بعد أيام قليلة ينتهي الحوار الوطني الذي دعا إليه رئيس الجمهورية في 26 إبريل2022، على عجالة تم لملمة أوراق الحوار للاستعداد لانتخابات الرئاسة. وذلك كله لربما يكون الحوار قد أخذ وقتا أكثر، مما كان معدًا له، أو لربما كان السبب هو أن الرئيس يسعى لتكون بعض مخرجات الحوار جزءًا من برنامجه الرئاسي، ولربما كان السبب أنه من غير المقبول، أن يغطي الحوار على الزخم المطلوب؛ لإجراء انتخابات، يشغل فيها الرئيس المدة الأخيرة ما لم يجد جديد.

على أية حال، أصبح أمام البلاد اليوم جملة من المقترحات، ويسميها الحوار توصيات حتى يكون هناك مبررًا، إذا لم ينفذ بعضها. وتلك التوصيات -والمرجح أن تكتمل بعد شهر على الأكثر- كانت نتاج جلسات الحوار الذي بدأ في 14مايو الماضي، أي أنها استمرت زهاء 4,5 أشهر، وقد أعد لتلك الجلسات منذ 5 يوليو 2022 أي 10 أشهر!!!

مخرجات مهمة قبل إصدار التوصيات

لكن، وللإنصاف، كانت هناك مخرجات قبل إعلان حزمة التوصيات الأولى التي صدرت في 18 أغسطس الماضي، وقد تمثل ذلك في ستة أمور مهمة: –

التأكيد في عدة بيانات صادرة عن مجلس الأمناء بضرورة الإفراج عن سجناء الرأي، وحث رئيس الدولة على تفعيل دوره الدستوري في هذا الصدد. وهذا الموقف، رغم أنه جاء بنتائج طيبة في عديد من المرات، إلا أنه لوحظ عليه، عدم توجيه أي نداء للنائب العام للإفراج عن المحبوسين احتياطيًا، بدعوى أن ذلك يشكل تدخلا في عمله، وهو جهة مستقلة. كما كانت نداءات الإفراج تتم قبل أن يكمل الحوار معالجة سبب السجن، والحبس الاحتياطي، وهو تعديل التشريعات سيئة السمعة التي أدت؛ لاستفحال تلك المشكلة. وأخيرًا، لم تمنع نداءات مجلس أمناء الحوار السلطة من القبض على آخرين في قضايا رأي مماثلة لتلك التي يُنادى بالإفراج عن المعنيين بها.

طلب مجلس أمناء الحوار مد الإشراف القضائي وفق معادلة قاض على كل صندوق، والذي ينتهي في17 يناير 2024، لأجل آخر. ولا يخفى على كثيرين، أن هذا الطلب المعلن في 26 مارس2023، هو أحد الأمور المهمة التي يعتبرها المصريون ضمانة مهمة لنزاهة الانتخابات. لكن في ذات الوقت فإن تلك الضمانة لا تكفي في واقع الأمر؛ لتحقيق تلك النزاهة التي تتطلب مد سلطة القاضي إلى المقر الانتخابي بأسره دون الاكتفاء باللجنة.

التقدم إلى رئيس الجمهورية في 15 أغسطس الماضي بأربعة طلبات، تتعلق برفع العبء عن كاهل المواطنين. أولها، يتعلق بتحمل الدولة رسوم الدراسة للطلبة غير القادرين في التعليم الأساسي، والأزهري للعامين الدراسيين القادمين. وثانيهما، رفع مديونية الفلاحين المتعثرين قِبَل البنك الزراعي. ثالثهما، رفع الحظر عن إصدار تراخيص بناء العقارات للأفراد. رابعهما، تدخل الدولة وفقًا للمادة 10 من قانون المنافسة، ومنع الاحتكار للحد من الارتفاع الجنوني في أسعار السلع، والخدمات في الأسواق. وبطبيعة الحال أخذت تلك القرارات الأربعة وقتًا طويلا في النقاش في هذا اليوم، إذ اعتبر البعض، أنها حال صدورها، ربما تفسر بأنها دعاية لرئيس الدولة في انتخابات الرئاسة التي ستحل بعد عدة أسابيع. وشبهها البعض بمواقف الحكومة المصرية في عهد مبارك بالتجاوز إبان الانتخابات البرلمانية، والرئاسية عن مخالفات البناء على الأرض الزراعية، وقراراتها بإعفاء الفلاحين من سداد غرامات زراعة الأرز للمزارعين في غير مناطق زراعته.

شكاوى بالجملة في إعداد التوصيات

وبالانتقال إلى التوصيات، يلاحظ أن هناك نوعين من الملاحظات أو الشكاوى المهمة. الأولى، ملاحظات إجرائية تمس صميم الحوار الوطني. والثانية، ملاحظات مضمونية تتعلق بنواقص غاية في الأهمية. وكل تلك الملاحظات أو الشكاوى نابعة مما هو وارد في تعقيب، ليس فقط الكثير من المتخصصين من مقرري اللجان، والمحاور كالصحة والتعليم والاستثمار والعدالة والدين العام وعجز الموازنة والأسرة، بل من بعض القائمين على إدارة الحوار من مجلس الأمناء، وذلك منذ التخطيط للحوار قبل بدء جلسات النقاش.

فإجرائيا، خرجت قضايا النقاش التي خطط لها في الجلسات المفتوحة عن هدفها وهو الحوار، وتحولت إلى مجرد إعلان مواقف من قبل الأحزاب، والقوى السياسية وبعض الخبراء، ما جعلها أشبه بتسجيل مواقف بعضها معروف مسبقًا. بعبارة أخرى، لم يكن الحوار حوارًا، بل كان محفلا لإلقاء كلمات، وربما بيانات تسلم لرؤساء الجلسات والأمانة الفنية، حتى أن مجرد الاستماع لتلك المواقف، قد أخذ أحيانًا كثيرة ضعف الوقت المخصص للجلسة وهو 3 ساعات. وذلك على عكس الجلسات المتخصصة التي تلت بعض موضوعات النقاش الخلافية، والتي كانت بالفعل أشبه بالهدف الأساسي من الحوار، وهو التفاعل للخروج بحلول توافقية قدر الإمكان.

وفي ذات السياق، كان المدعوون إلى الحوار في بعض الأحيان من غير الممثلين للقضايا محل النقاش، فلا صغار الفلاحين تواجدوا في اجتماعات لجنة الزراعة، ولا العمال والصناع مثلوا في لجنة الصناعة. وإذا أضيف إلى كل ذلك عديد الملاحظات التي أبداها مقررو اللجان، ومساعدوهم عن تجاهل دعوة بعض الأسماء المفترض دعوتها بدلا من دعوة عديد الأسماء التي لم تكن معنية بموضوع النقاش، ومن ثم إغراق الاجتماعات بأعداد تجاوزت الـ 70 مدعوا مخالفة لقرار الاكتفاء بـ30 شخصا هم 10 من الموالاة و 10 من المعارضة و 10 من الخبراء، لتبين أن بعض التوصيات قد خرجت عن سياق الإجماع الوطني من وجه نظر بعض المقررين أنفسهم.

أخيرا وليس آخرا، من الناحية الإجرائية، كانت عديد اللجان التي أصدرت توصياتها، قد اشتكت بصورة لا حصر لها، من أن تلك التوصيات لا تعبر عما حدث في جلسات الحوار المفتوحة أو المغلقة. لذلك كان هناك أكثر من نداء بعضها من داخل مجلس الأمناء نفسه، بأنه كان من الضروري تواجد المقرر والمقرر المساعد للجنة، وللمحور، بجلسة مجلس الأمناء المخصصة لإصدار التوصيات. لأن هؤلاء ليس فقط هم من رصد الملاحظات في جلسات النقاش، بل أنهم أيضًا– وهذا هو الأهم- هم الخبراء المتخصصون في المجال محل النقاش والدراسة، فهم العالمون ببواطن الأمور، وبأدق التفاصيل حول قضايا النقاش، مقارنة بالقائم على إخراج التوصيات، ودون أن يمس ذلك بحتمية أن تكون التوصيات نابعة من النقاش، لا من أهواء مقرري اللجان. لكن كافة تلك النداءات لتمثيل هؤلاء في صياغة التوصيات لم يُستجب لها.

في موضوع التوصيات

وبالانتقال إلى موضوع التوصيات، ومن واقع نقد الحركة المدنية، وبعض مقرري اللجان لمخرجات الحوار المعلنة حتى اليوم، يتبين بداية، عجز الحوار عن الوصول لحل قضية النظام الانتخابي. إذ عقدت جلسات متخصصة عقب الجلسات المفتوحة، وتلك الجلسات لم يمثل فيها طرفان مهمان، إذ اكتفى الحوار –إلى جانب أحزاب الحركة المدنية- بتمثيل الأحزاب صاحبة المصلحة في بقاء الوضع الراهن، وهي أحزاب يعرف القاصي، والداني طريقة نشأتها وبقائها. الطرف الغائب الأول، هو الناخب الذي زورت إرادته منذ2016، عند الأخذ بنظام القائمة المطلقة المهجور عالميًا، بتحويل صوته من القائمة التي اقترع لصالحها إلى القائمة المضادة لتوجهاته، مما يشجع على السلبية ومقاطعة الانتخابات. والغائب الثاني، هو الشخص أو الفئة التي وضعت، إبان تعديل دستور2012، كوتات شلت فكر الكثيرين في إيجاد نظام انتخابي عادل، وذلك كي يضع حلا للورطة الكبيرة التي أدخل بها هؤلاء الدولة والمجتمع. والمحصلة تحويل مشكلة النظام الانتخابي لرئيس الدولة؛ ليختار بين ثلاثة آراء، على الأرجح سيقوم الرئيس بتحويلها للبرلمان كما هي للفصل فيها، وقد يختار النواب نفس النظام الانتخابي المعيب الذي أوجدهم!!

تجاهل قضية العدالة الاجتماعية، والاستعاضة عنها بالرعاية الاجتماعية، وهو أمر مختلف تمامًا، لأن الأول منظومة قوانين وتشريعات، والثانية مجرد إغاثة وإعالة وتكافل.

اختزال قانون الأسرة في قضية فلمية أو سينمائية، هي الوصاية على القصر، علاوة على قضايا فرعية تخص ما بعد الطلاق، وإغفال قضايا التفكك الأسري كأنواع الطلاق، وتعدد الزوجات ومسكن الزوجية والرؤية والحضانة والعنف ضد المرأة. وعامة يبدو أن السلطة التنفيذية سبقت الحوار، وأمعنت في الإعلان عن قرب الدفع بقانون متكامل للأحوال الشخصية، وقد كانت الفرصة كبيرة للخروج بتوصيات مهمة، تدفع بها السلطة للبرلمان لإخراج قانون معبر عن حوار وطني متميز.

ارتباطًا بما سبق، شهد الحوار منذ بدايته الإجرائية عديد المحاولات الحكومية لاستباق توصياته، وذلك باتخاذ قرارات لا حصر لها تخص الشأن الاقتصادي، وذلك في أمور تتصل بأسعار السلع، والخدمات والتعويم وبيع بعض الأصول والشركات، ورفع أسعار الفائدة وغيرها من أمور.

في الشأن الاقتصادي، تجاهل الحوار أهمية الوقف السريع للاستثمار في البنية التحتية غير المرتبطة مباشرة بالإنتاج، خاصة البنية التحتية في مجال الطرق، ومشروعات البناء المختلفة، وكلها أمور أدت إلى مضاعفة الدين الخارجي، وبحيث يتم الاستعاضة عن تلك الاستثمارات بالاستثمار في بناء الإنسان، خاصة في التعليم والصحة، وكذلك الإنتاج والتصنيع والزراعة؛ بغرض الاكتفاء الذاتي ثم التصدير، وخلق فرص عمل للشباب، بما يرفع من القيمة الكلية للناتج المحلي الإجمالي.

وفي الشق الاجتماعي، بدا أن التوصيات قد تجاهلت التأكيد على تفعيل النسب الدستورية للإنفاق في الموازنة على كل من الصحة، والتعليم الأساسي والجامعي والبحث العلمي بنسب 3% و4% و2% و1% كنسبة من الناتج القومي الإجمالي. وفي ذات الشق تم كلية تجاهل تأسيس المجلس الوطني للتعليم وفقًا للمناقشات التي جرت في هذا الصدد، وذلك لصالح بقاء معظم ما جاء به المقترح الرئاسي المتعلق بتأسيس مجلس شبة تنفيذي لهذا الغرض. وفي الهوية، كانت التوصيات متواضعة بالنسبة للنشر، ومن ذلك إغفال إعادة النظر في الرسوم الجمركية على الكتاب. وفي الصحة، كان الخلاف كبير للغاية، حيث رفُض توصية المتخصصين في موضوع التأمين بدمج هيئتي التأمين الصحي، وقانوني التأمين الصحي؛ لدعم الاستفادة والخلاص من بطء تنفيذ منظومة التأمين الجديدة التي يستفاد منها 3 ملايين في حين أن المؤمن عليهم وفقا النظام القديم 58 مليونا. وكذلك توصية إعادة الاعتبار للرعاية الصحية الأولية.

هل من آلية لمراقبة تنفيذ التوصيات؟

على أنه ونتيجة لما هو معروف من وجود عديد المشكلات الاقتصادية المتصلة بأولويات الإنفاق، وانخفاض الموارد، فستبقى هناك قضايا كثيرة، جاء بها الحوار، ولم يكن هناك إمكانية لتطبيقها على الأرض. فمفوضية منع التمييز، وإصدار قانون موحد للعمل، وتطبيق توصيات الحريات الأكاديمية والبحث العلمي، خاصة فيما يتعلق بعلاقة الأمن بأساتذة الجامعات، وتعديلات قانون العمل الأهلي، كلها أمور غير مكلفة، ويسهل تنفيذ توصياتها لو حسنت النوايا. وعلى العكس فإن التوصيات الخاصة بالاستثمار الخاص، ومواجهة البطالة، وحل مشكلات الفلاح، خاصة المتصلة بالأسمدة وأسعار الحاصلات، والاهتمام بكل من الرعاية الصحية والتأمين الصحي، ودعم السياحة، وتطوير الصناعة… إلخ كلها أمور ترتبط بوجود وفورات مالية؛ لتحقيقها على أرض الواقع.

لذلك كله، فإننا ونحن على أعتاب ختام الحوار، من المفيد للغاية معرفة الجدوى منه، وهو أمر يتأتى برصد ومتابعة دقيقة لكافة توصيات الحوار، حتى لو كانت محل نقد من الغير، ومن ثم أهمية تشكيل تنظيم يقوم على مراقبة، ومتابعة تنفيذ تلك التوصيات، ولا يحتج هنا في رفض هذا الاقتراح، بأن رئيس الدولة هو من دعا له، دون أن يكون هناك إطار ملزم لتنفيذ ما ورد عنه. بل يكفي أن الرئيس هو من تعهد في أكثر من مناسبة؛ لتنفيذ التوصيات باتخاذ قرارات تنفيذية بشأنها، أو الدفع بتشريعات إلى البرلمان لسن قوانين بشأنها.