يعتبر تعريف الحق من أكثر مسائل القانون التي كثر فيها الجدل، واحتدم فيها الخلاف، كما أنه قد كثرت التعريفات على ذلك المصطلح، سواء من الناحية الشرعية أو من الناحية القانونية، فينظر البعض إلى الحق من خلال موضوعه، والغرض منه، وليس من خلال شخص صاحبه، فالحق عنده هو: (مصلحة يحميها القانون)، فعنصرا الحق في التعريف، هما المصلحة أو الفائدة التي تتحقق لصاحب الحق، والحماية القانونية، أي الدعوى القضائية.

ومن أهم ما قيل في تعريف الحق، هو ما قاله الدكتور حسن كيرة: في تعريف الحق على أساس كونه مسلكًا تحليليًا، يعتمد على فكرة وجود صلة، أو رابطة قانونية، وفكرة اختصاص شخص من الأشخاص على سبيل الاستئثار بمركز قانوني ممتاز، فالرابطة القانونية هي رابطة اقتضاء، أو رابطة تسلُّط يحكمها القانون، فرابطة الاقتضاء هي الرابطة التي تُخوِّل لشخص معين اقتضاء أداء معين من شخص آخر، يُلزَم بالخضوع لهذا الاقتضاء، أما رابطة التسلُّط فهي رابطة تُخوِّل لشخص معين سلطة على شيء معين، كحق الملكية مثلا، وهذا ما يتفق مع قول العرب قديما، إن الحق قديم وثابت.

القانون هو مجموعة من القواعد التي تنظم الناس، و الحق هو الشيء المقرر للفرد، أو هو الشيء الذي يكون ملك الفرد الممنوع قانونا من التصرف به، بما يؤذي به الآخرين أي التعسف في استعمال الحق، ولكل حق دعوى تحميه، ونصوص قانونية تحكم أوضاعه، والدعوى هي الوعاء القانوني الذي تتوضع فيها الخصومات القضائية، يتبخر غير القانوني منها، ويبقى ما هو قانوني، ويصدر القاضي حكمه الفاصل بموضوعها، كما أن القانون يهدف إلى تحديد الحقوق، وبيان مضمونها، ومداها وسبل حمايتها واقتضائها.

فالحق يقتضي وجود وسيلة مشروعة؛ لحمايته وتنظيمه، وهذه الوسيلة هي القانون الذي يجب أن يكون صادراً وفق مبادئ وأسس المشروعية، فمبدأ الشرعية يُفترض ألا يتعارض مع مبدأ الاستقرار والأمن الاجتماعيين، لأن الشرعية تقلل الفوضى، وتحقق ضمان العلاقات الاجتماعية. وقد ارتبط، بموجب التوجهات التقليدية لدولة القانون، والمؤسسات، بقوة السلطة في فرض القانون.

إلا أن التحولات المعاصرة سحبت الحصرية من يد الدولة، وافترضت نمطاً من الانتظام النابع عن المجتمع، وغير الخاضع لمبدأ القوة وإنما لمبدأ التشارك والتوازن. لذا، أصبح التمييز واضحاً بين الشرعية أي احترام القرارات للقواعد المنصوص عليها بموجب القوانين الوضعية، والتي ثبت أنها تحقق مصالح فردية على أساس استغلال السلطة في الدول العربية التي شهدت حركات اجتماعية، والمشروعية بما تعنيه من مدى ملاءمة هذه القرارات “للحقوق الإنسانية”، وما تشمله هذه الحقوق من تطوّر في مضمونها.

على خلفية هذه الانعطافات، أعيد طرح التساؤل حول مشروعية النصوص القانونية، وحول مشروعية السلطة التي أصبحت مرتبطة بمدى فاعلية هذه السلطة في خدمة المجتمع.

وإذا كان هناك تنوع واختلاف في أنواع الحقوق كالحقوق الشخصية والحقوق الجماعية، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والحقوق المدنية والسياسية، فإن ذلك التنوع والاختلاف يقتضي تنوع السبل، والوسائل القانونية المنظمة لكل نوع على حدة، واللازمة كذلك؛ لتنظيم سبل ممارسته، وطرق حمايته، وذلك حتى لا تتشابك الحقوق، أو تتعارض المصالح المحمية مع بعضها البعض، وهذا الأساس هو من أهم مفترضات وجود الدولة في حد ذاتها، إذ أن الدولة بسبلها المشروعة هي الواجب عليها تنظيم كل أنواع الحقوق، وإقرار سبل الحماية اللازمة لها، ويجب على الدولة من خلال سلطاتها، أن تتبنى سبل المشروعية، حال إقرارها للقواعد القانونية اللازمة لحماية الحقوق، بمعنى أن تقف الدولة ذاتها عند الحدود القانونية الدستورية المنظمة لكيانها، وسلطاتها وممارستها لكافة اختصاصاتها.

وما يعني هذا المقال، هو السبل القانونية أو إقرار التشريعات والتي يجب أن تخرج بسبل مشروعة في إطار احترام الدولة لسلطاتها، وهو الأمر الذي يوجب أن تكون القوانين قد خرجت في إطار مشروع من السلطة المختصة بسن القوانين، وهي السلطة التشريعية. أما إذا جاوزت السلطة الحدود المشروعة حال تنظيمها القانوني لحق من الحقوق، فكيف يمكن “القول” إننا بصدد قاعدة تتمتع بالمشروعية، أو أن تلك القاعدة صالحة لحماية الحقوق، وهي لم تصدر بشكل يتفق مع المشروعية.

ويجد موقف الدولة بشكل أكثر وضوحاً، فيما تسنه من قوانين متعلقة بالحريتين، سواء ما كان منها فردياً أو جماعياً، إذ يتعين أن تكون الدولة ضامنة؛ لممارسة الحقوق والحريات، وحامية لحدودها ومحافظة على نطاقها، وأن ما تسنه من قوانين متعلقة بأي من هذه الحريات، يجب ألا تضيق من أطر ممارستها، أو تعوق التمتع بها، أو بمعنى شامل تصادرها، أو تفرغها من مضمومنها، ومثل هذه الاعتداءات، إذ أن كل هذه التصرفات تمثل اعتداءً على تلك الحقوق أو الحريات، ومثل تلك التجاوزات يصعب إيجاد حلول داخلية لها كونها تصدر عن السلطة نفسها، أو أحد المسئولين المتنفذين فيها، وهي في الواقع قد تعبر عن فلسلفة النظام، والسلطة القابضة على مقدرات الدولة. وهي تكاد أن تكون مبررة دستوريا، وقانونيا من وجهة نظر السلطة الحاكمة.

وبشكل أكثر تدقيقاً، لا يجب أن تستند السلطات إلى وجود نصوص في المدونة الدستورية، تدعم أو تؤيد الحقوق والحريات، أو تحبذ على ممارستها، ثم تسن الدولة من القوانين ما يحد أو يضيق من الممارسة الفعلية لهذه الحريات تحت مسمى تنظيمها.

وقد سعى القضاء المصري بمستوياته المختلفة، منذ القدم على تأكيد ذلك المبدأ والدفاع عنه، فقد قالت محكمة القضاء الإداري: في حكم قديم لها في القضية رقم 597 لسنة 3 قضائية بتاريخ 12 يوليو سنة 1958، بأن حرية الصحافة هي إحدى الحريات العامة التي كفلها الدستور؛ فقد نصت المادة 45 من دستور الجمهورية المصرية، على أن “حرية الصحافة والطباعة والنشر مكفولة وفقاً لمصالح الشعب، وفي حدود القانون”. ولما كانت هذه الحرية لا يقتصر أثرها على الفرد الذي يتمتع بها، بل يرتد إلى غيره من الأفراد، وإلى المجتمع ذاته؛ لذلك لم يطلق الدستور هذه الحرية، بل جعل جانب التنظيم فيها أمراً مباحاً، على أن يكون هذا التنظيم بقانون؛ لأن الحريات العامة لا يجوز تقييدها، أو تنظيمها إلا عن طريق القانون”.

وذلك على سبيل المثال ليس إلا، وإن كان الأمر يتطلب سعياً أكثر من سلطات الدولة بفروعها؛ لدعم ممارسة الحريات بشكل يتوافق، مع ما تنص عليه الدساتير، وما أقرته من مبادئ، وقيم تشكل المعايير الحقيقية للحقوق والحريات، وهو الأمر الذي تقف عنده سلطات الدولة، بما يعني أن عليها ألا تسعى بشكل، أو بآخر أن تجور على حق من الحقوق أو حرية من الحريات، بل يجب أن يكون سعيها المستمر من خلال أنظمتها القانونية، هو دعم الحقوق وحماية الحريات، وذلك حتى يكون للقانون معنى حقيقي، وقيمة فاعلة في المجتمع.