أوتو فون بسمارك 1815- 1898 م ــ رجل الدولة القوي الذي أنجز حلم الوحدة الألمانية- كان من رجال السياسة الذين يؤمنون بالقوة، والدولة، وكان يحترم عبقرية الشعب الإنجليزي، لكنه لم يكن يحترم النظام البرلماني الذي ابتدعه الإنجليز، والذي كان يضع الشعب فوق الدولة، ويضع البرلمان فوق السلطة التنفيذية، ويسمح بمساءلة الجيش ورقابته من الشعب، عبر لجان برلمانية متخصصة في الأمن القومي.

كان بسمارك يقول: ” الجيش أمر مقدس يجب ألا يخضع لأي سيطرة برلمانية”. كانت الأغلبية في البرلمان ممن يؤمنون بمبادئ الديمقراطية والحرية، بينما كان بسمارك ينظر إلى كافة مبادئ الحرية، على أنها قوة لا يؤبه لها، وعلى حسب تعبير المؤرخ الإنجليزي هربرت فشر في ص257، من كتابه “تاريخ أوروبا: الخبرة الليبرالية” والذي تمت ترجمته في مصر تحت عنوان “تاريخ أوروبا في العصر الحديث”، فإن بسمارك لم يكن يخشى، أن يعلن ازدراءه  للمبادئ الحرة، وكان يعتقد أن من اليسير عليه سحقها، وإحلال مبادئ أخرى مكانها”.

وفي ص 256 يقول هربرت فشر، إن بسمارك دخل في معارك تحدي ضد الأغلبية البرلمانية، دون أن يخشى عقابا، ونجح في أن ينقش نقشاً عميقاً في الحياة الدستورية الألمانية مبادئه المضادة للمبادئ الحرة ، وتتخلص مبادئه في : من حق البرلمان إجازة الضرائب الجديدة ، ومن حقه كذلك مناقشة مشروعات القوانين الجديدة ، لكن هناك ثلاثة أمور خارج صلاحيات البرلمان وهي : الأولى ، ليس من حق البرلمان أن يتناقش في المسائل الخاصة بالجيش  . الثانية ، ليس من اختصاص البرلمان أن يضع السياسة العامة للدولة . الثالثة ، ليس من حق البرلمان تشكيل الوزارات أو إسقاطها مثلما يحدث في بريطانيا . واستمرت مبادئ بسمارك معمولاً بها في ألمانيا لمدة عشرين عاماً من وفاته 1898م حتى نهاية الحرب العالمية الأولى 1918م . هذا الفكر الوطني العسكري الاستبدادي دفع ألمانيا وأوروبا والعالم إلى أكبر حربين مدمرتين في تاريخ الحضارة الإنسانية .

لويس الرابع عشر 1638 – 1715م كانت لديه المبادئ ذاتها ، مزيج الوطنية مع العسكرية مع الاستبداد ، وطنية عنيفة ، عسكرية عنيفة ، استبداد عنيف ، وكل ذلك لم يسمح بأي هامش لحريات عامة أو فردية ، فقد أخمد الحريات الشخصية بما فيها المراسلات ، وفرض الرقابة الصارمة على حرية الصحافة ، وحصن فرنسا ضد تأثير المطبوعات الهولندية والإنجليزية.

في ص 316 من كتابه الآخر المترجم تحت عنوان ” أصول التاريخ الأوروبى الحديث : من النهضة الأوربية إلى الثورة الفرنسية ” ، كتب هربرت فشر يقول ” أن شكل الحكومة البرلمانية التي كسبتها انجلترا كانت أكثر ملاءمة من الحكم الاستبدادي في فرنسا لمواجهة الأزمات المالية والاجتماعية ” ، ثم يتحدث عن سياسة لويس الرابع عشر الوطنية العسكرية الاستبدادية فيقول ” أما لويس فقد نبذ كل سلطة دستورية من شأنها أن تحد من سلطات الملك ، فرفض أن يستدعي مجلس طبقات الأمة ، وقصر مهمة البرلمانات على وظائفها القضائية ، وأدار حكومة البلاد عدد من الوزراء واللجان يعملون مع الملك ، وترك امتيازات النبلاء دون مساس ، وكان النبلاء من قادة حروبه أو من رجال بلاطه ، وقد استنزفت الحروب اقتصاد البلاد ، وبقيت أكبر أعباء الدولة المالية تقع على أكتاف أفقر طبقات المجتمع  ” . وعن عواقب هذا الفكر الوطني العسكري الاستبدادي يقول فشر ” إن فترة حكم لويس الرابع عشر تركت فرنسا في حالة شنيعة من البؤس ، كما لو كانت انتصاراتها قد استحالت إلى هزائم ” .

ديكتاتورية بسمارك العسكرية كانت تحمي الرغبة الكامنة في الغزو والتوسع ، ديكتاتورية لويس الرابع عشر العسكرية كانت تحمي الفساد المالي ونفقات الحروب وامتيازات النبلاء ، يقول فشر ” بينما كان النبلاء منغمسين في حفلات الصيد والرقص والمقامرة ، كانت الكلاب المتعطشة للدماء تتعقب الفقراء التعساء الذين يهربون الملح ، وكان جُباة الضرائب يدخلون السجون لأنهم يفشلون في إلزام الفلاحين التعساء بدفع ما عليهم من ضرائب عقارية ، لقد عجز المصلحون عن مقاومة المصدر الأساسي لهذه الشرور ، فلا أقل من ثورة تقضي بإدخال مبدأ المساواة في مالية فرنسا ” . انتهى الاقتباس .

بالقطع أوروبا  تغيرت ثم تطورت ثم تقدمت صوب الديمقراطية ، فلم تعد ألمانيا مثلما كانت تحت قبضة بسمارك الحديدية في خواتيم القرن التاسع عشر ، كما لم تعد فرنسا مثلما كانت تحت ديكتاتورية لويس الرابع عشر عند مطلع القرن الثامن عشر ، اليوم كل الحكومات في أوروبا تخضع للمساءلة ، والبرلمانات تضع السياسة العامة للدولة ، والحريات العامة مصونة ، والحريات الخاصة مقدسة ، والرأي العام سيد مطاع ، والجيوش قلاع حرب وحصون قتال محترف متخصص ،  وليست مؤسسات حكم ولا بيزنس ولا مال ، الجيوش تحمي ولا تحكم ، وتحرس ولا تملك ، تخضع للسلطة التنفيذية ، والسلطة التنفيذية تراقبها السلطة التشريعية ، والسلطة التشريعية يختارها الشعب ، والقضاء سلطان الضمير الحر المستقل العادل يفصل بين الجميع فيما ينشب بينهم من أوجه النزاع أو الاختلاف .

………………………………………………………………..

الوضع عندنا في مصر مختلف ، فلم يكن عندنا من يريد عظمة مصر مثلما أراد بسمارك ولويس عظمة ألمانيا وفرنسا ، لكن كان عندنا مغامر شديد الدهاء ومقامر واسع الحيلة ، وجد بلداً في حالة فراغ سياسي كامل ، بين سيادة عثمانية تحللت حتى تعفنت ، وسيطرة مملوكية في أنفاسها الأخيرة ، وشعب فيه الكثير من المزايا لكنه منزوع مزية التفكير المستقل ومنزوع الطموح السياسي ومنزوع أدنى خبرة في التطلع إلى السلطة أو مزاولة الحكم ، شعب مزارع غير محارب ولا مقاتل مما يزيد على ألفي عام . هذا المغامر – في هذا الفراغ – كانت كل الظروف معه وتعمل لصالحه حتى انفرد بحكم مصر نصف قرن ثم حكمها أبناؤه وأحفاده قرناً آخر ، ثم ورثها عنهم ضباط من صغار الرتب في الجيش ، وقد عملت كل الظروف لصالحهم سبعين عاما  ومازالت متواصلة حتى كتابة هذه السطور .

الفكرة الأساسية التي أرساها محمد علي باشا وصارت الروح السارية في بنيان ما يسمى الدولة الحديثة هي : اقتصاد البلد في خدمة الجيش ، والجيش في خدمة المطامح السياسية للباشا  ، والباشا فوق المساءلة ، وقد توارث حكام مصر هذه القاعدة لافرق بين باشوات ما قبل 23 يوليو 1952م وضباط ما بعدها ، الجميع استمتع ومازال يستمتع وسوف يظل لأجل لا يعلمه إلا الله يستمتع بهذه القاعدة. وقد ترتب على هذه القاعدة أن دخل اقتصاد مصر في دورات متعاقبة من الاستنزاف ، ولتكون خلاصة قرنين من الدولة الحديثة أن ثلثي الشعب المصري تحت خطوط الفقر أو في تماس مباشر معها.

الدولة الحديثة حصنت كلاً من الحاكم والجيش من المساءلة ، لم تسمح بقليل ولا كثير من ذلك ، ولهذا أجهضت التطور البرلماني ، وجعلت البرلمانات منزوعة الحق في وضع السياسات العامة للدولة ، وجعات ذلك حقاً حصرياً للحاكم المفرد المطلق من محمد علي باشا حتى يومنا هذا ، فلم يعرف الشعب خلال أكثر من قرنين من الزمن الديمقراطية التي هي حكم الشعب بالشعب لصالح الشعب ، لكن عرف أشكالاً مختلفة من الديكتاتورية تلتقي حول قاعدة :  حكم الشعب ، بفرد مطلق لا يُسأل عما يفعل ،  لصالح البعض من المقربين والمحظوظين وذوي الامتيازات ، وذلك على حساب الأغلبية من الشعب المستكين لأقداره والمغلوب على أمره  .

هذه القاعدة باتت هي المصيدة التي ابتلعت كل مبادرات التحديث والتنوير والديمقراطية وحقوق الانسان والحريات العامة والخاصة ، كما أنها – أي هذه القاعدة – هي المسؤولة عن التراجع المنتظم لوزن مصر الحضاري ودورها ورسالتها في الإقليم ، حيث أدت الديكتاتوريات الوطنية العسكرية الاستبدادية المتعاقبة إلى استهلاك طاقة الشعب وتبديد روحه المعنوية وطمس فكرة المبادرة وقتل همة التسابق وخنق القدرة على التجديد والابتكار والابداع .

هذا الوضع البائس الذي تأسس قبل قرنين ، لم يولد فجأة ، ولم يظهر بغتة ، لكن له جذوره البعيدة في تاريخ مصر ذاتها ، لم يستورده محمد علي باشا ولم يأت به معه من البلاد التي رمت به علينا ، ثم لم يستوردها الرؤساء من ضباط الجيش ولم يأتوا بها معهم من الثكنات العسكرية . امتيازات العسكريين ودورهم في الاقتصاد لم يبدأ – فقط – مع جيش محمد علي باشا ولا مع حكم ضباط الجيش منذ منتصف القرن العشرين ، للأمر جذوره القريبة في القرن الثامن عشر ، مثلما له جذوره البعيدة في القرن الثاني عشر ، ثم في القرن الثالث عشر ، أي له جذوره في المعضلة الكبرى وهي : من يحمي أمن مصر ؟ وبأي مقابل وبأي ثمن يحمي أمن مصر ؟ .

ففي القرن الثاني عشر حيث ضعفت الخلافة الفاطمية في القاهرة عن حماية أمن مصر من الغزوات الصليبية ، كما سبق وعجزت الخلافة العباسية في بغداد عن حماية الشرق الإسلامي ، في تلك الأثناء ظهرت القوى الدفاعية الجديدة ، تمثلت في الدولة الزنكية ثم الدولة الأيوبية ، وكلتاهما تكفلت بالحماية في مقابل إقطاع الأرض للعساكر والقادة والأمراء ، ثم أخذت الدولة المملوكية عنهما هذا النظام ، حيث مواجهة الصليبيين ثم المغول في مقابل توزيع أرض مصر إقطاعات لمصلحة المقاتلين  .

هذا النظام ، أي تقديم خدمات الأمن والحماية والدفاع في مقابل امتيازات للجند تتمثل في توزيع البلاد عليهم في شكل إقطاعات ، عرفته أوروبا كذلك ، بل سبقت في تطبيقه ، وللظروف ذاتها الشبيهة بظروف الشرق الإسلامي . بدأت الضرورة إلى نظام الإقطاع العسكري تظهر مع سقوط الأمن الامبراطوري الذي كانت تبسطه الامبراطورية الرومانية قبل سقوطها في الربع الأخير من القرن الخامس الميلادي ، عرفته أوروبا بعد سقوط الامبراطورية الرومانية ، وعرفه الشرق الإسلامي بعد تحلل الخلافة العباسية وتدهور الخلافة الفاطمية وانكشاف الشرق الإسلامي أمام تدفق الفرنجة الصليبيين من غرب أوروبا وتدفق المغول التتار من سهوب آسيا .

أوروبا في تلك القرون لم تكن تستخدم مصطلح إقطاع ، كانت تستخدم مصطلحين معاً ، هما ” السيد والتابع ” السيد هو الإقطاعي الأعلى أو النبيل الأسمى والتابع هو الإقطاعي الأدنى أو الطرف المحلي العائش على الأرض ” ، لكن عندنا كان المصطلح يستخدم كما هو باللغة العربية ، أقطع يُقطعُ إقطاعاً ، واشتهر الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي أنه ووالده يوسف نجم الدين أيوب وعمه أسد الدين شيركوه بدأوا طريقهم للمجد بأن دخلوا في خدمة الدولة الزنكية في مقابل الحصول على إقطاعات مكنتهم من تحقيق مكانة سياسية ، وكذلك اشتهر القائد صلاح الدين بأنه أول من وزع أرض مصر إقطاعات على أقاربه وأمرائه وقادته وعساكره ، بل وزع الإمبراطورية التي كونها على أسرته كتركة شخصية وكميراث شخصي ، وهو الأمر الذي ترتب عليه أن اشتعلت الحروب بينهم بأكثر مما اشتعلت بينهم وبين الصليبيين.

وقد استعان بعضهم بالصليبيين ضد البعض الآخر ، وقد تطوع أحدهم – الملك الكامل – ورد بيت المقدس للصليبيين كعربون صداقة معهم . وقد سقط الأيوبيون إذ ضعفوا عن صد الأخطار ، ونهض مكانهم خدمهم ومماليكهم وتصدوا للمواجهة بما أمكنهم من تأسيس دولة قوية بسطت حمايتها على الشرق الإسلامي ومنع موجات الصليبيين والمغول، وفي المقابل استقرت قاعدة المقاتل الإقطاعي أو الجندي الإقطاعي أي من تتكفل الإقطاعات الممنوحة له بنفقات معيشته وأدوات حربه وتسليحه . وعندنا ، مثل أوروبا ، تطور النظام بالتدريج البطيء ،  بدأ بأن يتكفل السيد بنفقات تابعه ، ثم إقطاع الأرض بحق الانتفاع دون توريث ، ثم زيادة حقوق الانتفاع حتى وصلت حد التوريث .

لكن تظل هناك فروق بين الإقطاعين العسكريين في غرب أوروبا والشرق الإسلامي ، من أهم هذه الفروق أن الإقطاعي الأوروبي استولى على السلطات المحلية كافة وحجب عنها السلطة المركزية فكان له بوليس خاص بمنطقته تحت سلطته ومحاكم وهكذا ، ثم فرق أهم وهو أن الإقطاعيين الأوروبيين مع الأيام صاروا قوة سياسية تدخل في صدام مع السلطة المركزية ، ولم يحدث شئ من هذا ولا ذاك في الشرق الإسلامي .

في ص 286 من كتابه ” التاريخ الوسيط ” يقول نورمان ف . كانتور ” كان النظام الإقطاعي قُطباً مُضاداً لسلطة الملك ذاته ، وطالما كان الملك القابع في باريس عاجزاً عن أن يهزم دوق نورماندي أو كونت تولوز ، فإنه لم تكن له سيطرة عليهما ولا على غيرهما ، وذلك رغم أنهما يتبعانه من الناحية الرسمية ، فقد كان جيش دوق نورماندي أقوى كثيراً من جيش الملك ، كما أن الفرسان النورمانديين لم يعترفوا إطلاقاً بأن الملك هو سيدهم الأعلى ، ومن الناحية العملية فإن ملك فرنسا لم يكن أكثر من دوق باريس ” . انتهى الاقتباس .

………………………………………………………………………..

السؤال الآن : هل نظريات الدفاع القديمة ، التي تعود إلى القرن الثاني عشر ، الدفاع مقابل الأرض ، هل لها من صلات بالواقع في عصرنا الحاضر ؟

فيما يخص أوروبا ، نعم ، لها تأثير ، بل تأثير كبير ، فالقيم العسكرية والسياسية التي أنتجها الإقطاع العسكري هي التي صنعت روح ومزاج وطبائع وخصائص الدولة الأوروبية الحديثة حتى يومنا هذا ، فجذور الغطرسة الأوروبية وادعاء التفوق الأوروبي وحق أوروبا في قيادة العالم وتسيده والسيطرة عليه ووضعه تحت هيمنتها ، كل هذه القيم الأوربية التي نلمسها على مدار الساعة تعود جذورها إلى القرن الثاني عشر .

في ص 287 من كتابه ” التاريخ الوسيط ” يقول نورمان ف . كانتور ” أما القيمة الإقطاعية الأولى ، وهي التي تتعلق بالقيمة الاجتماعية للبطولة والبسالة العسكرية ، هذه القيمة كانت المثل الأعلى الذي تحتذيه الزعامة الأرستقراطية في المجتمع ، حيث فارس العصور الوسطى يمتطي فرسه ويبحث عمن يخدمه ويقدم له الخدمات في مقابل ما يوفره له الفارس من حماية ، ولهذا كان المجتمع الإقطاعي يحتفي بقيمة القوة الجسدية ” ، ثم يقول ، وهذا هو لب الأمر وخلاصته  ” ومنذ القرن الثاني عشر حتى القرن العشرين ( الكتاب صادر 1972م ) ظل مبدأ تفوق الأقوى وسيادته على الضعيف هو الأساس الذي تقوم عليه سياسات الدول الأوروبية ” ، ثم يقول في عبارة حاسمة تكشف عن روح الإقطاع العسكري الكامنة في تلافيف العقل الأوروبي ، يقول ” ولا تزال رواسب الإقطاع هذه تتلكأ ، وتصب شرورها الملعونة ، وتذل أعناق الدعاة إلى السلام ، وتنأى بالبشرية بعيداً عن السلام والسعادة ” . انتهى الاقتباس .

روح الإقطاع العسكري التي كان يمارسها الأوروبيون ضد بعضهم في القرن الثاني عشر هي – ذاتها – روح الإقطاع العسكري التي تقف وراء نزعة الهيمنة والتسلط الأوروبي على العالم ، هذا هو بإيجاز شديد معنى كلام نورمان ف . كانتور .

السؤال ذاته ، مرة ثانية ، هل نظريات الدفاع القديمة ، امتيازات في مقابل الدفاع ، ما زال لها تأثير في واقعنا في مصر والشرق العربي الإسلامي ؟

الجواب عند الأستاذ الدكتور رؤوف عباس في تقديمه لكتاب الدكتورة نيللي حنا ” ثقافة الطبقة الوسطى في مصر العثمانية من القرن السادس عشر حتى القرن الثامن عشر ” ، يقول ” لعب العسكر في القرن الثامن عشر دوراً شبيهاً بذلك الدور الذي لعبوه في القرنين الثاني عشر والثالث عشر ، عندما انتهت إليهم مقاليد الأمور في عصر التحديات الخارجية ، الغزو الصليبي ثم المغول ، فتم في الحالتين إجهاض حركة الرأسمالية التجارية المصرية ، والتركيز على النظام الإقطاعي في الريف ـ كان هذا في القرنين الثاني عشر والثالث عشر أي الأيوبيين ثم المماليك ، وفي القرن الثامن عشر حيث المماليك تحت السيادة العثمانية حدث أمر مماثل ، إذ أثقلت الضرائب كاهل المجتمع الحضري ” .

ثم يقول دكتور رؤوف عباس ” والأخطر من ذلك ، تحالف العسكر – يقصد عسكر القرن الثامن عشر – مع التجار الأجانب ، وبذلك انفتحت الأسواق المصرية لغزو المنتجات الأوروبية  ” .

ثم يقول ” وكانت نتيجة ذلك إفقار الطبقة الوسطى الحضرية في مصر ” .

ثم يقول ” ومن حق المرء أن يتساءل : لماذا كان إجهاض الرأسمالية التجارية وتفريغ قدراتها على التطور الطبيعي أمراً سهلاً على العسكر في الحالتين : عسكر القرنين الثاني عشر والثالث عشر ، ثم عسكر القرن الثامن عشر ؟ .