في أجواء مضطربة تتكاثر فيها الغيوم فوق المسرح السياسي، تكتسب الانتخابات الرئاسية المقبلة أهميتها الحقيقية من سؤال الشرعية في مصر، أن تتجدد أو أن يستمر النزيف.

إذا ما أجريت الانتخابات بنوع من الهندسة المسبقة لإجراءاتها، ومرشحيها ونتائجها، فإنها سوف تعمق الشعور بوطأة أزمة الشرعية، وتذهب بالبلد إلى حافة المجهول.

لا هندسة الانتخابات الرئاسية، تساعد على ضخ دماء الشرعية مجددا، ولا الحسابات الأمنية وحدها، تحفظ القدر المتوفر من الاستقرار في بلد منهك سياسيا واقتصاديا.

بقاء الأوضاع الحالية، يكاد أن يكون شبه مستحيلا.. وبالوقت نفسه، فإن مصر لا تحتمل اضطرابات واسعة بأثر تفاقم الأزمة الاقتصادية الخانقة.

هذه هي المعضلة الرئيسية الماثلة في الجو العام، الذي يستبق الانتخابات الرئاسية.

مصر تحتاج إلى شيء من التماسك الوطني، وشيء آخر من تجديد الدماء والأمل في المستقبل.

الانتخابات الرئاسية مأزق وفرصة معا.

المأزق يلخصه انسداد أفق المستقبل بلا قدرة على مواجهة التحديات الضاغطة، والمنتظرة.. والفرصة أن يتسع المجال السياسي، والإعلامي للتنوع الطبيعي في المجتمع حتى يكون المستقبل مأمونا.

إذا ما هُندِست الانتخابات على النحو المرجح، دون استجابة لاشتراطات النزاهة والشفافية وحياد أجهزة الدولة، فإن شروخ الشرعية سوف تتحول إلى فوالق، وتأخذ الحوادث مسارا مختلفا، لا يعرف أحد مداه وتبعاته.

أسوأ ما يحدث في مصر الاستخفاف بمسألة الشرعية، كأنها موضوع في الإنشاء السياسي، تتكفل به الدعايات.

الشرعية مثل خيوط الصلب، قد لا ترى، لكنها يصعب كسرها.

بتشبيه آخر، فإنها مثل ما تتمتع به تصميمات الجسور من قدرة على امتصاص أية أثقال زائدة تجري فوقها.

تاريخ مصر الحديث كله، بتحولاته وانعطافاته الحادة، تلخصه قضية الشرعية.

سقط النظام الملكي من داخله قبل أن تتحرك دبابة واحدة صبيحة (23) يوليو (1952).

كان حريق القاهرة في (٢٦) يناير من ذلك العام الحاسم تعبيرا مأساويا عن نهاية عصر كامل.

عقب الحريق جرت إقالة وزارة الوفد برئاسة “مصطفى النحاس”، وتولى “علي ماهر” مقاليدها، ثم جاء الملك بـ “نجيب الهلالي” بعد شهر واحد، قبل أن يقيله هو الآخر في ظروف مريبة بصفقة مالية بلغت مليون جنيه، دفعها “أحمد عبود” وسجلتها برقيات السفارة البريطانية، ثم كلف “حسين سري” بحكومة رابعة قبل أن يعود لـ “الهلالي”، لكن حكومته لم تتمكن من الاجتماع، فقد أطاحت “يوليو” باللعبة كلها.

جرى ذلك كله في أقل من سبعة أشهر.

على مدى عشر سنوات كاملة، استبقت ثورة يوليو، خيمت أزمة الشرعية على مصر بأثر أحداث، وتداعيات حادث (4) فبراير (1942).

بقوة الدبابات البريطانية، أسند تشكيل الحكومة إلى زعيم حزب الوفد “مصطفى النحاس” صاحب الأغلبية الشعبية بلا منازع.

سحب التدخل البريطاني الغليظ من الحق شرعيته، وأخذ رصيد الوفد في التآكل، حتى بدا شبحا من الماضي، عندما تحركت الدبابات في (23) يوليو.

بعد (23) يوليو دخلت مصر حقبة “الشرعية الثورية”، حلقت شعبيتها إلى عنان السماء، استحقت استقلالها الكامل بتضحيات أبنائها في حرب (1956)، إثر تأميم قناة السويس، قادت حركات التحرير الوطني في العالم العربي، والقارة الإفريقية، وامتد إلهامها إلى العالم الثالث كله، أنجزت بقدر ما بنت، وتوسعت في الإنتاج، غير أنها تعرضت في يونيو (1967) إلى هزيمة عسكرية مروعة.

كان رأي “جمال عبد الناصر” أن النظام الذي يفشل في صيانة التراب الوطني، لا يحق له البقاء.

في لحظة الهزيمة، تقوضت الشرعية، وسقط نظامه.

غير أنه تبدت في تظاهرات (٩) و(١٠) يونيو شرعية مستأنفة، رفضت تنحيه، وفوّضته الحكم من جديد؛ لإزالة آثار العدوان.

المفاجأة أخذت “عبد الناصر”، الذي كان يتصور أن تُنصب له المشانق في ميدان التحرير.. لا أن تخرج الملايين تعرض المقاومة، وتطالبه بالبقاء.

لا تضاهي تظاهرات (٩) و(١٠) يونيو، سوى جنازته بعد ثلاث سنوات.

لم يتراجع المشروع الناصري في يوم وليلة.

كان انفصال الوحدة المصرية السورية (١٩٦١) ضربة أولى.

وكانت هزيمة (١٩٦٧) ضربة ثانية.

وكان رحيل “عبد الناصر” ضربة قاصمة، قبل أن يقود البلد إلى حرب تحرير أراضيه المحتلة، بعد أن نجح في إعادة بناء الجيش من جديد، وقبل أن يصحح بنية نظامه، والأسباب التي أفضت للهزيمة بالتحول إلى دولة مؤسسات حديثة.

“عبد الناصر” هو الزعيم العربي الوحيد الذي اعترف بأزمة شرعيته، راجع تجربته، وحاكمها داعيا في وثائق منشورة إلى إنهاء حكم الفرد، والتحول إلى دولة مؤسسات.

في عهد “أنور السادات” نشأت أزمات شرعية من نوع آخر.

كانت سياسة الانفتاح الاقتصادي (1974) طلاقا معلنا مع التوجهات الاجتماعية لثورة (23) يوليو.

شرخت شرعيته تماما في انتفاضة الخبز (1977)، التي كادت تطيحه.

هرب إلى الأمام بزيارة القدس، وإلقاء خطاب أمام الكنيست الإسرائيلي في خريف نفس العام.

كان توقيع اتفاقية “كامب ديفيد” (1978) تعبيرا عن استحكام أزمة الشرعية.

أهدرت بطولة السلاح في حرب أكتوبر (1973).

خرجت مصر من الصراع العربي الإسرائيلي، وهمشت أدوارها بصورة فادحة.

بتداعي الحوادث، وانفلات الأعصاب، أفضت أزمة الشرعية إلى اعتقالات (5) سبتمبر (1981)، التي شملت أكثر من ألف وخمسمائة شخصية عامة، ورجال دين مسلمين وأقباط.

بعد نحو شهر، اغتيل “السادات” في حادث المنصة الدموي.

نجح خلفه “حسني مبارك” في وضع كمادات ثلج فوق الرأس المحموم، أفرج عن معتقلي سبتمبر، وأعطى أملا بتحسين الأوضاع الاقتصادية، ومحاربة الفساد.

أزمات الشرعية عادت تطرح نفسها من جديد، وبإلحاح بالغ، عند بداية القرن الحادي والعشرين مع بروز سيناريو “التوريث”.

طرح السؤال نفسه: مصر إلى أين؟

في عام (2005)، أجريت أول انتخابات رئاسية قيل إنها تعددية، جرى هندستها بالكامل؛ للإيحاء بأن هناك انتخابات، ومنافسين جديدين، دون أن تتوفر عناصر الحيدة، والشفافية والنزاهة في إجراءاتها.

لم تفلح تلك الانتخابات في ضخ دماء جديدة من الشرعية.

هناك من يحاول الآن إعادة استنساخ تجربة (2005) في النسخة المقبلة من الانتخابات الرئاسية.

الإيحاء بأن هناك انتخابات، دون أن تتوافر أية إجراءات تنسب نفسها إلى الديمقراطية، والتعددية لن تفلح هذه المرة أيضا.

لماذا بقي نظام مبارك رغم تقوض شرعيته؟

إنه الأمل المراوغ في الإصلاح من الداخل.

توسيع هامش الحريات الصحفية ساعده على تمديد حكمه لخمس سنوات أخرى.

الحريات الصحفية الواسعة نسبيا بصورة غير مسبوقة، أعطت أملا في تغيير النظام من الداخل بالوسائل الديمقراطية.

عندما سدت أية آمال في الإصلاح السياسي بالتزوير الفاحش للانتخابات النيابية عام (2010)، سقط النظام بعد شهور قليلة في يناير (2011).

في أتون تظاهرات يناير سأل “مبارك” المشير “محمد حسين طنطاوي”: “إما أن تحمي الشرعية أو تشيل الشيلة يا حسين؟”.

لم يجبه المشير على سؤاله، فقد انتقلت الشرعية، وفق تعبير الأستاذ “محمد حسنين هيكل”، إلى الشارع.

أزمات الشرعية تفاقمت في المرحلة الانتقالية التي قادها “المجلس العسكري”، وبدا المشهد السياسي كله محتقنا.

أجريت انتخابات بلا دستور، وجرت صفقات بالكواليس، ودخلت قوى دولية، وإقليمية على خط التفاعلات الداخلية، حتى أجريت أول انتخابات رئاسية (2012).

التجربة تحتاج إلى مراجعة جدية، وموثقة بالنظر إلى أنها التجربة الوحيدة، رغم أية سلبيات عديدة منسوبة إليها، التي تستحق أن توصف بالديمقراطية.

أزمات الشرعية تبدت مجددا، منذ اللحظات الأولى لصعود جماعة “الإخوان المسلمين” إلى مواقع السلطة العليا، تحرش بالجيش، ومحاولة لأخونة الأمن وتكويش على الدولة.

جرت صدامات عنيفة في ميدان التحرير بين شباب الثورة وشباب الجماعة، بدا المشهد منذرا بـ”أزمة شرعية مبكرة”، على ما كتبت مقالا وقتها على صفحات جريدة “الشروق”.

في الصراعات المحتدمة على هوية الدولة والمستقبل، أخذت شروخ الشرعية تتمدد، حتى كادت أن تدفع البلد إلى احتراب أهلي.

كانت ذروة أزمات الشرعية استصدار إعلان دستوري في (22) نوفمبر (2012)، خول الرئيس “محمد مرسي” صلاحيات شبه مطلقة.

بقوة الغضب أنشئت جبهة الإنقاذ الوطني، لم تكن تنظيما محكما بقدر، ما كانت عباءة واسعة، تحركت تحتها القوى المدنية باتساع البلد.

كانت تظاهرات (30) يونيو (2013) عملا شعبيا حقيقيا، وأي ادعاء آخر تزييف للتاريخ.

إنها ثورة حاولت أن تستعيد روح يناير، وأهدافها في التحول إلى دولة مدنية ديمقراطية حديثة، غير أنه سرعان ما أُجهِضت الرهانات، وعادت أشباح الماضي تطل على المشهد من جديد؛ حتى وصلنا إلى الأزمة المستحكمة الحالية.