تواجه الصين ثاني أكبر اقتصاد عالمي، شبح فقاعة عقارية، خاصة مع ازدياد أعداد الشركات العقارية المقترضة، والتي توسعت انشطتها في الفترة الماضية.

وتشكل أزمة الديون في قطاع العقارات تحديا كبيرا  لصناع السياسات، حيث يعاني اقتصاد الصين حاليا من ضعف الطلب، ونمو الناتج الاقتصادي بوتيرة ضعيفة في الربع الثاني من العام، إذ سجل الاقتصاد نموًا بنسبة 0.8% مقابل 2.2% في الفترة ذاتها من العام السابق.

مؤخرا، وضمن أمثلة كاشفة عن الأزمة، حققت شركة “كانتري جاردن” خسائر قياسية تخطت 6,1 مليارات يورو، في النصف الأول من العام الجاري.

وتقدمت منافستها “إيفر جراند” بطلب الحماية من الإفلاس في الوقت ذاته، مع تباطؤ بناء المنازل، وتوقف بعض المشترين الذين دفعوا ثمن الوحدات مسبقًا عن سداد قروضهم العقارية.

تصنف “كانتري جاردن”  كواحدة من أكبر الشركات الصينية في إدارة الأصول (الأراضي والعقارات)، لكنها عاجزة حاليًا عن سداد مديونياتها للمستثمرين، وسط مخاوف من تعثرها عن السداد، وانعكاس تلك الخطوة حال حدوثها على النظام المالي بالصين بشكل كامل، خاصة أنها تأتي بعد سنتين فقط من تخلف شركة إيفر جراند العملاقة عن الوفاء بالتزاماتها.

تمتلك “كانتري” 3103 مشروعات بجميع أنحاء الصين، والتزامات الديون المسُتحقة عليها تعادل 59% من التزامات منافستها “إيفر جراند” التي تملك أكثر من 1300 مشروع في 280 مدينة.

وظلت الأولى دون مشكلات علنية، حتى تخلفت عن سداد قسطين بالدولار يبلغ مجموعهما 22.5 مليون دولار، مما أثار مخاوف من امتداد أزمة الديون العقارية المتفاقمة بالبلاد.

“إيفر جراند” سجلت هي الأخرى خسائر بلغت 4.53 مليارات دولار، وانخفضت أسهمها بنسبة 79% بعد استئناف تداولها بعد تعليق دام 17 شهرًا، ما أضاف لخسائرها 2.2 ملياري دولار، من القيمة السوقية للشركة التي لديها ديون إجمالية تُقدر بأكثر من 300 مليار دولار، تحتل بهم المرتبة الأولى كأكبر مطور عقاري مثقل بالديون عالميًا.

لماذا تتزايد أزمات قطاع العقارات في الصين؟

 

أزمات قطاع العقارات في الصين
أزمات قطاع العقارات في الصين

اعتمدت الصين على التوسع في بناء العقارات في تحولها الاقتصادي، والمحافظة على معدلات نمو مرتفعة، قبل أن تنقلب الأمور بعد سنوات مع الاقتراض المفرط والمبالغة، ومن أجل النمو أيضًا، تم التغاضي عن التجاوزات في القطاع، واستمر المطورون في الاقتراض لسداد ديونها المتصاعدة.

تواجه شركات ضمان مخاطر الائتمان الصينية التي تغطي جزءًا من المخاطر المصاحبة؛ لتمويل المشروعات، الأزمة الحالية تأتي بعدما ضمنت استثمارات بمليارات الدولارات في شراء أسهم، أو وحدات عقارية نيابة عن الشركات والأفراد.

وفي ظل القروض المحفوفة بالمخاطر لدى الشركات العقارية، يخشى المستثمرون الغاضبون على أموالهم من حدوث أزمة.

يُحمل خبراء الاقتصاد الغربيين الحكومة الصينية مسئولية الأزمة، بعدما سمحت للمطورين بتخمة ديون؛ لتمويل استراتيجية النمو بأي ثمن طوال عقود، ثم تدخلت بشكل جذري عام 2020؛ لمنع حدوث فقاعة عقارية.

وأوقفت تدفق الأموال الرخيصة إلى أكبر الشركات العقارية بالصين، ما أوقعها في أزمة نقص سيولة حادة.

تشارلز تشانج، رئيس قسم تصنيف الشركات الصينية الكبرى بوكالة ستاندرد آند بورز للتصنيف الائتماني، يقول، إن ما يحدث بسوق العقارات الصينية غير مسبوق، ويزيد المخاوف إزاء قطاع يساهم بربع إجمالي الناتج الصيني.

كما أن القطاع الذي ساهم بنسبة في النمو يوظف الملايين من البشر، ويكفل سبل العيش لذويهم.

منذ أن تدخلت الحكومة فجأة؛ لضبط السوق بتجحيم قدرة المطورين على الاقتراض السهل، تخلف أكثر من 50 منهم عن سداد التزاماتهم، أو فشلوا في سداد أقساط خلال السنوات الثلاث الماضية، وفقًا لوكالة التصنيف الائتماني “ستاندرد آند بورز” التي حذرت من أن الاستمرار في البناء عبر الاقتراض لا ينجح، إلا إذا استمرت الأسعار في الارتفاع لكي تغطي التكاليف، بجانب أعباء الفائدة المصرفية”.

مشكلات الرهن العقاري

 

مشكلات الرهن العقاري
مشكلات الرهن العقاري

مطورو العقارات بالصين يواجهون مشاكل شبيهة، لما تعانيه كانتري” و”إيفر جراند”، فبعض المشترين الذين دفعوا مُقدم الشقق يرفضون سداد باقي أقساطهم.

وطالب المستثمرون الحكومة بالتدخل عبر تقديم حزمة إنقاذ كبرى، لكنها اكتفت بخطوات أقل، مثل خفض أسعار الفائدة على الرهن العقاري، وإزالة بعض القيود على شراء المنازل.

والرهن العقاري هو اتفاق بينك وبين المقرض (شركة أو بنك)، بحيث يتيح الأخير لك المال اللازم؛ لشراء أو إعادة تمويل منزلك، لكنه يحصل أيضًا على حق الحصول على الشقة أو الوحدة، إذا فشلت في سداد الأموال التي اقترضتها.

يتسبب الرهن العقاري في مشكلة، حينما يكون التوقف عن السداد جماعي، فاسترداد المقرض لجميع الوحدات في تلك الحالة، وإعادة بيعها؛ يسبب زيادة المعروض من الوحدات، وانخفاض أسعارها وخسارة جزء من أمواله.

الأزمة العقارية في الصين.. انفراط العقد

 

الأزمة العقارية في الصين
الأزمة العقارية في الصين

يتوقع نيكولاس لاردي، الباحث بمعهد بيترسون للعلوم الاقتصادية، المزيد من المشكلات للقطاع العقاري الصيني في المستقبل.

عندما تشتري شقة في بكين عليك أن تدفع  مقدم  يناهز  24% من سعر العقار، وجميع القروض العقارية تسمح للمُقرض ليس فقط الحصول على الوحدة العقارية، ولكن أصولا أخرى أيضًا حالة توقفه عن سداد القرض .

وخلال السنوات الأخيرة، توسع مطورو العقارات بالصين في بناء العديد من الشقق، لدرجة أن خمس المنازل لا تزال فارغة، دون سكان.

يعتقد  “لاردي”، بأن السوق الصينية ستستغرق وقتًا طويلا لامتصاص الفائض في العرض من الشقق، وحل المشكلات المتعلقة بالمشاريع غير المكتملة التي اشتراها الزبائن مقدمًا.

وحصلت شركة كانتري جاردن، على موافقة دائنيها على تمديد أجل استحقاق سندات خاصة محلية بقيمة 540 مليون دولار، (مد موعد سداد مديونيات)، ما يعطيها فرصة لسداد ديونها على أقساط لمدة ثلاث سنوات، بدلا من الموعد الذي كان محددا سلفًا السبت الماضي.

الركود العقاري في الصين.. الثقة في مواجهة المضاربة

 

سوق العقارات الصينية
سوق العقارات الصينية

لكن المحللين يرون أن الركود في سوق العقارات الصينية مدفوع بعوامل أكثر أهمية من تكلفة الاقتراض، في ظل تخفيض رواتب الموظفين الإداريين، والانكماش الديموجرافي “السكاني”، بعدما انخفض عدد السكان للمرة الأولى منذ ستين عاماً، مع تراجع قياسي بعدد الولادات، بمعدل أقل من 7 ولادات لكل ألف شخص.

وبلغ عدد السكان العام الماضي 1.4118 مليار نسمة، في انخفاض بمقدار 850 ألفاً عن عام 2021، رغم مرور سبع سنوات على إلغاء سياسة الطفل الواحد.

بروس بانج، كبير الاقتصاديين في شركة  “جي إل إل” على يقين، بأن تخلف المطورين العقاريين بالصين عن السداد سيستمر، ويتوسع، حيث يواجه الجميع بالقطاع الخاص تقريبًا ضغوطًا على التدفق النقدي (الإيرادات) لن تختفي قريبا. إضافة إلى أن أى دعم سياسي سيستغرق وقتًا حتى يصل إلى نقطة  بيع المنازل وبدء البناء من جديد، خاصة وأن  صناعة العقار ليست قصيرة الأجل.

تضرب آن ستيفنسون يانج، مديرة إدارة الشركات الصينية بشركة جيه كابيتال ريسيرش، في الولايات المتحدة، مثالاً بشركة إيفر جراند التي تم بيع وحداتها العقارية كاستثمار مضاربي “شراء عقار وإعادة بيعه”، ولم يتم بيعها كمكان للعيش فيه، أو بمعنى آخر وحدات عقارات بسعر منخفض، يشتريها البعض؛ لأنهم يعتقدون أن قيمتها سترتفع.

حتى رئيس شركة إيفر جراند، اتبع تلك النظرية، فاشترى الأرض لمشروعه الأول عام 1996، مقابل 5 ملايين يوان، وفر نصفها عبر الاقتراض، واستطاع بيع المجمع الأول بالمشروع في العام التالي مقابل 80 مليون يوان، وبحلول عام 2009، توسعت الشركة؛ لتشمل أكثر من 20 مدينة دفعة واحدة.

تشكل أزمة الديون المتفاقمة في قطاع العقارات الصيني تحديا كبيرا للرئيس الصيني شي جين بينج، وصناع السياسات في حكومته.

يعاني اليوم اقتصاد الصين من ضعف الطلب المحلي والخارجي، خاصة مع نمو الناتج الاقتصادي بوتيرة ضعيفة، حيث سجل الاقتصاد نموًا بنسبة 0.8% مقابل 2.2% في الفترة ذاتها من العام السابق.

وذلك بسبب ضعف الطلب المحلي، وتراجع الصادرات واضطراب القطاع العقاري، الذي تُعول الحكومة على حل مشكلاته؛ بتسهيل إجراءات الاقتراض؛ لتحريك الطلب، لكن الصورة الذهنية التي التصقت به كملاذ آمن للاستثمار، اهتزت بعد الأزمة التي ضربت أكبر شركتين بالبلاد.

لماذا تثير الفقاعة العقارية الصينية المخاوف في الاقتصاد العالمي؟

أدت الأزمة العقارية الصينية لفقدان المستثمر الصيني الثقة وتباطؤ الاستثمار ما من شأنه الانعكاس على الاقتصاد العالمي خاصة سوق الطاقة فـ70% من حجم نمو الطلب العالمي على النفط يأتي من الصين او بمعنى آخر تستهلك الصين 1.5 مليون برميل من الطلب المتوقع على النفط المقدر بنحو 2.2 مليون برميل يوميًا.

المخاوف انعكست سريعًا على توقعات نمو الصين التي خفضتها بنوك عالمية بداية من مورجان ستانلي الذي خفض توقعاته بنسبة 0.3% إلى 4.7% لعام 2023 وكذلك جيه. بي مورجان الذي قلصها بنسبة 0.2% إلى 4.8%، وباركليز إلى 4.5% والسبب الرئيسي هو تدهور سوق الإسكان.

وأثارت الحكومة المزيد من انعدام الثقة بين المستثمرين عندما ألغت فجأة نشر بيانات البطالة بين الشباب، والتي بلغت مستويات قياسية، في حين انخفضت أسعار المستهلك. وانخفض نشاط المصانع للشهر الخامس على التوالي في أغسطس.،

وقد أبلغت 18 شركة من أصل 38 شركة بناء مملوكة للدولة الصينية مدرجة في هونج كونج عن خسائر أولية في الأشهر الستة المنتهية في 30 يونيو، كما تزايدت المخاوف إزاء البورصة الصينية، فخلال الأزمة الأولى لشركة “إيفر جراند” في 2022 انهارت الأسهم والسندات بنحو 90 مليار دولار في الثمانية أشهر الأولى من 2022، بينما خسرت الشركات العقارية الصينية نحو 55 مليار دولار خلال الفترة ذاتها، وفقاً لمقياس أسهم “بلومبيرج إنتليجنس.

ويؤدي الانكماش الصيني إلى تفاقم أعباء الديون المستحقة على البلاد، مع ارتفاع القيمة الحقيقية للديون، وتضطر الشركات والحكومات المحلية في الصين إلى تخصيص موارد مالية أكبر لخدمة الديون، مما يترك موارد أقل للإنفاق والاستثمار.

ووفقا لبنك التسويات الدولية، فإن إجمالي عبء ديون الصين (الديون الخاصة والعامة) بلغ ما يقرب من ثلاثة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي عام 2022، وهو أعلى من مستوى ديون الولايات المتحدة، علاوة على أن تباطؤ الاقتصاد الصيني سيؤدي إلى تباطؤ نمو الاقتصاد العالمي بشكل عام.