شهدت منطقة الخليج تغيرات أمنية، جعلت ما كان لا يمكن تخيله في السابق ممكنا اليوم. تعيد الولايات المتحدة ترتيب أولوياتها؛ بسبب صعود الصين في منطقة الشرق الأوسط، وجاء ذلك بالتزامن مع ظهور قوى أخرى، أصبحت أكثر اهتماما بالتفاعل مع أمن الخليج، والذي تسعى دولها إلى تعزيز مكانتهم، كمراكز تجارية واقتصادية وثقافية حيوية في المنطقة.

لذا تشكل العدوات الإقليمية خطرا على رؤيتهم، وتكلفهم الكثير من الأموال، في تلك السياقات، راجعت دول الخليج سياستها الإقليمية، وأصبحت أكثر انفتاحا بالجلوس على مائدة واحدة؛ لتهدئه التوترات مع أعدائها القدامى، عادت العلاقات بين إيران والسعودية، ووجدت أنقرة في هذا التوجه الخليجي، فرصة للتقرب من الإمارات والسعودية، مستهدفة تحقيق مكاسب اقتصادية وأمنية ذلك بعد خلاف طويل.

الريال يشتري أردوغان

تردت العلاقات التركية مع الإمارات والسعودية، عقب الربيع العربي، ذلك لعدة أسباب، أولها، وأهمها كان دعم تركيا لجماعة الإخوان المسلمين في المنطقة، كما وقفت أنقرة بجانب قطر، خلال مقاطعة السعودية والإمارات والبحرين ومصر لها، وساندت أنقرة الدوحة، ومدتها ببضائع، تضمنت شحنات غذائية؛ لمساندتها ودعمها أمام حصار منع تدفق البضائع بسهولة.

قدمت دول المقاطعة مجموعة من المطالب؛ من أجل إنهاء المقاطعة، كان من بين تلك المطالب إغلاق القاعدة العسكرية التركية في قطر. ولكن قتل السلطات السعودية لجمال خاشقجي في سفارة الرياض بإسطنبول، والذي حاولت الرياض إخفاءه، ثم تصويره كعراك، جعل العلاقات بين تركيا والسعودية أكثر سوءا.

وبعد أن توصلت تحقيقات  السلطات التركية إلى مقتل خاشقجي داخل السفارة، كانت خطابات أردوغان، وتصريحاته تتسم  بلهجة عنيفة، ضد السعودية، حيث وصف قتل خاشقجي بالجريمة الوحشية المخططة، وطالب بمحاكمة المسؤولين عنها، واستمر بالتوعد مرارا وتكرارا بتحقيق العدالة ومحاكمة المسؤولين.

في مؤتمر صحفي خلال اجتماع لمجموعة العشرين قال تعقيبا على القضية، إن هناك أشياء لا يستطيع الدولار شرائها، ثم أضاف “أنا أؤمن، بأن القلم واحد من بين تلك الاشياء”.

المثير للسخرية في تصريح أردوغان ليس فقط، أن تركيا توصف بأكبر سجن للصحفيين في العالم، ولكن ما يجعل تصريحه أكثر إثارة للسخرية، هو التغير الكبير في سياسات أردوغان تجاه القضية.

في العام 2022، أغلقت محكمة تركية قضية خاشقجي، وأحالتها للرياض بناء على طلب المدعي العام، ووافق وزير العدل التركي على قرار المحكمة، مما أدى  لصدور تنديدات واسعة من قبل منظمات حقوقية، وسياسيون أتراك، قال زعيم المعارضة كمال قلجدار أوغلو “أن أردوغان باع شرفهم للسعودية، ودفن شرف تركيا في الحديقة الخلفية لسفارة الرياض”.

ربما قد يكون أردوغان محقا، بأن هناك أشياء لا تشتري بالدولار، ولكن في هذه الحالة الريال كان كافيا، لشراء أردوغان. التحول في الموقف التركي في قضية خاشقجي من الحدة الشديدة، ضد السعودية إلى التنازل الكامل، يعبر عن تحول أوسع في العلاقات الخليجية التركية، دفعتها مصالح اقتصادية، وأمنية متبادلة بين تركيا والخليج.

أزمات اقتصادية وسياسية

 اقتصاديا، وقعت تركيا في أزمة حادة، أدت إلى انخفاض الليرة، وارتفاع مستويات التضخم بأشكال غير مسبوقة، مما أدى مؤخرا لى تعين أردوغان لوزير مالية جديد، توعد بالعودة إلى سياسات اقتصادية عقلانية مجددا.

أما على المستوى الإقليمي، حاولت أنقرة مد نفوذها السياسي في الشرق الأوسط، خلال دعم جماعة الإخوان في دول المنطقة، والتدخل في الأزمات في سوريا والخليج وغيرها من الدول، ولكن في النهاية الكثير من تلك المحاولات فشلت.

يجادل أوزليم تور، أن تركيا وجدت نفسها معزولة من قبل دول المنطقة؛ نتيجة لدعمها لجماعة الإخوان، بالإضافة أنها فشلت في تحقيق هدفها في سوريا؛ بإسقاط الأسد، مثل سقوط الإخوان المسلمين في مصر، إحباطا لرؤية أردوغان لقيادة العالم الإسلامي.

دفع فشل محاولات أردوغان لمد نفوذه السياسي مع الأزمة الاقتصادية؛ لإعادة النظر في سياساته نحو السعودية والإمارات. ولذلك اتجه أردوغان نحو البلدين بحثا عن استثمارات، تساعد على دعم الاقتصاد التركي المنهك.

بدأت بالفعل العلاقات التركية مع السعودية والإمارات بالتحسن تدريجيا. قام أردوغان في يوليو هذا العام بزيارة الإمارات والسعودية وقطر، لذا جاءت جولة أردوغان الخليجية؛ لتركز على جذب الاستثمارات، وتوقع مسؤولون أتراك أن تضخ دول الخليج الثلاث استثمارات بمليارات الدولارات.

وبالفعل، أعلن وزير المالية التركي عن توقعهم، بأن تبدأ الإمارات بضخ حزمة استثمارية بقيمة 51 مليار دولار نهاية العام، واتفقت الإمارات وتركيا على مشاريع طاقة بقيمة 30 مليار دولار. وقبلها وقعتا البلدين اتفاق اقتصادي؛ لزيادة التجارة غير النفطية إلى 40 مليار دولار، وفي 2021، تم إنشاء صندوق بقيمة 10 مليارات دولار؛ لدعم الاستثمارات في أنقرة.

من أبرز مظاهر التعاون بين البلدين، اتفاق شركة مواني دبي العالمية على شراكة في مجال المواني مع شركة إيفياب التركية. وتنص على أن تتملك مواني دبي 58% من ميناء إيفياب، وشركة إيفياب تمتلك 42% من ميناء دي بي ورلد ياريمجا.

يستفيد الخليج من التقارب مع تركيا، حيث يتضمن مصلحة اقتصادية متبادلة، وبالنسبة لتركيا، يمثل الخليج مصدر غني للموارد والاسثمارات، ويرى الخليج في تركيا اقتصادا متقدما، ومتطور في المجالات التكنولوجية والعسكرية، بما يساعدهم على تحقيق رؤيتهم الاقتصادية.

توسع العلاقات العسكرية الخليجية

جمعت تركيا وقطر علاقات وثيقة، تتضمن العنصر العسكري والأمني، تتواجد في قطر قاعدة عسكرية لتركيا. ولقد تم الإعلان عن النية لإنشاء قاعدة عسكرية ثانية.

وتحتل الدوحة المركز الثالث في قائمة الدول المستوردة للسلاح التركي، ومن الصفقات البارزة في السنوات الأخيرة، شراء قطر طائرات من طراز بيرقدار تي بي 2 ومدرعات تركية.

وحاول أردوغان التوسع في بناء القواعد العسكرية في باقي دول الخليج مسبقا، في2017، عرضت أنقرة على الرياض، أن تبني قاعدة عسكرية تركية على أرضها، ولكن رفضت السعودية هذا العرض.

تسعى الإمارات والسعودية؛ لتنويع مصادر أسلحتهم؛ لمواجهة إيران. وفي هذا الإطار ومع عودة الدفء للعلاقات التركية مع دول الخليج، أصبح السلاح التركي من مكونات التعاون، طلبت الإمارات 120 طائرة، دون طيار، من طراز بيرقدار تي بي 2، وبالفعل استلمت الإمارات 20 طائرة.

ووقعت السعودية صفقة ضخمة؛ لشراء طائرات بيرقدار تي بي 2 في أكبر صفقة عسكرية في تاريخ تركيا، لاحقا وقعت الرياض أيضا اتفاقية مع الشركة المصنعة؛ لبناء مصنع ينتج الطائرة بيرقدار تي بي 2 في السعودية.

اهتمام الخليج بالطائرات التركية له عدة أسباب، يرى علي بكير، أن صفقة الإمارات نتجت عن رغبة في تحديث مخزونها من الأسلحة، خاصة أن طائرات وينج لونج الصينية التي تحصلت عليها الإمارات قدراتها متواضعة، مقارنة بالطائرات التركية، وتمثل  الصفقة  رسالة من الإمارات للولايات المتحدة مفادها، بأنها قادرة على إيجاد بدائل ردا على تعليق إدارة بايدن؛ لصفقة بيع طائرات إف-35، وطائرات مسيرة مسلحة من طراز أم كيو 9 بي.

لاحظ سليمان أوزيرين أيضا، بأن ما يجعل السلاح التركي جذابا للخليج، هو عدم ربط بيع السلاح بأي شروط، أو قيود، ورأت دول الخليج،  بأن الطائرات التركية أثبتت قوتها على أرض المعركة في ليبيا. على الرغم من طائرات وينج لونج الصينية التي وفرتها الإمارات لحفتر، وساعدته على تحقيق انتصارات بارزة في البداية، ولكن إمداد تركيا للسراج بالطائرات غيرت مسار المعركة، ودمرت الأنظمة الدفاعية الروسية التي وفرتها الإمارات لحفتر.

تحديات وخلافات

 أنقرة لها رؤية لدور تركي في أمن الخليج، يتعدى بيع السلاح. يجادل علي بكير، بأن في سياق تبني تركيا سياسة خارجية مستقلة عن الغرب مع ازدهار لصناعتها  العسكرية المحلية، أصبح لتركيا طموحات تتعلق بلعب دور؛ كضامن لأمن منطقة الخليج بأكملها.

أكد أردوغان مرارا، أن القاعدة العسكرية في قطر؛ هدفها حماية الخليج بأكمله، وعبر في الأعوام الماضية عن التزامه؛ بحماية أمن السعودية والإمارات، واعتبر أن أمنهم من أمن تركيا.

ويجادل بكير، بأن هناك تحديات لطموح تركيا الأمنية، منها الخلافات بين دول الخليج على الموقف من تركيا، وقلق إيران من منافسة تركيا لها في علاقاتها مع قطر، بالإضافة إلى أن الولايات المتحدة قد توقف محاولات تركيا، إن وجدتها تهدد مصالحها، كما أن تركيا لن تستطيع منافسة دول أكثر تقدما عسكريا، واقتصاديا مثل، الصين وروسيا، ولديهم علاقات أقوى مع دول الخليج وخبرات أمنية أكبر.

بالإضافة الى تلك التحديات، هناك مسائل خلافية لا تزال عالقة بين تركيا والخليج. خلال الأزمة السورية، شعرت أنقرة بالقلق من تقارب الإمارات والسعودية من وحدات حماية الشعب الكردية، قامت الإمارات والسعودية بإرسال قوات؛ لمحاربة داعش بجانب القوات الكردية في سوريا.

كما زار مسؤولون سعوديون القوات الكردية، وقدمت الرياض أموالا؛ لإعادة إعمار المناطق التي تسيطر عليها وحدات حماية الشعب.

و يرى جاليب دالاي، بأنه على الرغم من أن المصالح الجيوسياسية كانت سببا؛ وراء التقارب بين أبو ظبي وأنقرة، ولكن تظل هناك أزمات جيوسياسية قائمة بين البلدان في ليبيا، وسوريا وشرق المتوسط، كما دعم الإمارات للتحالف المعادي لتركيا بشرق المتوسط.

كما أن ليبيا ظلت محل خلاف، حيث اختارت أنقرة دعم حكومة السراج، بينما الإمارات اختارت حفتر كحليف لها. وستظل تركيا مترقبة للموقف الخليجي من وحدات حماية الشعب التركية في مستقبل سوريا.

هل يوجد مستقبل لأنقرة في الخليج؟

 بعد أن كانت تركيا معزولة في المنطقة، وعلاقاتها كانت محدودة بقطر، وببعض العلاقات الهشة مع دول خليجية أخرى، أصبحت اليوم في تقارب متزايد مع الرياض، وأبو ظبي، وأظهرت اهتماما بالاشتباك مع أمن الخليج، بعد التحولات التي شهدتها المنطقة.

وأخذ التقارب الاقتصادي بين أنقرة، ودول الخليج منحنى في اتجاه العلاقات العسكرية، والقضايا الأمنية. ربما لن تستطيع تركيا احتلال مركزا أساسيا في الترتيبات الأمنية لمنطقة الخليج، حيث أن قدراتها لن تسمح لها بهذا، مقارنة بالقوى الأخرى. ولكن قد تصبح تركيا جزءا من تلك الترتيبات، وواحدة من الفاعلين الجدد من بين أطراف إقليمية، ودولية يساهمون في تحديد التوازنات الأمنية في الخليج.

وسيساهمون في صناعة مستقبلها، ولكن يظل هناك علامة استفهام، إلى اى مدى سيكون العامل التركي مؤثرا على أمن الخليج في ظل التحديات والخلافات.