أصبح مصطلح الحرب بالوكالة من الثوابت في التحليلات، والمقالات حول منطقة الشرق الأوسط مؤخرا. العديد من المحللين والكتاب يصبغون الصراعات في العراق ولبنان، وفي العقد الأخير سوريا وليبيا والسودان، واليمن بصبغة الحرب بالوكالة. الوكلاء المحليون في تلك البلدان يتم وصفهم بالتبعية لدول إقليمية، تحتل مراكز قوى في المنطقة، وأهمهم في منطقة الخليج إيران والسعودية والإمارات وقطر. ربما قد تحوي تلك الصراعات بعض العناصر التي تتوافق مع مفهوم الحرب بالوكالة، ولكن في واقع الأمر، الخلافات بين العناصر الداخلية في تلك البلدان أكثر عمقا، وتعقيدا من وصفهم كمجرد وكلاء للخليج. ولكن هذا لا يمنع بأن انخراط الدول الخليجية في الصراع، ألهبت نيران تلك الصراعات المتواجدة بالفعل.
الحرب بالوكالة، ليس مصطلحا سهلا تعريفه، فهناك عدة تعريفات غير متجانسة للمفهوم. يعرف ياكوف بار سيمان توف الحروب بالوكالة، بأنها عندما “يحارب طرف أول طرفا ثانيا بناء على طلب طرف ثالث” ولذلك شرط، أن تكون الحرب حربا بالوكالة، أن يوجد طرف ثالث منشط للصراع، هذا في حال، أن هناك قوة ذات ثقل دولي، أو إقليمي استفادت من صراع بين أطراف أصغر، لا يعد حرب بالوكالة. فلاديمير روتا، يضع أيضا تعريفا للحرب بالوكالة، يتكون من ثلاثة عوامل. العامل الأول، هو العامل المادي أي وجود دعم مادي من طرف إلى طرف آخر. العامل الثاني، هو إجرائي، ويتضمن أن يوافق طرف على أن يحارب بالنيابة عن الطرف الآخر. أما العامل الأخير يطلق عليه العلائقية، وهو عندما يقوم الوكيل مثل الجماعات المتمردة، بصناعة وكيل آخر في علاقة؛ لخدمة نفس هدف القوى الأكبر.
هذه التعريفات الدقيقة لمصطلح الحروب بالوكالة، تعد منطلقا جيدا؛ لتحديد وتقييم، إن كان دعم دول مجلس التعاون الخليجي للأطراف المحلية المسلحة المختلفة في اليمن، والسودان وليبيا وسوريا بالإمكان توصيفه بالحرب بالوكالة أم لا.
الخليج ومحاكاة إيران.
إيران من أكثر الدول النشطة في الحروب بالوكالة بالمنطقة؛ لبسط سيطرتها. هناك وكلاء لإيران في المنطقة، في عدة بلدان وأشهرهم في لبنان يتواجد حزب الله بقيادة حسن نصر الله، ولقد أكد حسن نصر، بأن جميع موارد حزب الله من المأكل للأسلحة تأتي من إيران. أما في العراق يوجد كتائب حزب الله، وحركة النجباء، وعصائب أهل الحق، ومجموعات أخرى، يحظون بالدعم العسكري والمالي واللوجيستي من طهران. وفي سوريا يوجد لواء زينبيون، ولواء فاطميون، وفي اليمن يتواجد الحوثيون الذين يعدهم البعض وكلاء لإيران.
السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي كانوا غير منخرطين عسكريا بشكل كبير سابقا، ولكن في العقد الأخير حولت دول الخليج استراتيجيتها في المنطقة، نحو مزيد من العنف والقوة. في سوريا، دعمت دول الخليج جماعات مسلحة في مواجهة نظام بشار الأسد المدعوم من إيران. دعمت دول الخليج الجماعات المتمردة بالسلاح والأموال والتدريب. لم تدعم دول الخليج ما يطلق عليها المعارضة المعتدلة فقط، بل دعموا أيضا جماعات ارهابية. فقطر والسعودية والكويت، كانوا يسمحون لأفراد بتمويل القاعدة في سوريا. فضلت السعودية جماعات جيش الإسلام وجبهة الفتح. أما في اليمن، فلقد دعم التحالف الخليجي بقيادة السعودية عبد ربه منصور هادي؛ لمحاربة الحوثيين الذي يحظون بدعم إيران. ذلك الدعم الذي وصل إلى إطلاق دول الخليج عدوان على اليمن.
الإمارات كانت نشطة أيضا بدعم أطراف خارجية. لعبت الإمارات دورا رئيسيا في ليبيا، بدعم الجنرال خليفة حفتر من أجل القضاء على الإسلاميين. كشف تقرير للبنتاجون، بأن الإمارات تمول مجموعة فاجنر الروسية؛ للقيام بعمليات في ليبيا. كما أشار تحقيق للبي بي سي، بأن الإمارات وجهت ضربات قاتلة بطائراتها المسيرة في ليبيا، لدعم حفتر، كما أشار التقرير إلى، أن الإمارات استخدمت القواعد العسكرية المصرية. بالإضافة إلى، أن تقرير للأمم المتحدة توصل، بأن الإمارات كانت ترسل معدات عسكرية وأسلحة لحفتر في انتهاك لحظر الأسلحة. ولكن مؤخرا تقوم الإمارات بتغيير تحالفاتها في ليبيا. يلاحظ عماد الدين بديع، بأن الإمارات بدأت بالتقارب مع حكومة الوحدة الوطنية، ورئيس وزرائها عبد الحميد الدبيبة، حيث أن الدبيبة يسعى لإبرام اتفاقات مع الإمارات في قطاعات الطاقة، والاتصالات والمواني والمناطق الحرة، هذا أتى أيضا بالتزامن مع التقارب الإماراتي – التركي. وبالفعل بدأت الإمارات بتخفيض دعمها المالي لحفتر.
صراعات خليجية – خليجية
انعكس الخلاف بين قطر ودول مجلس التعاون الخليجي في الصراع السوري. حيث دعمت قطر أطراف مثل، القاعدة وجماعة الإخوان. بينما اختارت السعودية مجموعات مثل، جيش الإسلام وجبهة الفتح. ولكن بعد أن تصالحت قطر مع دول الخليج بدأ ظهور انشقاق آخر بين الإمارات والسعودية، مما انعكس بدوره على علاقاتهم مع الأطراف الإقليمية.
على الرغم من أن الإمارات والسعودية كانوا في صف واحد في اليمن، ولكن سرعان ما افترقا. الإمارات رأت في المجلس الانتقالي الجنوبي الذي يسعى لاستقلال جنوب اليمن فرصة؛ لتحقيق مصالحها، وهذا جاء في الوقت الذي توترت فيه العلاقة بين الإمارات وهادي الذي وصل إلى أن هادي وصف التدخل الإماراتي بالاحتلال. يلاحظ غريغوري جونسن، بأن الإمارات لها 3 اهداف استراتيجية في اليمن، مما أدى إلى افتراق مصالحها مع السعودية في اليمن. أولا: تسعى الإمارات لإثبات بأنها حليف جيد للولايات المتحدة، خلال مواجهة القاعدة وداعش. ثانيا: تريد الإمارات إضعاف حزب الإصلاح التابع للإخوان المسلمين في اليمن. وثالثا: تسعى الإمارات لتأمين السواحل في اليمن؛ لضمان مصالحها التجارية، مما يجعل فكرة سيطرة المجلس الانتقالي للجنوب جذابا للإمارات.
ظهر الخلاف الإماراتي السعودي في دعم الأطراف المختلفة في السودان أيضا. حيث أن السعودية تدعم الجيش النظامي السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان. أما الإمارات فتوفر الدعم لحميدتي، وهذا يرجع لعدة أسباب منها، سيطرة حمديتي على مناجم الذهب، وسعى الإمارات للحفاظ ولمد مصالحها الاقتصادية في مجالات المواني، والمواد الزراعية في السودان، بالإضافة إلى معاداة حميدتي للإسلاميين.
هذا التباين بين السعودية والإمارات في دعم أطراف إقليمية متناقضة، يأتي في سياق تصاعد التنافس الاقتصادي والسياسي بينهم. كما يرى تشارلز دن، أن مجيء محمد بن سلمان للسلطة صاحبة رؤية جديدة للملكة اصطدمت مع مركز الإمارات في المنطقة ورؤيتها لمكانة الإمارات. رؤية ابن سلمان تسعى لجعل الرياض المركز التجاري والاقتصادي والترفيهي، الأكبر في المنطقة، مستبدلة المكانة التي كانت تحتلها الإمارات. وكذلك الإمارات والسعودية يسعيان لهدف واحد، وهو تنويع الاقتصادات بدلا من الاعتماد على النفط، واحتلال المكانة كمركز اقتصادي، وتجاري رئيسي في المنطقة.
مصطلح مبسط وواقع معقد
قد يبدو للوهلة الأولى، بأن مصطلح الحرب بالوكالة مناسب؛ لتوصيف تدخلات دول الخليج. يجادل عوزي ربيع، وتشيلسي مولر، بأن تصاعد الصراعات الطائفية في المنطقة يعود إلى الصراع بين إيران والسعودية الذي وصل إلى أشده، عقب سقوط صدام حسين، وفي أعقاب الربيع العربي، وجدت السعودية وايران في الانقسامات الطائفية بين السنة والشيعة، وحالة عدم الاستقرار في بلاد مثل، سوريا واليمن والعراق ساحات ليتوسعوا في نطاق حربهم الباردة، خلال الحروب بالوكالة. العديد من المحللين الآخرين وصفوا تصرفات السعودية، والإمارات في السودان وليبيا واليمن وسوريا بالحروب بالوكالة. ولكن لا يتفق الجميع على توصيف الصراعات الأخيرة بالحروب بالوكالة.
ولكن البعض رأى خطأ تحليليا، باعتبار التدخلات الخليجية كحروب بالوكالة. ترفض إرم أشقر كركر بتوصيف حرب اليمن بحرب بالوكالة، لأنها ترى، بأن الحرب الأهلية لم يبدأها الصراع السني الشيعي بين الرياض وطهران، بل الصراع اليمني، يرجع لعوامل داخلية، وخاصة الغضب الشعبي، ضد النظام الحاكم؛ بسبب الأوضاع الاقتصادية والفساد، وتجادر كركر، وتظل أولوية السعودية تأمين حدودها فقط لا غير، وإيران لا تولي أهمية لليمن، كما تفعل في العراق ولبنان، فالتدخل الإيراني والسعودي، جعل الصراع أكثر تعقيدا، ولم يبدأه. ويرى آدم بارون، بأن الصراع اليمني لا يمكن فهمه من خلال رؤية الصراع، كصراع داخلي فقط أو حرب بالوكالة بين أطراف خارجية فقط، بل يمكن فهمه بين التداخل بين العوامل الداخلية والتدخلات الخارجية، لأن الأطراف اليمنية ليست تابعة بشكل تام لإيران، أو السعودية أو الإمارات، بل ما يربطهم هو توافق المصالح. ترى ماجدالينا الغماري أيضا، بأن مصطلح الحرب بالوكالة، لا يناسب الوضع اليمني أيضا، لأن السعودية تدخلت عسكريا بشكل مباشر في اليمن، وقتلت مدنيين باستخدام قنابل عنقودية، فاستخدام مصطلح حرب بالوكالة في هذا السياق، يخفف من مستوى عدوان السعودية، كما أن سيطرة الحوثيين على صنعاء، كان قرار الحوثيين وحدهم، ونفذوه على الرغم من رفض إيران لهذا، مما يوضح عدم تبعية الحوثيين لأوامر إيران.
في ليبيا أيضا، الوضع مماثل. تجادل أليسيا ميلكانجي، وكريم مزران، بأن الصراع الليبي لا يمكن وصفه بالحرب بالوكالة، ويشرحان بأنه عقب سقوط نظام القذافي تشرذم نظام الحكم، والأمن في البلاد إلى عدة مراكز محلية. تلك الأطراف المحلية، ظلت محكومة بقواعد الدولة الريعية، فكان اهتمامها الأول هو التصارع حول موارد النفط، والحفاظ على الزبونية في علاقاتها مع قواعدها. ولتلك المصالح الداخلية للأطراف الليبية، وضع لها أهداف مستقلة عن مصالح الدول الخارجية التي تدعمها، وبالنسبة للأطراف الليبية تصبح الأطراف الخارجية مجرد أداة، يحافظون بها على نفوذهم الداخلي فقط، وهذا ظهر على سبيل المثال في العملية العسكرية لحفتر على طرابلس التي اتخذها بشكل أحادي، وتعنته في المفاوضات. وقبلها في سوريا أيضا، يمكن ملاحظة هذا النمط. كما أشار أسعد أبو خليل، بأن الأزمة السورية كانت نتيجة؛ لسببين ليسوا بمعزل عن بعضهم، وهما مظالم نظام الأسد القمعي من ناحية، وتدخلات الخليج من ناحية أخرى، فالخلاف بين قطر والسعودية الذي انعكس على دعما لأطراف مختلفة في الحرب السورية أشعل الصراع ومزق سوريا.
وفي السودان أيضا، يبدو الوضع مماثلا، حيث أن الجنرالات لهم مصالحهم الخاصة. فالصراع بين حميدتي والبرهان على السلطة له جذور عميقة، ظهر في عدة محطات سابقة مثل، الخلاف حول مدة تنفيذ الاتفاق الإطاري والخلاف المحوري، حول ضم قوات الدعم السريع للجيش النظامي. بالإضافة الى عدم وجود دليل، بأن الجنرالات يتبعون أوامر ومصالح الإمارات والسعودية بشكل أعمى. فانقلاب الجيش في أكتوبر 2021، كان غير مخطط له، بل أن بعض الدبلوماسيين الخليجيين، والمصريين، اعتبروا الانقلاب حركة متهورة. ولذلك الصراع السوداني لم تبدأه أي دولة إقليمية، ولكن تدخل الإمارات والسعودية أجج الصراع بلا شك.
جسد المريض والطفيليات الخليجية
انخراط دول مجلس التعاون الخليجي في الصراعات الداخلية في السودان، واليمن وسوريا وليبيا، لا يمكن توصيفه بحرب بالوكالة. لأنه بينما بالفعل تقوم دول التعاون الخليجي بتوفير الدعم المادي لأطراف متصارعة، ولكن تغيب باقي العناصر التي تجعل تلك الصراعات حربا بالوكالة. فتلك الصراعات موجودة بالفعل، ولا تنشطها دول الخليج. كما أن للأطراف المحلية في تلك البلدان مصالح مستقلة عن دول الخليج، ويتصرفون بناء على مصالحهم الخاصة، وليس مصالح الدول الخليجية. ولكن على الرغم من عدم إمكانية وصف التدخلات الخليجية بحرب بالوكالة، تظل تدخلات الإمارات والسعودية منبعا؛ لتأجيج الحروب والفوضى والعنف في المنطقة. تستغل دول الخليج الصراعات المحلية، وتلهب نيرانها، مما يفاقم من حدة الصراع. لم تصبح الشرق الأوسط ساحة للصراع الإيراني – السعودي فقط، بل أصبحت المنطقة أيضا ساحة حرب، تعكس الصراعات الداخلية بين دول مجلس التعاون الخليجي. يمكن وصف تدخلات مجلس التعاون الخليجي في السودان، واليمن وسوريا وليبيا بالطفيلية. فالسعودية والإمارات يشابهون الطفيليات التي تستغل، وتهاجم الجسد ذي المناعة الهشة؛ لتلتهمه من داخله.
ولكن من المفارقات، بأن الطفيليات الخليجية التي تقتات على الصراعات، غير ناجحة في مهمتها. تدخلات الرياض والإمارات؛ أدت إلى المزيد من الفوضى، وعدم الاستقرار، بدلا من أن تحل الصراعات أو تحقق الاستقرار في المنطقة. في اليمن ظنت السعودية، بأنها ستحقق انتصارا سريعا، ضد الحوثيين، اليوم بعد ثماني سنوات، تستمر الرياض في حربها على اليمن مسببة واحدة من أكبر الكوارث الإنسانية في المنطقة، وغير قادرة على القضاء على الحوثيين. أما في سوريا، فشلت دول الخليج أيضا في إسقاط نظام الأسد، بعد أن اعتبروا سقوطه أمر حتمي في بداية الصراع السوري. ومؤخرا أعلنت دول الخليج استسلامها، بعد ضم الأسد للجامعة العربية مجددا. ولا تزال الصراعات والفوضى دائرة في ليبيا والسودان، بلا تحسن ملحوظ. في هذا السياق الإمارات والسعودية يمثلون الطفيليات التي تحاول احتلال الجسد المريض، ولكنها تفشل في السيطرة عليه، فتتركه بعد أن مزقت الجسد من داخله في حالة بين الحياة والموت.