كان إخراج المشهد مُعدًا بطريقة جيدة. تحوّل السلام بقبضة اليد إلى مصافحة حارة بين الرئيس الأمريكي جو بايدن، وولي العهد السعودي محمد بن سلمان، بينما توسطهما ناريندرا مودي رئيس وزراء الهند، القوة الصاعدة الجديدة وحليفة الولايات المتحدة في تقويض النفوذ الصيني. فيما لم تُنس جهود الرئيس الإماراتي محمد بن زايد الذي شُكر ثلاث مرات؛ لأن “لولاه لما خرج هذا المشروع للنور”.

 هذا المشهد السينمائي الذي أُعلن فيه عن مشروع “الممر الاقتصادي الجديد” الواصل بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، كان بعد أيام معدودة فقط من انضمام السعودية والإمارات إلى تجمع “بريكس” الاقتصادي، والذي يُنظر إليه، على أنه كيان يُجمع كل الساخطين على عالم أحادي القطب.

 لكن مجددًا تُثبت الولايات المتحدة، أن لديها الكثير من أوراق اللعب، وتُثبت الهند، أنها قوة صاعدة جديدة في العالم الذي يتشكل، وتبرهن كلُ من السعودية والإمارات، أنهما يٌدركان السياق بشكل جيد، وأنهما قادرتات على الاستفادة بشكل أمثل من التنافس الصيني الأمريكي؛ لتحقيق العديد من المكاسب، ووضع نفسيهما في قلب التفاعلات الدولية.

 ماذا نعرف عن “الممر الاقتصادي”؟

 ببساطة، يتألف المشروع من ممرين منفصلين، الممر الشرقي الذي يربط الهند بالخليج العربي عبر بحر العرب، والممر الشمالي الذي يربط الخليج العربي بأوروبا، عبر إسرائيل وساحل البحر الأبيض المتوسط.

كما مُتصور، ستنطلق السفن البحرية من شواطئ الهند نحو الإمارات، ثم عبر خط مُطوّل من السكك الحديدية يمر بالسعودية، ومنها إلى الأردن، ثم ينتقل إلى إسرائيل، حيث تتحرك السفن البحرية من شواطئ البحر المتوسط إلى اليونان وإيطاليا؛ لتستكمل البضائع رحلتها إلى باقي الدول الأوروبية، عبر الخطوط البرية. 

وفي التفاصيل، سيربط الممر الشرقي ميناء موندرا الهندي على الساحل الغربي بميناء الفجيرة الإماراتي، ثم يستخدم خط السكة الحديد،عبر السعودية والأردن؛ لنقل البضائع؛ عبر حاويات موحدة إلى ميناء حيفا الإسرائيلي. أما الممر الغربي فسيكون من حيفا، ومنه ستصل البضائع الهندية إلى موانٍ مختلفة مثل، مارسيليا في فرنسا وموانٍ أخرى في إيطاليا واليونان.

 

 

 وعلى طول مسار السكة الحديد، يعتزم المشاركون مد كابل للكهرباء والاتصال الرقمي، فضلاً عن أنابيب؛ لتصدير الهيدروجين النظيف، ليعمل هذا الممر على تأمين سلاسل التوريد الإقليمية، وزيادة إمكانية الوصول إلى التجارة، وتحسين تيسيرها، ودعم التركيز المتزايد على التأثيرات البيئية والاجتماعية، بحسب مذكرة التفاهم التي نشرها البيت الأبيض.

 وفق المذكرة، يؤدي الممر إلى زيادة الكفاءة، وخفض التكاليف، وتعزيز الوحدة الاقتصادية، وتوليد فرص العمل، وخفض انبعاثات الغازات الدفيئة؛ مما يُساهم في التكامل بين آسيا وأوروبا والشرق الأوسط.

 ويُخطط كذلك لربط القارتين الأوروبية والآسيوية بمراكز تجارية، وتسهيل تطوير وتصدير الطاقة النظيفة، ومد كابلات تحت البحر وربط شبكات الطاقة وخطوط الاتصالات؛ لتوسيع نطاق الوصول الموثوق إلى الكهرباء، وتمكين ابتكار تكنولوجيا الطاقة النظيفة المتقدمة، وربط المجتمعات بالإنترنت الآمن والمستقر.

 هكذا، كشفت لائحة الأهداف الطموحة للمشروع الذي أُعلن عشية الذكرى السنوية العاشرة؛ لمبادرة الحزام والطريق التي أطلقتها الصين. والهدف الأمريكي والهندي واضح من اختيار التوقيت.

 وبالتزامن أيضًا، هناك مشروع “البوابة العالمية” للاتحاد الأوروبي- أحد الموقعين على الاتفاقية- والذي خُصص له نحو 300 مليار يورو؛ لاستثمارات البنية التحتية الخارجية بين عامي 2021 و2027، وتم إطلاقه جزئيًا، لمنافسة مبادرة الحزام والطريق الصينية والدفاع عن المصالح الأوروبية مع الشركاء التجاريين الرئيسيين.

 تقول صحيفة “فاينانشيال تايمز“، إن المشروع الذي تم الاتفاق عليه على هامش مجموعة العشرين من شأنه؛ أن يواجه النفوذ الصيني المتزايد في الدول العربية.

 وتضيف، “بالنسبة للولايات المتحدة، يمكن أن يكون المشروع بمثابة مواجهة؛ لنفوذ بكين المتزايد في المنطقة في وقت يعمل فيه شركاء واشنطن العرب التقليديين، بما في ذلك الإمارات والسعودية على تعميق العلاقات مع الصين، والهند والقوى الآسيوية الأخرى”.

  وقال بايدن، إن الممر سيوفر “فرصًا لا نهاية لها” للدول المعنية، وإن ذلك “سيساهم في جعل الشرق الأوسط أكثر استقرارًا وازدهارًا”.

 وأضاف، “إن العالم يقف عند نقطة انعطاف في التاريخ. وهي النقطة التي ستؤثر فيها القرارات التي نتخذها اليوم على مسار مستقبلنا، كل مستقبلنا لعقود قادمة. النقطة التي ستؤثر فيها استثماراتنا، أصبحت أكثر أهمية من أي وقت مضى”.

 هل يدعم مسار التطبيع؟

 اعتبر رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أن المشروع “سيعيد تشكيل المنطقة، وسيعيد تشكيل إسرائيل”، واحتفى به احتفاءً بالغًا.

 يدعم الممر المخطط له المرور، عبر الأردن وإسرائيل جهود إدارة بايدن؛ للبناء على التطبيع الأخير للعلاقات بين إسرائيل والعديد من الدول العربية؛ لتدفع السعودية إلى أن تحذو حذوها، وإضفاء الطابع الرسمي على العلاقات، حسبما قال شخص مطلع على الأمر: للصحيفة البريطانية.

 وقد تعاظمت الجهود الأمريكية والرحلات المكوكية مؤخرًا إلى الرياض، وتل أبيب من أجل دفع الصفقة قُدمًا قبل الدخول في أجندة الانتخابات الرئاسية 2024.

 يقول مايكل كوجلمان، خبير شؤون جنوب آسيا في مركز ويلسون التابع للكونجرس الأمريكي، لـ “مصر 360″، إن أحد أهداف واشنطن هو تسهيل هذا المشروع لمزيد من الروابط، والتجارة داخل الشرق الأوسط، “مما يبني المزيد من الثقة، ويمكّن المزيد من الدول من تطبيع العلاقات مع إسرائيل، مع كون المملكة العربية السعودية الهدف الأول”.

 وهو ما يتفق معه حسن الحسن، زميل باحث في سياسة الشرق الأوسط في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية “من الواضح، أن الولايات المتحدة تحاول الدفع باتجاه اعتراف دبلوماسي أوسع بإسرائيل، من خلال الباب الخلفي للتكامل الاقتصادي والاتصال”.

 الإمارات كمركز رئيسي

 يساعد المشروع كلاً من السعودية والإمارات على إبراز نفسيهما كمراكز لوجستية، وتجارية رئيسية بين الشرق والغرب.

 وبينما تبدو أجزاء كبيرة من المشروع مُكتملة من ناحية البنية التحتية، إلا أن خطوط السكك الحديدية المارة في السعودية، تحتاج لبدء العمل فيها، وقد أعلن ولي العهد السعودي، أن المملكة مستعدة؛ لإنفاق 20 مليار دولار.

 ويمكن للمشروع، أن يُسرّع التجارة بين الهند وأوروبا بنسبة 40%، وتشير تقديرات إلى، أنه يخفض زمن الشحن بين مومباي في الهند إلى بيرايوس في اليونان من 17 يومًا في الوقت الحالي، إلى 10 أيام فقط.

 وتعد الإمارات الدافع الرئيس خلف إنشاء ممر تجاري مع الهند في عام 2022، وظهر كمخطط يربط الدولتين مع إسرائيل (حيث تلعب الدولة الخليجية دور الداعم المالي، والهند دور المُنتِج الغذائي، وإسرائيل دور الخبرات التكنولوجية الزراعية) قبل أن تتوسع اللائحة لتضم الدول الأخرى.

 والإمارات تحديدًا، لديها مواني دبي العالمية التي تدير محطات حاويات رئيسية في مواني موندرا ونهافا شيفا وكوتشي على الساحل الغربي للهند، بالإضافة إلى ميناء جواهر لال نهرو، حيث تُشغّل إحدى محطات الحاويات الرائدة في ميناء، يتعامل مع حوالي 50% من البضائع المنقولة بالحاويات في الهند.

 وبعد أن أنشأت صندوق استثمار بقيمة 3 مليارات دولار، بالشراكة مع الصندوق الوطني للاستثمار في البنية التحتية بالهند، قامت مواني دبي بالعديد من الاستثمارات الرئيسية في الهند منذ عام 2019؛ لتبرز كشركة متكاملة للخدمات اللوجستية وسلاسل التوريد.

 يرى حسن الحسن، الباحث في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، إن زيادة الاتصال مع الهند قد يعزز مكانة الإمارات كمركز تجاري رئيسي في المنطقة. ويشرح لـ”مصر 360″، أنه يمكن أن يخدم أيضًا المواني المجاورة مثل، الدقم (في سلطنة عمان) اعتمادًا على مدى ارتباطها بخطوط السكك الحديدية.

 وفي حين تدرك الولايات المتحدة، أن الهند لن تتماشى إلا جزئيًا مع مصالح واشنطن في الشرق الأوسط وآسيا على نطاق أوسع، فمن غير المرجح، أن يؤدي تواجد دلهي بالمنطقة إلى تقويض المصالح الأمريكية، كما تفعل الصين، بحسب الباحث في معهد الشرق الأوسط بواشنطن، محمد سليمان.

 “الأهم من ذلك، هو أن نجاحات نيودلهي في المنطقة بالتكامل مع السعودية والإمارات، سوف تقوض نفوذ الصين الاقتصادي على المدى المتوسط ​​والطويل”، يضيف سليمان.

 والإمارات والسعودية هما ثالث ورابع أكبر شريك تجاري للهند، على الترتيب.

 الصين في مرمى المواجهة

 تأتي مذكرة التفاهم في وقت يتم فيه التشكيك في مشروع مبادرة الحزام والطريق الصيني، ليس فقط خارج الدولة المانحة، ولكن أيضًا داخل الدولة، حيث لا يملك عدد من الدول المشاركة الأموال اللازمة؛ لسداد ديون بكين؛ بسبب ارتفاع أسعار الفائدة، مما يضطرهم لمبادلة الديون بالأسهم في المشروع.

 باكستان وسريلانكا وكينيا وزامبيا، ودول أخرى، ليس لديها أموال لسداد ديونها. وتتصاعد قيمة هذه الديون لتصل إلى 100 مليار دولار أمريكي، في وقت استثمرت فيه الصين، ما يقرب من تريليون دولار، خلال العقد الماضي بهدف انتزاع النفوذ الاقتصادي.

 تكشف البيانات، أن قيمة المشاريع الأجنبية الجديدة المتعاقد عليها في إطار مبادرة الحزام، والطريق ظلت راكدة، منذ ذروتها في عام 2019، بالتزامن مع أزمة الديون العقارية المحلية في الصين.

 وفقًا لكوجلمان، خبير شؤون جنوب آسيا، فمن المؤكد، أن الولايات المتحدة، وإلى “حد ما” الهند، هما من يرغبان في إبراز هذا المشروع، باعتباره مضادًا لبكين.

 ويقول لـ”مصر 360″: “لا أعتقد أن الهدف، من وجهة نظر الولايات المتحدة، هو طرد أو تقويض الاستثمار أو النفوذ الصيني في جميع أنحاء المنطقة. الهدف هو تقديم نموذج استثماري بديل، أكثر شفافية وإنصافًا، بما يتماشى مع مبادئ الاستراتيجية الأمريكية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وعلى النقيض، مما تعتقد الولايات المتحدة، أنه نموذج الاستثمار الصيني”.

 ويستدرك الباحث الأمريكي، “بطبيعة الحال، لن يكون تحقيق هذا بالأمر السهل، نظرًا لمدى عمق حضور الصين الاستثماري، ونفوذها الأوسع في الشرق الأوسط، وجنوب آسيا وحتى أوروبا”.

 يرى “الحسن” من المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، أنه على الرغم من أن الولايات المتحدة قد تعتمد على الممر الاقتصادي الجديد؛ لتقليص مبادرة الحزام والطريق الصينية، ولكن من غير المرجح أن تلتزم المملكة العربية السعودية، والإمارات وإسرائيل بمنطق المحصلة الصفرية الذي تتبناه واشنطن.

 ويشير “من خلال التوقيع على مذكرة التفاهم بعد أقل من أسبوعين من انضمامهما إلى مجموعة البريكس، أثبتت السعودية والإمارات مرة أخرى، أنهما ماهرتان للغاية في اتباع سياسة خارجية مرنة في نظام عالمي مجزأ بشكل متزايد”.

 ولكنه يلفت- في حديثه مع “مصر 360”- إلى أنه كي ينجح المشروع “يجب أن يكون قابلاً للتطبيق تجاريًا. فمن الصعب، أن نتخيل أن السعودية أو الإمارات، أو غيرهم تدعم مسارات غير مربحة؛ لتحقيق مكاسب جيو استراتيجية فقط. وبعيدًا عن التيسير السياسي، فمن غير الواضح أيضًا، ما الذي ستقدمه الولايات المتحدة على الطاولة، أو ما إذا كانت تنوي المساهمة ماليًا في المشروع، وهو ما يبدو غير مرجح”.

 هل يؤثر على قناة السويس؟

 منذ الإعلان عن المشروع، أُثيرت في مصر المخاوف من احتمالية تأثير الممر الاقتصادي على قناة السويس، والتي تُمثّل نحو 13% من التجارة العالمية، وأكثر من 22% من حركة تجارة الحاويات على مستوى العالم.

 لكن سريعًا قلل مستشار رئيس الجمهورية لقناة السويس، الفريق مهاب مميش، من هذه المخاوف قائلاً، إنه “لا بديل عن قناة السويس كونها أسرع الطرق في النقل البحري”.

 وأوضح، أن “المشروع الجديد هو مشروع متعدد الوسائط، ومكلف للغاية ولا يقارن بقناة السويس، وليس له تأثير في حركة العبور في القناة (…) فالقناة تربط البحر الأحمر بالبحر المتوسط في 11 ساعة فقط، وتتصل بجميع المواني في العالم”، مشيرًا في الوقت ذاته إلى الحاجة؛ للاستعداد للمنافسة.

 بينما أشار الخبير السعودي في التجارة الدولية، فواز العلمي، إلى أن الممر لا يستثني قناة السويس التي ستكون ضمن المشروع.

 يُفنّد الباحث الاقتصادي، محمد شادي، إدعاءات التأثير على القناة الملاحية بالقول، إن حمولة السُفن تتجه إلى الارتفاع، مع اتجاه حجمها إلى الزيادة، حتى بلغت حمولة أكبر سفينة في العالم نحو 23 ألف حاوية، بينما حمولة أكبر قطار في العالم الآن تصل إلى 120 حاوية.

 يعني ذلك، وفق شادي، أنه في حال بلغت حمولة القطار الواحد في المتوسط 100 حاوية (وهو تقدير مُبالغ فيه، لأن المتوسط يتراوح بين 30-40 حاوية للقطار، [أما متوسط السفن 15 ألف حاوية])فهذا يعني أن حمولة السفينة الواحدة تحتاج 230 مئات القطارات؛ لنقل حمولتها برًا بين مينائي دُبي وحيفا.

 يقول حسن الحسن، إنه من الصعب التنبؤ بتأثير المشروع في الوقت الحالي على مصر مع وجود احتمالية، أن يضر الطريق البري إلى البحر الأبيض المتوسط بمصالحها.

 ورغم ذلك يشير إلى، أن المملكة العربية السعودية تعمل على تطوير المواني والمناطق اللوجستية على طول ساحل البحر الأحمر، وقد تسعى إلى دمجها في شبكات الاتصال العابرة للإقليمية، “وإذا حدث ذلك، فقد ينتهي الأمر في الواقع إلى توجيه حركة مرور أكبر للحاويات إلى قناة السويس”.