تملك زيارة البرهان للقاهرة عددا من الدلالات الهامة على الصعيد المحلي السوداني، وعلى المستويين الإقليمي والدولي، وقد يترتب عليها تطورات مؤثرة على مجريات الحرب السودانية الراهنة.

وقد تكون أولى هذه الدلالات هي مسألة خروج البرهان نفسه من السودان، إذ تعكس هذه العملية أولا: قدرة من جانب الرجل وفريقه علي السيطرة علي التفاعلات الداخلية رغم الحرب، وترتيبا داخل مؤسسة القوات المسلحة السودانية لصالح البرهان بدرجة جعلت الرجل واثقا، أنه سوف يخرج، ويعود إلى نفس موقعه، وهي مسألة حساسة في بلد معروف عنه كثرة الانقلابات، وتحول الولاءات وانتهازية التحالفات السياسية.

علي المستوي الإجرائي من الواضح أيضا، أن عملية الخروج على المستوى الخارجي هي حالة توافق عملياتي بين فرق محلية تابعة للجيش، وفرق إقليمية حظيت بضوء أخضر أمريكي، بطبيعة حال الوجود العسكري المكثف لأساطيل الولايات المتحدة في البحر الأحمر، والفاعلية الأمريكية في التفاعلات الهادفة إلى وقف الحرب، سواء عبر منصة جدة أو غيرها من المنصات.

أما على المستوى المحلي، فقد حصلت عملية خروج رئيس المجلس السيادي أيضا على موافقة، من المراكز المتعددة لصناعة القرار في الجسم العسكري للدعم السريع، قد تكون ضمنية، تم الإفصاح عنها بمبادرة الدعم السريع؛ لوقف الحرب والانخراط في عملية سياسية جديدة، تضمن تحولا سياسيا ديمقراطيا، قد لا يملكون بذاتهم شروطه البنيوية.

ومع وصول البرهان للقاهرة، يكون من اللافت حرص رئيس المجلس السيادي على ارتداء ملابس مدنية، رغم أنه في أتون حرب مستعرة، كما أن خطابه في قاعدة فلامنجو البحرية لعناصر الجيش السوداني أخذ سمتا متشددا، أكد فيه على استمرار الحرب حتى آخر جندي سوداني، مشيرا إلى ضرورة دحر التمرد الممثل في قوات الدعم السريع.

هذا الخطاب، قد تغير مع وصول البرهان إلى مدينة العلمين المصرية، حيث رسم الرجل ملامح موقف سياسي، لم يكن جديدا من حيث التأكيد على عدم الاتجاه لحيازة السلطة، وترتيب فترة انتقالية تدشن بعدها انتخابات نزيهة. ونظرا للخبرات المتراكمة بشأن ممارسات البرهان السابقة، فإن حديثه لا يملك مصداقية كبيرة في ضوء حقيقتين، الأولى: أن الرجل قد مارس انقلابا عسكريا، ضد الحكومة المدنية برئاسة د. عبد الله حمدوك، كما أنه مارس تقاربا مع إسرائيل بأغراض حيازة السلطة التي يقول، إنه لا يريدها، لكننا في هذا المقام قد نراهن على صدقه هذه المرة، على اعتبار أن درس الحرب  السودانية، وعدم حسمها سريعا لصالح الجيش، لم يكن بالدرس الهين، وفي ظني أن الدروس الشاملة لهذه الحرب قد تعلم منها الجميع، الجيش، والدعم السريع، والقوى السياسية السودانية، وكذلك العواصم الإقليمية والدولية.

في السياق الموضوعي، يمكن أن نرصد دلالات تكوين الوفد المرافق للفريق عبد الفتاح البرهان من حيث طبيعة الملفات التي تم طرحها على القيادة السياسية المصرية الرئيس عبد الفتاح السيسي، فهي ملفات أمنية وعسكرية، من هنا لا أستبعد أن يكون رئيس مجلس السيادة السوداني، قد طرح فكرة الدعم العسكري المصري للجيش السوداني في هذه المرحلة طبقا للحالة الميدانية في العاصمة السودانية، ولكن من المؤكد في تقديري أن القاهرة لن تقدم على مثل هذا الدعم، على اعتبار أن ذلك، أولا: من شأنه أن يطيل فترة الحرب الزمنية، وهو أمر مضاد لتوجهات القاهرة الاستراتيجية في وقف الحرب، ويزيد من عبء الأحمال التي ترزح تحتها كنتيجة لها، وقد يكون من أهم هذه الأحمال تضخم عدد اللاجئين الإجمالي؛ ليصل إلى ١٠٪ من الساكنة على الأراضي المصرية نصفهم من السودانيين.

ثانيا: أن هذا الدعم العسكري لا بد وأن يحظى بقبول داخلي سوداني، وتفويض دولي على النمط الذي جرى لفرنسا عام ٢٠١٣، حيث تم تفويض باريس بالتدخل العسكري في مالي بعملية برخان من جانب مجلس الأمن الدولي، ولا أظن أن القاهرة سوف تنخرط في مثل هذا المسار المضاد لاستراتيجيتها المعلنة، بعدم التدخل في الشؤون الداخلية السودانية، خصوصا وأن مثل هذا التدخل قد يستدعي تدخلا لأطراف أخرى، بما يجعل السودان منصة لتصفية الحسابات الإقليمية.

أما على صعيد مشروع وقف الحرب، فيمكن القول، إن هذا المشروع المطروح من المنصة المصرية هو نتاج تشاور واسع على الصعد المحلية و الإقليمية والدولية، حيث وفر اجتماع  تحالف الحرية والتغيير في القاهرة فرصا للتشاور على الصعيد السوداني السوداني، وكذلك على الصعيد الثنائي بين القوي السياسية السودانية، وبين الإدارة المصرية، وفي سياق مواز وفر اجتماع دول الجوار في يوليو الماضي على مستوى القمة في القاهرة، وعلى المستوى الوزاري في أنجمينا فرصة تشاور واسعة، وقدرة على استكشاف الأطراف لمصالح بعضها البعض، وبالتالي خلق نقطة توافق بشأن الحالة السودانية، وقد يكون أبرز النماذج على ذلك هو الحالة المصرية الإثيوبية.

أما على المستوى الدولي، فإن وجود البرهان في القاهرة، وطرحه لموقفه من عمليتي وقف الحرب، ومستقبل العملية السياسية، وكذلك طرح خارطة الطريق المصرية بنقاطها المتعددة، يشكل ضوءا أخضر أمريكيا في ضوء توقف مبادرة جدة عن التفاعل مع مجريات الحرب، وعدم قدرتها على وقف إطلاق النار، وهو الأمر الذي يجعل كل من واشنطن والرياض، يراقبان التفاعلات المحيطة بخارطة الطريق المصرية، ومدى قدرتها على اختراق الموقف المأزوم، وذلك دون إهمال حالة من التشاور والتنسيق بين القاهرة وجدة، وذلك في سياق من التشاور المصري السعودي.

فيما يخص خارطة الطريق المصرية، تبدو لنا، أنها إلى حد كبير تحاول أن تستجيب للتحدي الراهن المرتبط بضرورة الحفاظ على كيان الدولة السودانية المهدد بمشروعات تقسيم، أو حتى اندثار كامل، من هنا يبدو الحديث عن توحيد المؤسسات أحد أهم أطر هذه المبادرة، حيث أن المقصود هنا هو الكيانات العسكرية السودانية على إطلاقها، كما تبدو الفترة الزمنية للخارطة معقولة، إذ تتجاوز العام، يكون وقف إطلاق النار فيها خطوة أولى، ستكون معضلتها الأساسية هي تكوين الحكومة التي غالبا، ما يكون مجرد تعريفها به إشكالية، فهل هي طوارئ عسكرية خاضعة للمجلس السيادي، أم هي حكومة تكنوقراط مدنية، وهل تكوين الحكومة خارج العاصمة، يعطي فرصة للدعم السريع؛ لتكوين حكومة مناظرة في ضوء معاركهم؛ لاكتساب الشرعية المفقودة لهم.

أما أهم نقاط خارطة الطريق المصرية، فهي تكوين لجنة لصياغة دستور جديد، بما يعني محاولة خلق توافق وطني سوداني مؤطر دستوريا، لكن في تقديري أن الانخراط في تدشين هذه اللجنة يجب أن يسبقه تشاور، له طابع مجتمعي في أطر أخرى للنقاش حول قضايا تأسيس الدولة السودانية.

إجمالا خطوة زيارة البرهان للقاهرة، حظيت بترحيب شعبي سوداني، وكذلك ترحيب من القوى السياسية السودانية التي لها مشروطياتها المعروفة للتحول السياسي المدني، وكذلك هواجسها من الفاعلية المصرية في المعادلة السودانية، خشية أن تبلور نموذجا سلطويا في السودان، يلعب فيه الجيش السوداني دورا محوريا، كما حظيت خارطة الطريق المصرية بترحيب إقليمي ودولي عكسه اهتمام وسائل الإعلام بكافة مشاربها بالبرهان وخروجه، وبالقاهرة ودورها، وعلى الرغم من كل ذلك، فإن التحديات أمام المجهود المصري تبدو كبيرة، وهو ما يتطلب حسابات دقيقة، وإرادة قوية وصبر عظيم من جانب القاهرة.