“قانون خفض التضخم” الأمريكي

في مثل هذه الأيام من العام الماضي، وَقَع الرئيس الأمريكي جو بايدن، بعد مباركة الحزبين الديمقراطي والجمهوري قانونًا، أُطلق عليه “قانون خفض التضخم” (Inflation Reduction Act). تم تخصيص 738 مليار دولار أمريكي؛ لتمويل هذا القانون الذي اعتُبِر بمثابة الصفقة الشاملة التي تهدف إلى خفض التضخم؛ من خلال تحقيق تقدم في ملفاتٍ ثلاث كبرى تتعلق بالضرائب، والرعاية الصحية، والطاقة والمناخ.

تم الاتفاق على ضخ مبالغ كبيرة؛ لإصلاح وتطوير العمل بمصلحة الضرائب (IRS)، فيما يتعلق بمكافحة التهرب الضريبي، حيث يعود ذلك بالنفع على زيادة حصيلة الإيرادات الضريبية، ومن ثم خفض عجز الموازنة، كما تم الاتفاق على وضع حد أقصى لحصة ما يقوم الخاضعون لبرنامج الرعاية الصحية بسداده، للوصفات الطبية بما لا يزيد عن 2,000 دولار، بخلاف الأنسولين الذي تقرر حده الأقصى بـ 35 دولارا شهريًا.

راح نصيب الأسد من مخصصات، هذا القانون بمبلغ 391 مليار دولار، أي بنسبة 53% من إجمالي تلك المخصصات؛ للإنفاق على توجيه المجتمع الأمريكي إلى اقتصاد أكثر استدامة باستخدام الطاقة النظيفة، ولحماية المناخ. تم تقديم حوافز ضريبية؛ لخفض تكلفة الكهرباء بمزيد من المصادر المتجددة، وإقناع الأمريكيين بالتحول إلى الكهرباء للاستخدام في المنازل والسيارات، وتقديم حوافز للأسر، والشركات لاختيار النوافذ وأنظمة التدفئة والتبريد الموفرة للطاقة، بالإضافة إلى منح خصومات ضريبية للشركات التي تستخدم الألواح الشمسية وتوربينات الرياح.

رصدت الحكومة الفيدرالية نحو 13 مليار دولار، تمثلت في تقديم إعانات مالية لشركات إنتاج السيارات الكهربائية، شريطة أن يتم إنتاجها داخل الولايات المتحدة الأمريكية، أو أن يتم في الدول التي تربطها بأمريكا اتفاقيات للتبادل الحر مثل، اتفاقية أمريكا الشمالية للتجارة الحرة المعروفة باسم “نافتا” (NAFTA)، والتي تضم أمريكا وكندا والمكسيك. كما تم النص في هذا القانون على منح السيارات الكهربائية إعفاءً ضريبيًا، وخصومات للأمريكيين لشراء السيارات الكهربائية بمبلغ 7,500 دولار للسيارة الجديدة، و4,000 دولار للسيارة المُستعمَلَة، يتم دفعها جزئيًا من خلال ضريبة دنيا تساوي 15٪ للشركات التي تحقق مليار دولار، أو أكثر سنويًا.

أثار هذا القانون، وما زال، ردود أفعال غاضبة بالاتحاد الأوروبي؛ بسبب الأضرار التي قد تنتج عن انتقال الشركات من دُوَلِ الاتحاد طمعًا بالدعم الأمريكي، خصوصًا مع احتمال انتهاكه لقواعد منظمة التجارة العالمية، لكن كان للصين التي اعتبرتها استراتيجية الأمن القومي الأمريكي، منافسها الوحيد، رأيٌ آخر.

كيف استغلت الصين “قانون خفض التضخم” الأمريكي لصالحها؟

بنهاية الشهر الماضي، أعلنت شركة جوانج تشو تينسي الصينية الرائدة في مجال صناعة بطاريات الليثيوم التي يُعتَمَد عليها بنسبة 30% في إنتاج السيارات الكهربائية، أنها تخطط لبناء مصنعين؛ لإنتاج بطاريات الليثيوم خارج الصين، أحدهما، في تكساس بالولايات المتحدة؛ للاستفادة من ميزات “قانون خفض التضخم” الأمريكي، باعتبار أن إنتاج البطاريات يتم محليًا، أما المصنع الآخر، فسيكون بالمملكة المغربية.

كان اختيار المملكة المغربية بالغ الذكاء، فهي قريبة مكانيًا من الولايات المتحدة، بما يُسَهِل من عملية الشحن عبر الأطلسي بتكاليف نقل منخفضة، وهي واحدة من أهم الدول المنتجة للفوسفات الذي يدخل كَمُكَوِنٍ حيوي في إنتاج البطاريات، وبالتالي فلا حاجة لاستيراده من الخارج، لكن كان الأهم في اختيار المملكة المغربية، أنها ترتبط باتفاقية للتجارة الحرة مع الولايات المتحدة، وبهذا، فإنها تستفيد من ميزات “قانون خفض التضخم” الأمريكي.

تجدر الإشارة في هذا الصدد، أن الصين تسيطر على حصة تبلغ 77% من إنتاج بطاريات السيارات الكهربائية، وهي نسبة مُرَشَحَةٌ؛ لأن تصل إلى 85-90% بإتمام صفقتي المصنعين بتكساس والمملكة المغربية.

اقرأ أيضا نحن والبريكس والعَالَم الجديد

المملكة المغربية وصناعة السيارات

كانت المملكة المغربية، قد حصلت في عام 2010، على قرض من الوكالة الفرنسية للتنمية؛ لإنشاء أربعة مراكز للتدريب المهني للعاملين في مجال صناعة السيارات، لتبدأ بالتواكب مع عمليات تدريب العاملين في تجهيز المنطقة الصناعية في طنجة التي تنقسم إلى ثلاث مناطق: أولًا: المنطقة الحرة، وهي مخصصة لصناعة أجزاء وقطع غيار السيارات والطائرات والإلكترونيات، والنسيج، ثانيًا: مدينة طنجة للسيارات، وهي مخصصة لصناعة السيارات، وتبعد عن المنطقة الحرة بنحو 25 كيلومتر، ثالثًا: رينو طنجة المتوسط، وهي مخصصة لصناعة سيارات رينو الفرنسية، وتبعد عن المنطقة الحرة بنحو 30 كيلومتر، وبها خط للسكك الحديدية، يتم من خلاله نقل 250 سيارة يوميًا للميناء.

منحت المملكة المغربية لشركة رينو الفرنسية تسهيلات تصل إلى 30% من قيمة الأرض، والمباني بالإضافة إلى تسهيلات ضريبية، شملت الإعفاء من الجمارك على الآلات ومعدات تجميع السيارات، مع الإعفاء لمدة 5 سنوات من ضريبة الأرباح التجارية، على أن يتم خفضها لمدة 20 عامًا بعد ذلك، إن تم تصدير معظم الإنتاج.

كان للإجراءات التي اتخذتها المملكة المغربية أثرا ملموسا في خفض معدلات البطالة؛ من خلال تشغيل الأيدي العاملة، والسيطرة على التضخم وخفض عجز الموازنة مع توفير عملة أجنبية؛ بسبب التصدير حيث وصل إنتاج المملكة حاليًا إلى 700 ألف سيارة سنويًا، يتم تصدير 90% منها إلى أوروبا. لم تكتفِ المملكة المغربية بإنتاج سيارات لماركات عالمية بمصانعها، لكنها أعلنت منذ شهرين، أنها بصدد إنتاج أول سيارة محلية بالكامل تحمل علامة “صُنِع في المغرب”.

مساهمة البريكس المُمكِنة في توطين صناعة السيارات الكهربائية وبطارياتها في مصر

بعد إعلان انضمام مصر رسميًا كعضو كامِل العضوية بتكتل بريكس مع مطلع العام المُقبل، ستكون الفرصة متاحة بشكل أكبر للترويج لمزيد من الاستثمارات المباشرة للدول المنضوية تحت لواء تكتل البريكس- وتحديدًا الاستثمارات الصينية- في مجال تصنيع بطاريات السيارات الكهربائية. فالاهتمام الصيني بإنتاج تلك البطاريات، وتعظيم حصتها العالمية منه يتزايد، ومصر -وفق آخر الدراسات المتخصصة- تتمتع بثروات كبيرة من خام “الليثيوم” في بحيرة قارون، ذلك الخام الذي يشكل مُكَوِنًا هامًا في صناعة البطاريات الكهربائية LMFP، والذي قَدَّرَ الخبراء إمكان إنتاج مصر لـ 500 طن سنويًا منه، بما يكفي لتشغيل 100 ألف سيارة كهربائية.

بخلاف توافر خام الليثيوم كمورد طبيعي في مصر، وانخفاض تكلفة العمالة، فإن الموقع الجغرافي يتيح لمصر مكانة متميزة في تصنيع، وتوزيع بطاريات السيارات الكهربائية، بل وتصنيع السيارات الكهربائية ذاته، لتغطية احتياجات السوقين الإفريقي والعربي بعيدًا عن المنافسة مع المغرب التي ينصَبُ تركيزها على السوق الأوروبي.

وأنت، إن أخذت بالاعتبار أن الاتحاد الأوروبي كان قد قرر حظر السيارات التي تعمل بالبنزين، والاعتماد بالكامل على السيارات الكهربائية بحلول عام 2035، وكذا الإعلان الأُمَمي بالوصول إلى الحياد الكربوني بحلول عام 2050، بما يعني الاعتماد العالمي المطلق في ذلك التاريخ على الطاقة النظيفة، ستدرك مدى احتياج السوق العالمي للسيارات الكهربائية التي بلغ حجم مبيعاتها في عام 2022، نحو 10 ملايين سيارة، ومن المتوقع أن يصل إلى 15 مليون سيارة هذا العام.

يشير ذلك كله إلى، أن هناك فرصة استثنائية أمام مصر، بعد انضمامها رسميًا لتكتل البريكس التي تتزعمه الصين صاحبة الحصة الأكبر في هذا المجال، أن تصير مؤهلَةً للاستفادة من شراكات استثمارية، وتكنولوجية جديدة في مجالات متعددة، يأتي على رأسها هذا المجال الواعد الذي يحمل كل إمكانات النجاح، بمزيدٍ من التخطيط والتطوير في البِنى التحتية والفوقية.