لم يُطرح نقاش على المستوى المحلي والعالمي، مثلما فُتح نقاش حول قضية الخصوصية والعالمية، فقد طرح البعض قضية الخصوصية بالمعني السياسي، والحضاري في مواجهة قيم العولمة السياسية والحضارية والاقتصادية، واعتبرها منتجا غربيا، وفي نفس الوقت نظر البعض للخصوصية، باعتبارها فرصة لفرض سياج من العزلة عن العالم؛ تبريرا لأوضاع كثيرة سيئة في الداخل.
والحقيقة أن الجدل بين الخصوصية والعالمية تعمق مع العولمة، وأصبحت هناك منظومة قيم عالمية تتعلق بالتجارة الحرة، والديمقراطية وحقوق الإنسان، سعت القوى الكبرى؛ لاحترامها في كل مكان، وهو أمر مقبول، ولكنها في أحيان أخرى سعت إلى فرضها وفق حسابات سياسية، ليس لها علاقة بجوهر هذه المبادئ والقيم.
والحقيقة أن خطاب الخصوصية في طبعته المصرية ركز على مفهوم السيادة الوطنية، وأعطى أولوية؛ لمحاربة الإرهاب والحفاظ على الدولة، حتى لو كان على حساب حقوق الإنسان، وهي نقطة كان لديها دعم شعبي في مصر، وتنال رضا كثيرين، وفي كل المجتمعات شرقا وغربا؛ لأنها جميعا وبدرجات متفاوتة عرفت في لحظات الأخطار الوجودية، تعطيل بعض مبادئ حقوق الإنسان.
وقد نجح هذا الخطاب في الوصول إلى قطاعات من النخب الغربية، حتى بين من يؤمنون بعالمية الديمقراطية، وحقوق الإنسان والحرية الاقتصادية، بعد أن شهدوا إخفاقات كثيرة في العالمين العربي والإسلامي، وعانوا من “تصدير” الإرهاب واللاجئين، فقبلوا بخطاب الخصوصية، ما دام سينجيهم من كلا “الشرين”.
والمؤكد أن أولوية محاربة الإرهاب، والحفاظ على الدولة من أي تهديدات وجودية، تعرضت لها مصر العقد الماضي، وحتى سنوات قليلة ماضية، قد ربحتها الدولة المصرية، بالمقابل فإن اعتبار أن التهديدات التي كانت موجودة في 2013، هي نفسها الموجودة في 2023، يحمل مغالطة كبيرة، وإن الدفاع عن الخصوصية؛ من أجل محاربة الإرهاب مشروع، لكن الدفاع عنها من أجل؛ تبرير الانتهاكات في مجال حقوق الإنسان، وسوء الأداء غير مقبول.
يقينا ظروف مصر حاليا، تختلف عما كانت علية منذ 7 سنوات، وإن التهديدات الوجودية التي تعرضت لها في هذه الفترة، لم تعد موجودة الآن، وأن مشاكلها بالأساس تتعلق بسوء الأداء العام، وضعف المشاركة الشعبية في الاستحقاقات السياسية، وبناء منظومة شفافة؛ لمحاربة الفساد، ومواجهه الانتهاكات في ملف حقوق الإنسان.
خطاب الخصوصية في طبعته العربية والمصرية، وجد له صدى غربيا” نتيجة؛ الفشل الداخلي، أي إنه اعتبر الاستبداد والتطرف والإرهاب دليلا على خصوصية المنطقة، وتبني نفس خطاب المتطرفين في الغرب بالقول، إن هذه المنطقة غير قابلة للديمقراطية أو غير مهيأة لها، وأن القيم العالمية في حقوق الإنسان لا تصلح في هذه البلدان نتيجة؛ خصوصيتها الثقافية والسياسية.
أما الخطاب الغربي فلا زال هناك جانب آخر يؤمن بعالمية مفهوم الديمقراطية، وحقوق الإنسان بصرف النظر عن توظيفه السياسي تبعا لحسابات المصالح، في مواجهه خطاب الخصوصية بطبعته الغربية والعربية.
أما في المنطقة العربية، كما في دول كثيرة في العالم؛ فكثيرا ما يحدث صدام بين أصحاب النظرة العالمية لمفهوم حقوق الإنسان، وبين أصحاب الحفاظ على السيادة الوطنية، ورفض التدخلات الخارجية، بما فيها القضايا ذات الأبعاد العالمية مثل، حقوق الإنسان.
وهنا سنجد صداما متكررا بين دول عربية، وشرق أوسطية مختلفة تماما في نظمها السياسية وخبراتها التحديثية مثل، مصر وتركيا وإيران والسعودية، وبين الغرب حول ملف حقوق الإنسان، ونفس الرفض الذي تقوله الحكومة المصرية، تقوله نظيرتها التركية في مواجهة أي انتقادات غربية لملف حقوق الإنسان، فالرد يكاد يكون واحدا وقائما على إعلاء مبدأ، وقيمة السيادة الوطنية، ورفض التدخل في الشؤون الداخلية للدول.
خطاب الخصوصية، يجب أن يمتلك مسطرة واحدة في التعامل مع مختلف الملفات، فأما أن يؤمن بالخصوصية في السياسة والاقتصاد، فيرفض الشروط السياسية للاندماج في المنظومة العالمية من احترام الديمقراطية وحقوق الإنسان، وأيضا يرفض شروط صندوق النقد الدولي، والمؤسسات النقدية العالمية التي تفرضها على الاقتصاد المحلي في حين، أن ما يجري هو دفاع عن الخصوصية، فيما يتعلق باحترام حقوق الإنسان، وسعي للعالمية بقبول شروط المؤسسات الاقتصادية العالمية، وهو تناقض يجب حله، لأنه لا يمكن أن يستمر.
والمؤكد أن خطاب الخصوصية الثقافية العربية الذي ينطلق من أولوية التنمية، والاستقرار على حساب الديمقراطية، وحقوق الإنسان موجود، ومفهوم بشرط ألا يصل خطاب “أولوية التنمية الاقتصادية” إلي المساس بمبدأ حقوق الإنسان، كقيمة عليا فلا يجب أن نفتح أي باب، لأن يتصور البعض أن الخصوصية الثقافية تعني اعتقال شخص، دون حق أو إيذاء الناس في أرزاقهم وعملهم عقابا على آرائهم السياسية السلمية، فقيمنا الدينية والثقافية، وليس ما يقوله الغرب، ومنظماته الحقوقية، تعلمنا دائما احترام الإنسان كما جاء في قول الله تعالى: ” لَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ”.
والمؤكد أن البعد الثالث المتعلق ببناء دولة القانون، وتعزيز الحريات العامة، واحترام حقوق الإنسان في مصر، والعالم العربي، سيعزز من قوة المشروع الوطني في مواجهة؛ الضغوط الخارجية، ويجعل الاشتباك مع الخارج مقتصرا على الشق المتعلق بالتوظيف السياسي لملف حقوق الإنسان، وليس المبدأ أو القيمة العليا لحقوق الإنسان، أو تبرير تجاوزات تحدث عمليا على الأرض، إنما يجب احترام الحقوق المدنية والسياسية للناس جنبا إلى جنب مع حقوقهم الاجتماعية والاقتصادية.