لا يمكن أن تدخل في نقاش حول أوضاع البلاد السياسية والاقتصادية، إلا وستجد أقلية من الناس تنبري، لتقول لك العيب ليس عيب حكومة، إنما عيب شعب أو عقلية وسلوكيات شعب، وغيرها من نغمات على نفس اللحن، ترى أن مشاكلنا ترجع إلى الشعوب وليس الحكام.
والحقيقة أن هذا الكلام لا يعي أصحابه، إنه ضد العلم وضد كل النظريات الحديثة التي فصلت بين كتابات القرون الوسطي التي كرست أحكاما قيمية، وثقافية على الشعوب، وخاصة كتابات المستشرقين الذين وصفهم إدوارد سعيد في كتابة الاستشراق، بأنهم قاموا “بشرقنة الشرق” أو في كتابه الآخر “تغطية الإسلام” الذي رفض فيه التنميط الثقافي في وسائل الإعلام الغربية، وبين النظريات العلمية الحديثة التي تكلمت عن السياقات السياسية، والاجتماعية التي تشكل ثقافة الشعوب وسلوكياتها.
والمؤكد، إنه منذ القرن الماضي لم يعد أحد تقريبا، يتحدث عن عيوب أصيلة في شعب، إنما عن واقع مجتمعي، تشكله الظروف السياسية والاجتماعية المحيطة، وأصبحت حتى تيارات اليمين المتطرف في الغرب المعادية للشعوب والثقافات الأخرى يقولون، إن هذه مجتمعات مأزومة، وأنها مختلفة عن الغربية، ونادرا لو استمعنا لأحد يقول، بشكل مباشر وعلني، أنتم شعوب متخلفة غير قابلة للتقدم؛ لأنكم ولدتم خليجيين أو مصريين أو أتراك أو هنود.
المناهج العلمية الحديثة تقول، إن الاقتراب من الهوية الحضارية لبلد ولثقافة شعبها، ليس من أجل تنميطها، إنما من أجل تفسير تطورها وتحليل مساراتها وبنيتها السياسية، بما يعني أن هذه المناهج باتت ترصد كيفية تغيير المجتمعات، والتأثير فيها عبر الأدوات المختلفة، سواء كانت تعليمية أو ثقافية أو اقتصادية أو إعلامية، وهنا سنجد اهتمام الكثيرين العلمي، والسياسي بكيفية تأهيل بلاد أوروبا الشرقية؛ للتحول الديمقراطية، وبناء مجتمع منسجم مع المنظومة السياسية الجديدة، وكيف تم تغيير الثقافة السياسية الألمانية التي انتجت النازية، عبر أدوات فعل اجتماعي وسياسي وإعلامي؛ لتصبح جزءا أصيلا من النسق الديمقراطي الغربي.
لم يعد هناك تقريبا من يقول، إن سلوكيات الشعوب وتصرفاتهم في الشارع، وفي أماكن العمل ومع الجيران، ترجع لعيوب “جينات” أو نتيجة إرث ثقافي ساكن، لا يتأثر بالسياق السياسي المحيط، ولم يعد هناك من ينظر إلى الشعوب، على أنها مصدر التعاسة والشقاء، إنما إلى منظومة الحكم والإدارة، وأدواتها المختلفة سياسيا واجتماعيا، وثقافيا القادرة على بناء شعب متقدم، يحترم القانون والعلم، وآخر نامٍ غارق في الجهل والأمية.
فلا زال كثير منا في العالم العربي يتحدث عن كيف كانت سلوكيات الناس، وعاداتهم وتقاليدهم في أربعينيات وخمسينيات وستينيات القرن الماضي، وكيف تغيرت وتحولت في العصر الحالي، وأن ملابس النساء في بلد مثل، مصر في ستينيات القرن الماضي، مقارنة بما علية الحال الآن، يقول: وكأنهن في بلد آخر، ودون أن يعني ذلك حكما قيميا بتفضيل زي على آخر، إنما يعني التحول والتغير في منظومة القيم الحاكمة، وفي الهوية السائدة التي رجحت شكلا لسيدات الطبقة الوسطي في ستينيات القرن الماضي، وأفرزت آخر (حجاب وغطاء رأس)، منذ ثمانينيات القرن الماضي، وحتى الآن، وفي كلا الحالتين، كان الشعب واحدا، وأن الفرق في رسالة، وأدوات منظومة الحكم السياسية والثقافية والتعليمية.
لم يعد هناك حديث، يذكر عن شعب متحضر وآخر متخلف؛ لأسباب هيكلية، تجعل هناك شعب قابل للتطور، والديمقراطية وآخر ليس كذلك، وأصبحت هناك أسباب علمية وسياسية، تفسر أسباب تقدم بعض الدول، وتراجع بعضها الآخر، أو نجاح انتقال ديمقراطي في مجتمع، وفشل آخر، أي أنها لم تعد تحمل حكما قيميا على الشعوب، كما فعل المستشرقون صراحة، ويفعل اليمين المتطرف ضمنا، وتفعل القلة في مجتمعاتنا عن جهل بالعلم، وإحساس بالدونية تجاه حكامها.
نظرية العيب في الشعوب هي خارج العلم، ويقولها رموز أقصى اليمين المتطرف في أوروبا بحق الحضارات، والثقافات غير الغربية، ويرددها عن جهل، وبشكل أكثر فجاجة بعض أبناء هذه الحضارات، وخاصة في مجتمعاتنا.
والحقيقة، أن بعض المصريين تكرس في ذهنهم، أن مشكلة البلد الاقتصادية؛ بسببهم؛ لأنهم ينجبون أطفالا كثيرين، في حين أن المسئول الأول عن ذلك هو النظام السياسي، الغير قادر على إقناع الناس بجدوي تنظيم الاسرة، وفرضه إذا لزم الأمر، كما فعلت الصين التي امتلك نظامها شرعية الإنجاز الاقتصادي والتنموي، أو أن مشكلة البلد السياسية أيضا بسببهم، لأنهم غير مؤهلين للديمقراطية، وأنهم غير واعين وجهلاء، والحقيقة إنه لا يوجد شعب غير مؤهل للديمقراطية، إنما هناك نخب وقادة يؤمنون بالديمقراطية، ويخوضون معركة التحول الديمقراطي، ويطبقوا القوانين على الجميع أي أهل الحظوة قبل المواطنين البسطاء.
أن جملة العيب في الشعب جملة باطلة شكلا وموضوعا، فهي كما ذكرنا ضد العلم الحديث الذي لم يعد ينمط الشعوب، وهي ضد الواقع، لأن العيب في نظم الحكم التي إذا وضعت منظومة سياسية كفؤة، وعادلة ستُخرِج من الشعب أفضل ما فيه، وحين تضع منظومة فاسدة، وغير عادلة ستُخرِج من الناس أسوأ ما فيهم.
لا يجب التسليم، بأن هناك شعبا ولد بعيوب، أو أن الأزمة هي أزمة وعي، إنما هي في الحقيقة أزمة توعية، مسئول عنها النظام القائم، وأن هناك ظروفا محيطة تخلق العيوب أو تلغيها، وأن نظم الحكم التي تمتلك أدوات التأثير السياسية، والثقافية والتعليمية بجانب تطبيق القانون، والعدالة هي القادرة على أن توعي الناس أو تجهلهم.