقاته في العالم العربي، وأصبحت صحيفة “السفير” التي أسسها عام (1974) عنوانا عربيا للبنان في لحظة تحولات جوهرية في حسابات، ومعادلات الإقليم أعقبت حرب أكتوبر، وبدء ما أطلق عليه “العصر الأمريكي”.
لخص شعار “السفير”: “جريدة لبنان في الوطن العربي، وجريدة الوطن العربي في لبنان” جوهر رسالته.
حين بدأت رياح الانعزالية، تعصف بالعالم العربي، لم يتخلَ عن أفكاره وتوجهاته وعروبته، وبوصلته الفلسطينية.
بفضل “سفير طلال سلمان”، رفعت الصحافة اللبنانية رأسها في عالمها العربي مهنيا وسياسيا.
قدمت أفضل الصحفيين، والكتاب السياسيين إلى العالم العربي.
العمل في “السفير” شهادة جودة مؤكدة.
كان يكفي الانتساب إليها حتى تفتح الأبواب المغلقة للمشاركة في أية إصدارات جديدة طوال سنوات السبعينيات، وما بعدها في الخليج أو أوروبا.
لم يكتسب صيته بضربة حظ، صنع اسمه بأظافره، وبدأب شديد في صالات تحرير الصحف، والمجلات التي عمل بها.
لا يذكر لبنان، إلا وتذكر “السفير” مكونا جوهريا في قوته الناعمة.
كان توقفها عن الصدور باليوم الأخير من عام (2016)، مأتما حقيقيا لكل من عرف قيمتها، وألم بأدوارها.
الوطن.. بلا “السفير”، هكذا عنونت عددها الأخير.
كان ذلك هو الموت الحقيقي للصحفي الكبير الذي ودعنا جسديا قبل أيام.
ظل على مدى (42) عاما، يطل على قرائه بالعالم العربي تحت عنوان “على الطريق” حتى اضطرت صحيفته أمام طريق مسدود، أن تطوي صفحاتها للأبد تحت وطأة أزماتها المالية.
نالت بتوقيت مقارب أزمات مماثلة من صحف، وإصدارات لبنانية أخرى، صنعت للبلد نصف قوته الناعمة في عالمه العربي.
تجربته استوفت زمنها، وتحتاج الآن إلى إعادة فحص، ودرس حتى تستبين الأجيال الجديدة فضل الآباء الكبار للصحافة العربية.
لم يكن رجل سياسة بالمعنى الحزبي، ولا عضوا نشطا في أي جماعة سياسية، لكنه لم يكن يتردد في أن يعرب عن مواقفه، وانتقاداته مهما جرت عليه من حملات تشهير اعتادها.
في السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين، نعى إلى القراء على صفحات جريدة “العربي”، التي كنت أترأس تحريرها، ما وصلت إليه الصحافة في مصر من ترد وتراجع، ونعى معها الدور المصري نفسه، قائلا بحسرة لا تخفى: “كانت القاهرة عاصمتنا المركزية”.
القاهرة عشقه الأول، يعرف خرائطها السياسية، كما حواريها وأزقتها.
كل شيء فيها ملهم، أدبها وفنها وصحافتها.
هكذا كانت.
منذ بدايات ثورة يوليو، انحاز إلى “جمال عبد الناصر”، عندما اختلفت الأحوال لم تتغير بوصلته وانتماءاته.
عند كل محطة مفصلية، بدا حاضرا ومؤثرا من الانفتاح الاقتصادي عام (1974)، وصعود من أطلق عليهم “القطط السمان”، إلى انقلاب الاستراتيجيات إثر “كامب ديفيد” عام (1978).
يكتب كأنه مصري، يعرف دخائلها وأسرارها، ويتبنى أحلامها المجهضة.
ارتبط بصداقة عميقة وممتدة حتى نهايات العمر مع الأستاذ “محمد حسنين هيكل”، يحاوره بانتظام، ويزوره على فترات متقاربة في مكتبه على نيل الجيزة، أو في بيت “برقاش”.
قبل رحيل “هيكل” بوقت قصير، زاره في قرية الرواد بالساحل الشمالي، وأجرى معه حوارا مستفيضا، عما يحدث في مصر مستطلعا مستقبلها.
من ناحية إنسانية، لفتني في ذلك الحوار إشارته إلى أحوال “هيكل” الصحية إثر حادث تعرض له بالسقوط من على درج، أثناء إجازة في الغردقة، كتب أنه يستخدم “الووكرز” في تحركه ببيته الصيفي.
لا أعتقد، أنه استأذن في النشر ولا “هيكل” فكر أن يلفت نظره.
كان ذلك تعبيرا عن المساحة الخاصة التي تربطهما.
بقدر آخر، اقترب من النخب الصحفية والثقافية المصرية، وعرف عن قرب كل ما يتحرك بالحيوية والإبداع في البلد.
ارتبط بصداقات عميقة أخرى مع كبار الصحفيين المصريين أمثال، “أحمد بهاء الدين” و”إحسان عبدالقدوس” و”كامل زهيري” و”محمد عودة” و”محمود السعدني” و”مصطفى الحسيني” و”مصطفى نبيل” و”جميل مطر”.
تأثر بـ”بهاء” في عنايته الفائقة بالكاريكاتير السياسي الذي كان سمة رئيسية في تجربة “صباح الخير”، حين أطلق من تحت عباءته جيلا من رسامي الكاريكاتير العظام مثل، “جاهين”، و”حجازي”، و”بهجت”، و”بهجوري”، و”رجائي ونيس”، و”إيهاب شاكر”، كما احتضن موهبة المخرج الصحفي “عبد الغني أبو العينين” الذي أسس الفرقة القومية للفنون الشعبية، وصمم أزيائها.
على هذا النهج، استضافت “السفير” أسماء في حجم “ناجي العلي” الذي جسدت رسوماته مرارة سخرية الطفل الفلسطيني “حنظلة”، وأغلب رسامي مدرسة “أحمد بهاء الدين” كـ”حجازي” و”بهجت عثمان” و”محيي الدين اللباد” بخطوطهم الخاصة في عوالم الكاريكاتير.
أضفت لمسات الفنان التشكيلي المصري الكبير “حلمي التوني” جمالا على “السفير”، وجاذبيتها في عيون قرائها.
لم يكونوا مجرد رسامين، هم أصحاب مواقف ورسالات، كما “السفير” التي ارتبطوا برئيس تحريرها.
لم تكن صحيفته محض لبنانية بصورة، أو أخرى بدت تعبيرا عن العالم العربي بأحلامه وانكساراته.
لم يصد نفسه رغم هويته السياسية الصريحة عن موهوبين كبار، جاءوا من خلفيات فكرية أخرى كـ”جوزيف سماحة” و”حازم صاغية”، وهما صديقان ظلا قريبين إلى بعضهما الآخر، رغم افتراق المواقف السياسية، الأول، اقترب من فكرة المقاومة مؤسسا صحيفة “الأخبار”، والثاني ناهضها إلى أبعد حد.
تعرفت على الأستاذ “طلال” عن قرب في جلسات حوار بالقاهرة، تضم أصدقاء آخرين، كلما حل ضيفا عزيزا عليها.
في أغلب الأوقات، كان يصحب في زياراته القاهرية بعض تلاميذه بـ”السفير” ونجله “أحمد”.
في كل مرة لديه ما يقوله عن كواليس، وأسرار الحكم في العالم العربي. فهو صحفي عتيد موضوعه الأثير، البحث عن الخبر.
وصف ذات مرة تجربته مع الصحافة بعبارة مقتضبة، صادقة وصحيحة، وتكاد تلخص قصة حياته كلها:
“الصحافة فيها من شرف الرسالة، كما من المتعة، ما يجعلها تستحق عمرك”.