“هناك قلق عام، وحالة تشاؤم في مصر، الاكتئاب السائد بالجو علينا أن نعالجه فوراً”.

هذه الكلمات جاءت على لسان السيد عمرو موسى وزير خارجية مصر والأمين العام للجامعة العربية والمرشح الأسبق لرئاسة الجمهورية، في حوار تلفزيوني مع الأستاذ ضياء رشوان نقيب الصحفيين السابق ورئيس هيئة الاستعلامات الحالي، قبل عام من كتابة هذه السطور وبالتحديد في العاشر من سبتمبر 2022م.

وقد أوجزت هذه الكلمات وصف مصر من داخلها، وصف حالتها العقلية والروحية والنفسية والفكرية، وصف حالة الانكسار المؤقت التي أطفأت روح البلد وأطفأت أرواح المصريين، وذلك على مدار السنوات العشر من 2013م حتى 2023م، حيث جرت الرياح بسفن المصريين ليس فقط عكس ما كانوا يتعشمون لكن فوق ما كانوا يتخوفون في أشد الكوابيس رعباً ورهباً،  فقد حكمتهم قبضة حديدية أشاعت القهر وفُرضت عليهم سياسات اقتصادية عممت الفقر، وبين القهر والفقر في السنوات العشر تنقل المصريون من احباط إلى تشاؤم إلى اكتئاب عام، لهذا فإنه عندما تحدث السيد عمرو موسى مع السيد ضياء رشوان عن القلق العام وحالة التشاؤم والاكتئاب السائد في الجو حدث نوع من التجاوب بين هذه الكلمات وجماهير المصريين من كل الطبقات.

نحن لسنا أمام انحراف نفسي أو ضلال عقلي أو مزاج سوداوي يعاني منه أشخاص مرضي غير أصحاء وغير أسوياء بطبيعتهم وجيناتهم واستعداداتهم الفردية والشخصية والوراثية، لا، نحن لسنا أمام شيء من هذا، لكن نحن أمام تاريخ ثقافي وروحي وفكري مُرهق ومعذب من نتاج سياسات اقتصادية واجتماعية فُرضت بالعسف وطبُقت بالقوة ولم يكن أمام الشعب من خيار غير الخضوع لمنطق العسف ولم يكن أمامه من بديل غير الرضوخ لمنطق القوة.

فقد الشعب كل البدائل وكل الخيارات حين تم تجريده من كافة حقوقه السياسية والاجتماعية والاقتصادية بدعوى فرض الاستقرار وتثبيت الدولة والحفاظ عليها، ثم بالتدريج يكتشف الشعب كل يوم أنه معلق في ساقية يدور فيها حول نفسه الليل والنهار، لا ينفك النير عن عنقه، ولا يتحرر من الدوران حول نفسه، ولا يخرج- قيد شعرة- عن المسار المرسوم له، وكل عام من الأعوام العشرة يأتي أشد وطأةً من العام السابق عليه.

من هنا حصل الإحباط: من وقوع الشر بينما كانوا يأملون الخير. ثم من تكرار الإحباط حصل التشاؤم وهو أنهم باتوا يشكون في كل السياسات ولا يتوقعون إلا ما هو أسوأ. ثم من استمرار التشاؤم حصل الاكتئاب بالمعنى التاريخي أي قتامة المرحلة ذاتها وسوداوية طبعها وميلها الطبيعي إلى افتراض سوء النية وسوء العاقبة.

المصريون- بطبعهم- لديهم مهارة الصبر التاريخي ولديهم حكمة التحايل على المحن وعلمتهم صروف الدهر التأني في مواجهة النوازل، هذه الطبيعة المتأصلة فيهم تحميهم من خطرين: خطر الصدام الأحمق مع القوة الغاشمة، وخطر التفاؤل الأبله أو التفاؤل السطحي وخداع النفس والضحك على الذات وانتظار السمنة من ورك النملة. عدم الاندفاع في مواجهات حمقاء مع القوة الغاشمة وعدم الوقوع في فخ التفاؤل السطحي الأبله كلاهما كفيل بنقطة البداية الصحيحة.

ونقطة البداية الصحيحة هي خلق وعي اجتماعي وسياسي وثقافي واقتصادي روحي وأخلاقي وتاريخي جديد، وعي مستقبلي يعيد فيه المصريون ابتكار أنفسهم من جديد، وعي مستقبلي يضعون فيه الركائز التي تجمعهم فيما بينهم ثم تصنع منهم أمة جديدة وفق عقود اجتماعية غير العقود الظالمة التي سادت في السنوات العشر الأخيرة، الوجود المشترك للمصريين هو بذرة المستقبل القريب، وجودهم بما تعنيه فلسفة الوجود من معنى ومن حضور ومن قوة ومن نفوذ ومن حماية أمنهم ومصالحهم واستقرارهم وسلامهم المشترك، فقد أوشكت مصر- وقد أرهقتها السجون وأوهنتها الديون- أن تصبح رجل الإقليم المريض.

لماذا النزعة التشاؤمية ؟ ولماذا أصبح التشاؤم العام هو الطابع الذي انصبغت بلونه حقبة السنوات العشر 2013 2023م؟ ثم ماذا يضمن أن تتوقف حقبة االتشاؤم عند عشر سنوات؟ ما الذي يضمن ألا تستمر عشر سنوات ثانية وثالثة وهكذا؟

للجواب يلزم الوقوف على حقيقة أن هذه السنوات العشر هي الوجه النقيض للعشر سنوات التي سبقتها، أي السنوات من سقوط بغداد 2003م  حتى سقوط الإخوان 2013م، ففي تلك السنوات العشر انفتح الإقليم كله وليس مصر وحدها على إمكانية التغيير، تغيير للأنظمة الحاكمة بما في ذلك الأنظمة الموالية للغرب ثم قرر الغرب- لأسباب متعددة- رفع حمايته عنها وإنهاء ضمانه لها وسحب كفالته منها وتركها تواجه شعوبها التي تحلم بتغييرها وكان في طليعتها النظام المصري.

في تلك السنوات 2003 – 2013م اندفعت دعوات وأفكار وقوى التغيير حالمة بغد أفضل لا هي تعلم عنه شيئاً ولا هي استعدت له بشئ، اصطدمت قوى التغيير بقوى الواقع ومصالحها ونفوذها وخبرتها على الأرض، هاج الإقليم ثم ماج ثم اضطرب ثم تفكك ثم دخل في أتون حروب أهلية فانهارت دول وتاهت خرائط ودفعت ملايين من الناس أثمان سياسات لم يستشرها فيها أحد، فلا قوى التغيير أخذت رأي الناس، ولا قوى الأمر الواقع عمرها عبرت عن الناس، مات من مات، وهجر وطنه من هجر، وتشرد من تشرد، بيوت انهدمت، وأسر تمزقت، ومجتمعات تدمرت، وبلدان تخربت، وانقسامات وعداوات وحزازات، ما وضع تماسك الشعوب في خطر.

سنوات عشر 2003 – 2013م استنزفت الإقليم وعذبته ولعب بمصيره ومقاديره وتركت شعوبه يموج بعضها في بعض يخبطون في الظلام من كل جانب تلعب بهم فضائيات عربية تبث من عواصم غير ذات تاريخ، ثم جاءت العشر الثانية 2013 – 2023م فلم تعالج الأسباب ولم تدرس الواقع ولم تتعب نفسها في التفكير والتدبير واندفعت- هي الأخرى- في الاتجاه المضاد، فأغلقت على دعوات التغيير بالضبة والمفتاح، وعاقبت من فكر فيه ومن يفكر فيه، ووضعت الاستقرار فوق كل الأولويات، ووضعت الدولة فوق الشعب ، ووضعت القوة فوق الحق، ووضعت الصرامة فوق الحرية، ووضعت الشعب في دائرة الشك والاتهام وفرضت عليه الوصاية ثم حجرت عليه.

ثم أوغلت السنوات 2013 – 2023م في الاتجاه المضاد فلم تقف فقط ضد كافة أشكال التغيير لكن راحت تنتج أشكالاً من الاستبداد غير مسبوقة في قوتها وقسوتها وشدتها وغلظتها حتى بات كثيرون من المصريين يترحمون على كل استبداد سابق ويذكرون بالخير كل ديكتاتوريات الماضي بما في ذلك ديكتاتورية الاستعمار ذاته.

الصحفي القدير الأستاذ محمد حماد كتب ” ما فعلته السنوات العشر الأخيرة أسوأ مما فعلته المائة سنة التي سبقتها “، وكتب ” ليس أسوأ من التسلط باسم الدين إلا التسلط باسم الوطنية”. الناشط السياسي المخضرم مهندس كمال خليل كتب ” زيهم زي التتار، استعمار، استعمار”، وعقب عليه من قالوا ” بل أسوأ من الاستعمار ” ، ومن قالوا ” أن بعض الاستعمار كان يحافظ على المستعمرات”، وهذه نغمة فكرية مستجدة على الرأي العام المصري، خاصة وأن مصر لم تعرف حكم التتار، مصر البلد الوحيد الذي نجا وسلم من غزو التتار، وذلك بفضل الله ثم بفضل المماليك الذين كانوا درع مصر في مواجهة الفرنجة الصليبيين والتتار المغول معاً.

قطعاً،  لا يوجد أسوأ من الاستعمار، ومهما تكن سوءات الاستبداد المحلي فإن مقارنته بالاستعمار إنما تأتي في سياق الغضب المبرر والعتب المشروع، ويظل الاستبداد المحلي هو المسئول عن صورته في أذهان مواطنيه إذ يربطون بين مثالبه ومثالب الاستعمار، فلم يلجأ المواطنون لهذه المقارنات إلا من كثرة ما أنزله بهم الاستبداد المحلي من قهر وفقر واستنزاف وتضليل وتضييق واستغلال وإذلال وإهانة واستهانة بحيث بات من السهل على الناس أن يقارنوه بالاستعمار أو يرونه أشد وطأة من الاستعمار.

ففي مصر وكثير من البلاد التي تعرضت للاستعمار في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية تجري المقارنات بين عهود الاستبداد الأجنبي في ظل الاستعمار الأوروبي من جهة وعهود الاستبداد المحلي في حكم أنظمة الاستقلال الوطني من جهة أخرى، وفي كثير من الحالات ثبت أن مقاومة الاستبداد الاستعماري كانت أسهل من مقاومة الاستبداد تحت شعارات الحكم الوطني بعد الاستقلال.  القبضة الحديدية التي فرضها الاستبداد الأجنبي عام 1914م تمكن الشعب المصري من كسرها في ثورة 1919 م، لكن القبضة الحديدية التي فرضها الاستبداد المحلي في 2014م استمرت حتى كتابة هذه االسطور في خريف 2023م والله يعلم إلى متى تستمر.

النزعة التشاؤمية في السنوات العشر 2013 – 2023م ليست مجرد حالة نفسية أو ذهنية تنتاب الأفراد، لكن باتت ثقافة عامة وطبع حقبة وروح مرحلة، باتت هي قلب التاريخ الثقافي والروحي. كذلك لم تعد مجرد معاناة فردية أو جماعية من وطأة الظروف العامة والخاصة، فلم تعد مجرد شكوى من الزمان وذماً في الأيام وتبرماً من الأحوال، بل باتت منتدى عاما يتبادل فيه المصريون الأفكار حول كيفية الخروج من هذه الحقبة القاتمة؟ كيف الخروج دون تكرار أخطاء السنوات 2003 – 2013م ؟ بهذا المعنى فإن هذا التشاؤم هو- في بعض معانيه- قوة دفع تجاه المستقبل.

كيف صارت منتدى عاماً لكل المصريين؟ وكيف تكون قوة دفع للمستقبل؟

1 – نبدأ بكونها منتدى عاماً يربط المصريين بعضهم ببعض ويقارب فيما بينهم ويخلق وحدة شعورية تزيد من تماسكهم الإنساني والأخلاقي.

– كتب الناقد الأدبي الدكتور محمد عبد الباسط عيد ما يلي “النهاردة كنت قدام ماكينة ِATM بنك مصر فرع قليوب، سألتني سيدة مصرية تحمل على يدها رضيعاً ، وتمسك بيدها الأخرى طفلاً عمره حوالي سبع سنوات ، سألتني أن أساعدها في إدخال الرقم السري، وأن أسحب لها مبلغ مائة جنيه. نفذت لها ما طلبت ، لكن الحساب – للأسف – كان فيه سبعة وعشرون جنيهاً فقط لاغير ، سألتني : تقدر تسحبهم ؟!!! ، ولكن لم يكن من الممكن سحبهم، شكرتني وذهبت تسأل موظف البنك : ليه مقدرش أسحب السبعة وعشرين جنيه ؟!!! ، ثم خرجت من البنك بعينين دامعتين “. انتهى الاقتباس.

– ثم رجل أعمال- احتفظ باسمه- قال لي “مشكلة مصر الآن يمكن تلخيصها في أن الماضي أفضل من الحاضر، وأن المستقبل- بالورقة والقلم- وحش جداً، وذلك في ظل مديونية غير مسبوقة، بسبب استخدامات لا تدر عائداً ، وفوائد هذه الديون تتضاعف، مع إحجام العالم الخارجي عن الاستثمار في مصر، ومع إحجام المصريين عن الاستثمار في مصر، فالمناخ الاستثماري في مصر- الآن- طارد للجميع”، ثم قال لي رجل الأعمال “الأخطر من الأزمة الحالية هو عدم وجود أفكار أو مقترحات أو تصورات للتغلب عليها، نحن في وضع مأساوي غير مسبوق”، لو الاستعمار مازال موجوداً، فلن يقبل أي مستعمر عاقل أن يأتي ليستعمرنا ويستغلنا، وذلك لأنه يعلم أننا لم نعد نمثل غير قيمة سلبية صافية Negative Net Value “. انتهى كلام رجل الأعمال.

– الشاعر الأستاذ فتحي عبد السميع كتب يقول “المصريون يعيشون حالة يأس رهيبة، أجمل ما يمكن أن ينتظره المصريون هو عودة دوري كرة القدم وعودة الجمهور إلى الملاعب”، وكتب “كلما لمست يد الصحافة المصرية وجدتها ساكنة باردة قهل ماتت الصحافة المصرية؟ “انتهى الاقتباس. وقد علقتُ علي تساؤله بأن الصحافة المصرية قد ماتت بالفعل من عشر سنوات حتى وصلت حدود العدمية المطلقة من عام 2013م حتى عام 2023م، فالصحافة والإعلام وحريات التعبير بكافة أشكالها كانت ومازالت هدفاً مستمراً لاستبداد السنوات العشر، وموت الصحافة حرم الناس نوافذ الحرية التي أتاحتها ثورة 25 يناير 2011م كما حرمت الناس هوامش الحرية التي بدأت مع عهد السادات وحافظ عليها وزاد منها عهد مبارك، انسداد كل نوافذ حريات الصحافة والإعلام والتعبير مسئول- بقدر كبير – عن النزعة التشاؤمية التي تتعمق كل يوم على مدى السنوات العشر الأخيرة.

لو كان الجبرتي حياً لوجد- كل يوم- على مدونات السوشيال ميديا أطنان المعلومات كتبها المصريون بأنفسهم عن قتامة الحقبة وسواد المرحلة وانسداد الأفق وغياب وفقدان البوصلة وغياب الوجهة الواضحة المستقيمة، وأي مؤرخ له اهتمام بالتاريخ الثقافي- على وجه التحديد- سوف يجد في هذه المدونات ثروة غير مسبوقة من مصادر المعرفة تحتاح منه أن يجمعها وينسقها ويبوبها ويفسرها ويحللها ويخرج منها بنتائج عن العقل المصري وشواغله وهمومه ومطامحه في هذا العقد المميز من تاريخه المعاصر .

2 – أما عن المستقبل، فإن هذه النزعة التشاؤمية زادت من فهم المصريين لطبائع الاستبداد الذي يحكمهم من زوال الملكية ثم إعلان الجمهورية عام 1953م ، بات المصريون أكثر وعياً بالمنظومة ذاتها ومصالحها وآلياتها ، الفكر التغييري الذي كان في السنوات العشر من 2003 – 2013م تمت مراجعته وصقله، فلم تعد الفكرة مجرد تغيير أشخاص وأنهاء أنظمة وإحلال أنظمة جديدة، بات المصريون أكثر وعياً بأن المسألة ليست فيمن يشغلون المناصب بقدر ما هي فيمن يملكون البلد، مسألة من يملك البلد ويتصرف في خير البلد ويوزع مغانم البلد باتت هي السؤال الأهم.

في علم السياسة المصري، فإن نتائج انتخابات الرئاسة المقررة في عام 2024م، هي أمر معلوم محسوم، تم حسمه بصورة يقينية لا يرقى إليها أدنى شك، مع تعديل الدستور في 23 إبريل 2019. فلم يحدث في تاريخ الجمهورية أن ترشح ضابط للرئاسة سواء في استفتاء أو انتخاب إلا وهو يعلم علم اليقين وأركان الدولة كلها تعلم علم اليقين أنه فاز بها من لحظة أن عقد النية عليها، فقط كل ما عليه هو أن ينوي وأن يقرر . ( طبعاً باستثناء انتخابات 2012م) .

فهل- بالفعل- انحسم سؤال المستقبل؟

الجواب في مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله.