في الساعات الأولى من صباح الرابع والعشرين من أغسطس/ آب الماضي، فاجأ قائد الجيش السوداني، عبد الفتاح البرهان، جنوده بتجوله في مناطق مختلفة خارج مقر القيادة العامة لأول مرة منذ اندلاع الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع في منتصف إبريل/ نيسان 2023.

لأشهر حاصرت الدعم السريع مقر القيادة العامة وفيها عدد من أكبر قادة الجيش وعلى رأسهم البرهان، إلا أن الأخير تمكن من كسر الطوق والخروج في عملية عسكرية معقدة ساهمت فيها قوات بحرية وجوية وبرية، ليزور معسكر “وادي سيدنا”، ثم معسكر سلاح المدفعية في مدينة عطبرة، شمالي البلاد، وهو أحد أهم أسلحة الجيش خارج العاصمة الخرطوم.

أراد البرهان أن يظهر بمظهر الرجل العسكري القوي الذي لا زال يُمسك بزمام الأمور، قبل أن يخلع بذلته العسكرية بعدها بأيام ويرتدي أخرى مدنية، ليظهر كرجل دولة، في طريقه نحو مدينة العلمين المصرية حيث كان في استقباله الرئيس عبد الفتاح السيسي، في أول رحلة خارجية للبرهان منذ اندلاع الصراع.

لطالما عُرفت القاهرة بدعمها الراسخ للمؤسسة العسكرية في السودان- منذ الإطاحة بنظام عمر البشير عام 2019- لكن البرهان الذي أتى مُحملاً بالكثير من الأماني والرغبة في الحصول على دعم من مصر، يبدو أنه لم يجد ما كان يتوقعه، بحسب ما أشار إليه محللون ودبلوماسيون سابقون لـ”مصر 360″، فيما بدا كإعادة قراءة مصرية للوضع الداخلي في السودان، وما تقتضيه المرحلة من تغيير في الحسابات.

السياق السياسي لرحلات البرهان الخارجية

بعد الانتهاء من زيارته في مصر، توجه البرهان إلى كل من جنوب السودان وقطر وإريتريا، لأهداف متباينة. لكن جميعها اندرج تحت رغبة قائد الجيش في ترسيخ قبضته الداخلية، واكتساب شرعية دولية كممُثل للدولة السودانية.

وقد كانت زيارته لجنوب السودان بهدف دفع جوبا للضغط على “الحركة الشعبية شمال- فصيل عبد العزيز آدم الحلو” التي تتمتع بعلاقات قوية معها، لإيقاف المواجهات العسكرية مع الجيش في ولاية جنوب كردفان، حيث سيطرت على بعض المدن خلال الفترة الماضية.

أما زيارته لقطر، فبحسب البيانات الرسمية كانت لإجراء مباحثات مع أمير البلاد “لتناول مسار العلاقات الثنائية بين البلدين وسبل تعزيزها والقضايا ذات الصلة وتطورات الوضع في السودان”. وفي إريتريا فقد تطرقت المباحثات “للمبادرات المطروحة بشأن معالجة الأزمة السودانية للخروج برؤية موحدة تحقق السلام والاستقرار في البلاد”.

أتت زيارات البرهان في ظل تقارير عن وساطات للتفاوض بينه وبين قائد الدعم السريع، محمد حمدان دقلو “حميدتي” خارج البلاد سعيًا لإيجاد حلّ للنزاع.

لذا، نظر البعض إلى المشهد الراهن كنقطة بداية لإحياء الجهود الرامية إلى إجراء محادثات مباشرة بين طرفي الصراع، وأنها مؤشر على تحرك البرهان، بحثًا عن حلول دبلوماسية، قد تمهد لقبول الطرفين بالجلوس لمائدة الحوار.

وتزامن ذلك مع نشر “حميدتي”، مبادرة تعبّر عن موقفه من الشروط، وشكل التسوية السياسية التي يمكن أن تؤدي إلى توقفه عن مواصلة القتال، ومنها إقامة نظام فيدرالي.

لكن حتى الآن، أظهر خطاب البرهان المحلي تمسكًا واضحًا باللهجة العسكرية ورفض أي تسويات سياسية، رغم عدم قدرة الطرفين على حسم المعارك التي أسفرت عن مقتل 7500 على الأقل، وفرار أكثر من 4.6 ملايين شخص من منازلهم.

كما هاجم البرهان الاتحاد الإفريقي بسبب لقاء مسئوليه مع قيادات من الدعم السريع. وقطع بعدم القبول بسلام يعيد البلاد إلى ما قبل اندلاع الحرب. وبعدها، أصدر قرارًا بحل قوات الدعم السريع، ودعا إلى تصنيفها “جماعة إرهابية”.

تزامنت خطوات رئيس مجلس السيادة السوداني مع القرار الأمريكي الصادر بعقوبات ضد القائد الثاني لقوات الدعم السريع، عبد الرحيم دقلو -شقيق حميدتي وذراعه الاقتصادي- بسبب انتهاكات حقوق الإنسان في غرب دارفور حيث ارتكبت قواته مجازر واغتصاب وترويع بحق المدنيين.

وفيما تُفضل الدول الغربية عدم التعامل مع الكيانات التي لديها صلات مع روسيا منذ غزو أوكرانيا، يبدو أن قائد الجيش السوداني يحاول الاستفادة من هذا السياق وإظهار الدعم السريع على أنها أكثر تطرفًا ودمويةً، وموالية لموسكو.

يرى خالد سعد، المحلل السياسي السوداني، في حديثه مع “مصر 360″، أن هناك عدة سيناريوهات لزيارات البرهان الخارجية يمكن التكهن بها:

أولاً: تأكيد قدرة الفعل السياسي مقرونًا مع خروج قائد الجيش من القيادة العامة وإعلانه الخروج بعملية عسكرية.

وثانيًا: حشد المواقف الإقليمية لدعم الجيش السوداني في أي تسوية محتملة، لأن التسوية نفسها تتطلب دعمًا ماليًا ضخمًا لإعادة الإعمار، والدوحة لديها تجربة سابقة في قضية دارفور.

وثالثًا: ربما أراد البرهان إرسال رسالة بعدم رضاه عن جدوى محادثات جدة، وبالتالي الرغبة في مزيد من الضغوط على قوات الدعم السريع إذا كان هناك أمل في إعادة تفاوض جدة.

ومنبر جدة هو منصة تجمع السعودية مع الولايات المتحدة من أجل تأمين وقف إطلاق النار في السودان، لكن حتى اللحظة فشلت جهودها.

ورابعًا: هناك إرهاصات قوية باحتمالية تكوين حكومة طوارئ من مدنيين تكنوقراط لتشغيل أمور الدولة تحت رعاية الجيش، وأن البرهان يسعى لكسب الشرعية لهذه الحكومة”.

عدم توافق الرؤى المصرية مع البرهان

مع اندلاع الصراع، بدا أن الاصطفاف المصري إلى جوار الجيش السوداني راسخًا بعدما دعمته طويلاً للبقاء في السلطة والوقوف كعقبة أمام التحول الديمقراطي. لكن بعد أشهر من النزاع الذي ترك آثاره السلبية على مصر وساهم في تدفق مئات الآلاف من اللاجئين، ظهر التحول في الموقف المصري.

تجسد ذلك، في قمة دول جوار السودان التي استضافتها القاهرة -يوليو/ تموز الماضي- وأكدت في ختامها أهمية الحفاظ على الدولة السودانية ومؤسساتها ومنع تفككها. ثم لاحقًا ولأول مرة استضافة اجتماع قوى الحرية والتغيير؛ بحثًا عن صياغة مبادرة لوقف إطلاق النار، وإنهاء الأزمة عبر تكوين جبهة مدنية موحدة، رغم ما شاب علاقتها من توتر مع قوى المجلس المركزي سابقًا.

يشير محللون إلى أن جولة البرهان قد تكون متعلقة بالتسويق لحكومة مقترحة في بورتسودان -حيث الوضع الأمني مستتب- ومحاولة حشد الدعم الإقليمي، بالإضافة إلى الحصول على الدعم المالي والعسكري، إذ رافقه إلى العلمين مدير إدارة التصنيع الدفاعي.

لكنه في زيارته لمصر لم يكن يعلم أن مياهًا كثيرة مرت تحت الجسر خصوصًا فيما يتعلق بالتغيير الكبير الذي طرأ على الموقف الرسمي المصري بين فترة ما قبل اندلاع الحرب وما بعدها، بحسب ما يقول الكاتب والمحلل السوداني، حاتم إلياس.

ويعتقد إلياس -في حديثه مع “مصر 360”- أن القاهرة حاليًا ليست على اتفاق في مستوى الرؤية السياسية مع البرهان خصوصًا أن النظرة المصرية “تحولت بشكل إيجابي في التعامل مع القوى المدنية المتمثلة في الحرية والتغيير والاعتراف بتأثيرها ودورها في تمثيل النخب السياسية المدنية الديمقراطية”.

“التحول في الموقف المصري يمكن أن نقول إنه تأثر بعدة عوامل منها فشل البرهان نفسه في إدارة المعركة وحسمها، وفشله كقائد عسكري وسياسي، إضافة لظهور الإسلاميين بقوة على مسرح المعركة وعودة تشكيلاتهم الميليشياوية من جديد -مثل كتيبة البراء- ولهذا اتضح لمصر أن الجيش السوداني تعرض لما يشبه عملية أخونة كبيرة خصوصًا وسط قياداته العسكرية”، يوضح الكاتب السوداني.

ومن وجهة نظره، فقد طرأ تغيير على مركز صناعة القرار المصري فيما يتعلق بالشأن السوداني “ربما أُزيح الحرس القديم الذي تولى هذا الملف بتقديرات بيروقراطية كلاسيكية، وتم إحلال أو إفساح المجال لوجهات نظر أخرى ترى ضرورة التعاطي مع الشأن السوداني وفق رؤية جديدة، تضع في اعتبارها إعطاء التقدير والاعتبار الواقعي للقوى المدنية المؤثرة”.

مخاوف مصرية من ضعف البرهان ودور الإسلاميين

وفق المحلل السوداني، المقيم حاليًا في العاصمة الأوغندية كمبالا بسبب مآسي الحرب، يبدو أن البرهان لم يسمع ما يرضيه في مصر “لذا كانت عودته للسودان وخطاباته الرسمية في بورتسودان والدمازين كأننا أمام نسخة جديدة لعمر البشير، ولم تكن خطاباته تعبر عن مضمون يستهدف التأثير المعنوي لقائد وسط معركة، وإنما في ظني كأنها ردة فعل لزيارته الفاشلة لمصر، وكأنه يقول: ها أنا ذا أعود لحاضنتي الإسلامية، فعندها سأجد الدعم والمؤازرة”.

ويقصد المحلل خطابات البرهان التي هاجم فيها الاتحاد الإفريقي، ودعا لتصنيف الدعم السريع جماعة إرهابية.

ويلفت إلياس “اكتشفت مصر أن الجيش السوداني تم اختراقه بشكل كبير ومؤثر من الإسلاميين السودانيين من ناحية، وغياب الكفاءة من ناحية أخرى.. أما البرهان فيحاول الالتفاف على المبادرات المصرية والإقليمية، وأدرك أن كُلفتها تعني ذهابه من المشهد، ولهذا أصبح وجوده وشرعيته واستمراره من استمرار الإسلاميين أنفسهم”.

يتفق مع هذا المنظور ألبرتو ميجيل فيرنانديز، السفير الأمريكي الأسبق في السودان، إذ يقول إن البرهان  أراد كل ما يمكنه الحصول عليه من القاهرة والدوحة: الدعم الدبلوماسي والأسلحة والمال. كما أراد أن يتصرف كرجل دولة وأن يُظهر أنه لا يزال موجودًا وأنه حر بعد أشهر من الحصار.

“لقد نجح في إظهار بقائه لكنه لم يحصل على أي دعم أو أسلحة أو أموال جديدة. وقد تم تقويض حنكته السياسية بسبب التصريحات التي صدرت في السودان قبل وبعد الزيارات التي دعت إلى مزيد من الحرب”، يشير فيرنانديز.

ويضيف لـ”مصر 360”: “أعتقد أنه في الوضع المثالي، تفضل مصر وجود حكومة عسكرية قوية في السودان، لكن الآن هناك مخاوف حقيقية بشأن قوة البرهان داخليًا، وقوة الجيش، ودور الإسلاميين فيه. لذا فإن مصر حذرة وتريد العمل قدر الإمكان في إطار الإجماع العربي المتطور. وفي هذا فإنهم مثل السعودية وقطر يرغبون جميعًا في رؤية نهاية سريعة للقتال في السودان ووضع يحفظ سلامة ووحدة البلاد”.

ويستدرك “المشكلة هي أنه لا يبدو أن الجيش، وبالطبع قوات الدعم السريع، قادر على توفير ذلك. ولا أحد -حتى قطر التي عادة ما كانت داعمة للإسلاميين- يريد أن يُنظر إليه على أنه الدولة التي جلبت إلى السلطة نظام البشير الجديد الكارثي تحت قيادة البرهان أو أي جنرال آخر”.

ويظن حاتم إلياس أن زيارة البرهان لقطر كانت محاولة للعب على التناقضات ودعم قطر للتيارات الإسلامية، لكنه وجد أن موقف الدوحة مختلف ولا ترغب في تجاوز الدورين المصري والسعودي.

وهو ما يتفق معه ماهر أبو الجوخ، الصحفي والقيادي بتحالف قوى الحرية والتغيير – المجلس المركزي، مشيرًا إلى أن البرهان تفاجأ في جميع زياراته الخارجية بتوحيد المواقف ورغبة الجميع في إنهاء تلك الحرب.

ويقول لـ”مصر 360″ إن هذه المواقف الموحدة سوف تدفع البرهان عاجلاً أم آجلاً إلى العودة لمنبر جدة والتفاوض حول تسوية سياسية لأنه لم يعد لديه خيار. “هذه المواقف الدولية والإقليمية -خاصة من مصر- ربما تمنع إمكانية تكرار السيناريو الليبي بوجود حكومتين تحظيان بدعم إقليمي لكل منهما”.

ماذا عن الموقف الأمريكي؟

يُفضّل الأمريكيون أن يفوز الجيش لأن قوات الدعم السريع تبدو فوضوية للغاية، بحسب فيرنانديز الدبلوماسي الأمريكي السابق في السودان. “لكنهم لا يعشقون القوات المسلحة التي تبدو ضعيفة، وتدلي بتصريحات مناهضة لأمريكا ومعادية للغرب، وتسيء معاملة الناس في المناطق التي تسيطر عليها. لذلك لا توجد خيارات واضحة أو سهلة”.

إن القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع كلاهما خيارًا سيئًا عندما يتعلق الأمر بالأمريكيين، بتعبير فيرنانديز، ولكنهم قد يحتاجون إلى التفاوض معهم في مرحلة ما للحصول على نوع من التسوية أو حتى بعض العمليات المؤقتة لمساعدة الشعب السوداني.

يقول فيرنانديز: “كل هذه الدول التي ذكرناها لديها سيناريو لما تريد وما تعتقد أنه ممكن. قد يرغب البعض في فوز الجيش ولكنهم لا يثقون فيه بشكل كامل. ويستغرب الكثير منهم ضعف الجيش (لكن قوات الدعم السريع ضعيفة أيضًا). وهم يخشون الفوضى وتقسيم السودان حيث يهيمن الدعم السريع على غرب السودان ويسيطر الجيش على الباقي، ومن تأثير ذلك على الدول المجاورة. حتى إذا هُزمت الدعم السريع، فقد تكون قوية بما يكفي لزعزعة استقرار بلدان أخرى في منطقة الساحل، وبالتأكيد تشاد”.

ويتابع حديثه لـ”مصر 360″: “نرى في المناطق التي يسيطر عليها الجيش أنهم ما زالوا يعتقلون ويقتلون المدنيين ويسحقون المعارضة، لذا فإن انتصار الجيش يمكن أن يخلق مشكلة أخرى: دكتاتورية عسكرية غاضبة وانتقامية لن تكون مستقرة أيضًا”.

“لا تزال القوات المسلحة تريد القتال وقوات الدعم السريع ليست مستعدة للتوقف أيضًا. كلاهما -على الرغم من المظاهر- منظمتان غير مستقرتين للغاية، ولكن لا تزال لديهما القدرة على القتال والمقاومة”. لذا، فإن المزيد من القتل والموت سيحدث في السودان قبل أن يصبح أي نوع من المفاوضات ممكنًا.