إن الشرعية في مسماها الأساسي تعنى ألا يكون التشريع بشكل إجمالي وتفصيلي مخالفاً للدستور، وأنه إذا التزمت السلطة التشريعية ما نص عليه الدستور، فإن أعمالها تتفق مع أصول الشرعية، غير أن السلطة التشريعية تتمتع بسلطة تقديرية واسعة، وهو ما يجعل هذه السلطة بمنأى في بعض الأحيان عن الرقابة الدستورية. فلا تخضع السلطة التشريعية لرقابة المحكمة الدستورية العليا، فيما تصدره من تشريعات إعمالاً لسلطتها التقديرية، ما لم تخالف بها أهداف الدستور، ويظهر ذلك المعنى بشكل أكثر وضوحاً، فيما يتعلق بالتشريعات الجنائية، ودور المحكمة الدستورية العليا في استجلاء المخالفة لأهداف الدستور.

يفترض أن يكون هذا الإخلال واضحاً ظاهراً جلياً، بحيث يكشف عن انتفاء الضرورة أو عدم التناسب في التجريم والعقاب، دون أن يحتاج الأمر إلى مراجعة السلطة التقديرية للشارع “المُشَرِع”، والتي تقوم على اعتبارات الملاءمة في اختيار أفضل الوسائل؛ لتحقيق المقاصد التي توخاها الدستور.

وفي ذلك المعنى، فقد قضت المحكمة الدستورية العليا في حكمها بتاريخ 6 يناير سنة 2001،  بأن “الأصل في سلطة المشرع في موضوع تنظيم الحقوق أنها سلطة تقديرية، ما لم يقيد الدستور ممارستها بضوابط تحد من إطلاقها، وتعبر عن تخوم لها، لا يجوز اقتحامها أو تخطيها، وكان الدستور إذ يعهد إلى أي من السلطتين التشريعية أو التنفيذية بتنظيم موضوع معين، فإن القواعد القانونية التي تصدر عن أيهما في هذا النطاق، لا يجوز أن تنال من الحقوق التي كفل الدستور أصلها، سواء بنقضها أو انتقاصها من أطرافها، وإلا كان ذلك عدوانا على مجالاتها الحيوية من خلال إهدارها أو تهميشها”.

وفي مجمل القول، إنه على الشارع حينما يخطط أو يَشْرع في معالجة موضوع بعينه فعليه، ألا يتجاوز أو يجور على حقوق الأفراد العامة بالمصادرة أو الانتقاص، أو بما يفرغها من مضمونها، إذ على الرغم من كون الإرهاب بعواقبه الوخيمة يُلقي تحديات سياسية وأمنية واقتصادية، فإن التحديات القانونية؛ لمواجهة الجريمة بشكل رئيسي تبدو هامة، وحاسمة في ظل عصر سادت فيه قيم دولة القانون، والديمقراطية وحقوق الإنسان، وأصبحت هذه القيم جزءًا من الضمير العالمي.

ومن هنا، احتلت مواجهة الجريمة جانبا مهما من مسئوليات النظام القانوني، متى تتم المواجهة من خلال التوازن بين متطلبات مكافحة، ومنع الجريمة أو العقاب عليها أو ضبط الجناة، وبين متطلبات حماية حقوق الإنسان. فبغير الثقة في النظام القانوني، وسيادة القانون يكون الكفاح والسعي ضد الجريمة ناقصا. وكما قيل، فإن سبل التجريم يجب أن تٌكافح بسلاح العدالة، وأن الفكرة الفاسدة يجب مكافحتها بفكرة صالحة، ولا يجوز أن يعالج الضرر بضرر مثله، ويجب حماية القانون بالقانون.

حتى ولو كان الأمر التشريعي، قد صدر في ظل ظروف استثنائية، أو لمواجهات طارئة تقتضي أن يصدر القانون عن طريق السلطة التنفيذية في الأحوال الدستورية التي يحق لها فيها ذلك، فإنه يجب حال عرضها على سلطة التشريع الأساسية حال انعقادها، أن تراجع تلك القواعد بما يتفق مع حقوق المواطنين، وبما لا يدع مجالاً لأية مصادرة للحقوق، أو الحريات أو للتضييق عليها، أو الحد من أطر ممارستها الفعلية.

هذا، كما أنه يجب أن تكون هناك حدود من الأساس؛ لممارسة السلطة التنفيذية لرخصة التشريع بشكل استثنائي، إذ يجب ألا تكون هذه السلطة مطلقة بلا حدود أو قيود في مجالات بعينها. إذ أن هناك توجهات دستورية دولية لتحجيم دور السلطة التنفيذية التشريعي في أوقات يجد فيها لتشريعاتها نفاذا، بحيث لا تؤثر تأثيرا فاعلاً على حريات المواطنين وحقوقهم الأساسية، وألا تتجاوز تشريعات الضرورة الحدود الفعلية لها، أو نطق سريانها، ولا تستغل السلطة التنفيذية حالات غياب البرلمان، وتُسقط من التشريعات ما يعن لها، ويجعل لها اليد الطولى أو المتحكمة في كافة أو معظم مقادير الأمور، بما يجعل السلطات تبدو مختزلة في حدود السلطة التنفيذية، أو يجعلها متوغلة على المقدرات الدستورية للسلطات الأخرى، أو أن تقوض تلك التشريعات الحدود المقدرة؛ لحماية الحقوق والحريات، وخصوصاً تلك الحقوق الأساسية التي تعتبر أساسية في الحياة العامة، ومحمية وفق النصوص الدستورية.

وعلى المستوى التطبيقي، فإن التشريعات المصرية في مأزق كبير بخصوص مدى احترامها لقواعد الحقوق والحريات، وفي مأزق مماثل في مدى احترام السلطة التنفيذية لتلك الحدود المفترض مراعاتها حال استخدامها لمكنة التشريع الفرعي، على الرغم من انحياز الأغلبية النيابية لفترات طويلة من التاريخ النيابي المصري لجانب السلطة التنفيذية، وموافقتها المستمرة على ما تتقدم به هذه الأخيرة من مشاريع بقوانين، سواء عن طريق الإباحة الدستورية المخولة للسلطة التنفيذية في الأحوال العادية، أو كان من خلال مراجعتها لما تصدره السلطة التنفيذية من قرارات لها قوة القانون حال غياب، أو عدم انعقاد السلطة التشريعية.

ولو ضربنا مثلاً، ففي الفترة الانتقالية الأخيرة التي أعقبت ثورة الخامس والعشرين من يناير، وما بعدها أصدرت السلطة التنفيذية ما يفوق الثلاث مائة قرار بقانون، أقرها جميعها مجلس النواب، على الرغم من خطورة بعضها على الحقوق والحريات، إذ أنه من الأهمية بمكان من زاوية السياسات التشريعية أن تحافظ الدولة ذاتها على النظام التشريعي.

ولما كانت المصالح الاجتماعية متباينة أو متضاربة فيما بينها من حيث الأصل العام، وجب على المشرع أن يوازن بين تلك المصالح، وأن تكون التضحية بإحداها في سبيل حماية الأخرى يجب أن يكون مبرراً، ومن الناحية النظرية، فإن النص الذي يفرض الحماية القانونية على المصلحة، قد يفقد أسانيده، وقتما تتعارض هذه المصلحة مع مصلحة أخرى أجدر منها بالحماية، حيث يجب التضحية بالمصلحة الأقل أهمية، أو قيمة في سبيل حماية مصلحة أخرى أجدر وأحق بالحماية، إذ أن العلة من إسباغ وصف التجريم، هي حماية حق أو مصلحة يراها الشارع جديرة بالحماية.

ومن هنا، أرى أنه يجب أن تبدأ الدولة والجهات القضائية ونقابة المحامين، وكذلك كليات الحقوق بعمل مراجعات على التشريع المصري بشكل دائم ومستمر، حتى يتبين من خلال تلك المراجعات، ما هو متفق مع قواعد التشريع الأصلية، وما هو مناسب لقواعد العدالة والحقوق والحريات، وأن تكون لتلك المراجعات قيمة فعلية من خلال الاتصال بقنوات نيابية، تسعى بشكل مؤسسي؛ لتطهير البنية التشريعية المصرية من كل ما بها من شوائب تشريعية مناقضة على أقل تقدير للالتزامات الدولية الملقاة على عاتق الدولة، من خلال كونها إحدى مفردات المجتمع الدولي، أو من خلال ما انضمت إليه من اتفاقيات ومواثيق حقوقية.