قبل أسبوع من بدء اجتماعات مجموعة العشرين التي انعقدت فعالياتها في دلهي بالتاسع والعاشر من هذا الشهر، والتي تقرر فيها ضم الإتحاد الإفريقي كعضو كامل العضوية بالمجموعة، كان بعض الزعماء الأفارقة على موعد في المدينة التي تُعرَف بإسم “المدينة الخضراء تحت الشمس”.

اجتمع الزعماء في المدينة التي تقع بين ثلاثة من أشهر جبال ومرتفعات القارة، كليمنجارو وكينياتا ونونج، ويقطعها النهر الذي كان ينبوعًا للحياةِ في يومٍ ما، فأحاله إلقاء النفايات والمُخلفات الصناعية، والصرف الصحي إلى مصدرٍ للمخاطر البيئية الحادة، حيث الأوبئة والعطش والموت المحيق.

اجتمع الزعماء الأفارقة بمدينة “نيروبى” في القمة القارية التي افتتحها الرئيس الكيني ويليام ساموي روتو يوم الاثنين 4 سبتمبر، تحت عنوانٍ عريضٍ عن المناخ في إفريقيا؛ بغرض بحث كيفية تحويل القارة إلى قوة حقيقية على خريطة العالم في مجال التنمية والطاقة النظيفة المتجددة.

إن توفير الرخاء والرفاهية للأعداد المتزايدة من سكان إفريقيا من دون دفع العالم، نحو كارثة مناخية أعمق، ليس مجرد اقتراح أو أمنية صادقة، بل هي إمكانية حقيقية أثبتها العلم، هكذا تحدث الرئيس الكيني في كلمته الافتتاحية التي كان، قد سبقها بتعليق على منصة X، طالب فيه المجتمع الدولي بتخصيص أموال لأعمال التنمية والاستثمار بإفريقيا، والاستفادة من الموارد والمهارات المتاحة لديها، مع تخفيف عبء الديون التي تثقل كاهلها.

كان البنك الدولي، قد أصدر في آخر تقاريره، أن القارة الإفريقية بحاجة إلى ما يقرب من نحو 2 تريليون دولار سنويًا؛ للحد من ارتفاع درجات الحرارة، خصوصًا وأن القارة تمتلك نحو 40% من احتياطيات العالم من معادن الكوبالت والمنجنيز والفوسفات والبلاتين، وهى المعادن التي تستخدم بكثافة في إنتاج بطاريات السيارات الكهربائية التي من شأنها؛ أن تساهم بإيجابية في تحقيق الهدف الأُمَمى بالوصول إلى الحياد الكربوني بحلول عام 2050.

كنتُ، قد أشرت بمقالات عديدة نُشِرت بموقع مصر 360، إلى أن الانطلاق يستوجب الانعتاق أولًا. فالانطلاق صوب مستقبلٍ أفضل لإنسان هذا العصر في مجال الطاقة النظيفة، لم يَعُد من قبيل الترف الثقافوي في منتديات دول الشمال، كما لم يَعُد مَحَلًا للشكوى والنواح في الغرف المغلقة بدول الجنوب، بل صار أمرًا محتومًا، لم يترك لعَالَم الشمال الغني من مجالٍ؛ للتغافل عن احتياجات عالَم الجنوب؛ للخروج من أزماته الطاحنة التي تسبب فيها عالَم الشمال بشَرَهِه، ورغبته العارمة في الهيمنة والسيطرة، فأهدر في سبيل ذلك كل القيم الإنسانية التي يتشدق برعايته لها ليل نهار.

ولعل زلزال المغرب وعاصفة ليبيا ومن قبلهما زلزال سوريا، والأناضول وحرائق الغابات في أمريكا اللاتينية، مجرد أمثلة لما اقترفه عالَم الشمال من جرائم بيئية، سيطاله من تبعاتها الكثير، فإفساد المناخ لا تقتصر نتائجه  المدمرة فقط على المجتمعات المحلية، وإنما هي تمتد لتشمل الكوكب برمته.

يتحقق الانعتاق؛ بتخفيف الأعباء المالية الثقيلة من على كاهل دول الجنوب، من خلال إسقاط ديونها كليًا أو جزئيًا؛ تمهيدًا للانطلاق الذي يقتضي من دول الشَمال الغني ضخ إستثمارات هائلة، لا تملكها دول الجنوب، لا مَنًا أو إحسانًا، ولكن أولً؛ا لتعويضها عن نهب ثرواتها والتعامل معها كحقل للتجارب التي دَمَرتها، فتركتها عُرضَة للأوبئة والمجاعات والفقر والجفاف، وثانيًا: لدمج وتطوير اقتصاداتها، بِحُكم كونها شريكًا فاعِلًا في هذا الكوكب، كى تتمكن من المساهمة بكل إمكاناتها البشرية والطبيعية في أعمال التنمية؛ اعتمادًا على الطاقة النظيفة.

نعود للمدينة الخضراء تحت الشمس…أصدر المجتمعون بيانًا ختاميًا، أُطلق عليه “إعلان نيروبي”، أوضحوا فيه احتياجات القارة الإفريقية؛ لزيادة في رأس المال الواجب؛ لتمويل مصادر الطاقة المتجددة والنظيفة خلال السبعة اعوام القادمة بنحو 600 مليار دولار؛ لتطويرها من 56 جيجاوات في 2022 إلى 300 جيجاوات حتى عام 2030 (تعهدت بعض الدول أثناء القمة بضخ استثمارات تصل إلى 23 مليار دولار من أصل 600 مليار دولار، طلبها الزعماء الأفارقة!)، مع مطالبات بفرض ضريبة الكربون، ومطالبات أخرى بتخفيض الديون، التي قال عنها الرئيس الكيني: “نحن مدركون للطبيعة غير العادلة للمؤسسات الدولية التي تعمل على إطالة تخلف الدول الإفريقية، من خلال التمويلات عالية التكاليف التي تحتجز اقتصاداتنا في فخ المديونية، وتمنع عنها الموارد اللازمة؛ للتكيف مع متطلبات تغير المناخ، وتسهيل نقل التكنولوجيا بخلق الثروة وإتاحة فرص العمل.”

في تقديري، وفى هذه اللحظة الاستثنائية من عُمْر العالم التي تموج بالمتغيرات التاريخية، ستتمكن الدول الإفريقية من الانعتاق بإسقاط ديونها كليًا أو جزئيًا تمهيدًا للانطلاق، إن تمكنت من حشد جهودها للتحرك بعمل تفاوضي جماعي مُوَحَد، يضم كل حكوماتها ومؤسسات العمل المدني بها تحت لواءِ الاتحاد الإفريقي.

في مقالة سابقة، وفي فعالياتٍ كنت قد شاركتُ بها مؤخرًا، أشرتُ إلى أن آخر الإحصاءات الدولية توضح، أن ديون القارة الإفريقية كاملةً قد بلغت بنهاية 2022 نحو 1.1 تريليون دولار، بما يمثل 0.36% من ديون العالم البالغة 305 تريليون دولار، والتي تستحوذ دول الشَمَال الغَنىي على الحصة الأكبر منها.

إذن، إسقاط تلك الديون الضئيلة نسبيًا، ليس أمرًا مستحيلًا، بل ربما تكون الفرصة لذلك سانحة الآن، وليس غدًا، وربما يكون إعلان نيروبى هو الخطوة الأولى التي تليها خطوات، تبدأ اليوم بالمناقشات العامة في اجتماعات الأمم المتحدة بواشنطون، ثم تعقبها ترتيبات وتجهيزات؛ لبلورة مقترحات أكثر تحديدًا تتجلى في مؤتمر الأطراف (COP28) المُزمع عقده بنهاية هذا العام في دبي.