تتجاوز تأثيرات الصراع بين أذربيجان وأرمينيا، حول إقليم ناجورنو كاراباخ، والذي يسفر عنه مواجهات عسكرية بين البلدين من وقت لآخر، حدود تلك المنطقة الجبلية التي لا تتعدى مساحتها 4800 كيلو متر، في ظل ما تمثله تلك المنطقة من أهمية لسوق الطاقة العالمي، وكذلك نظرا للأبعاد الجيو سياسية التي تتحكم فيها .
مؤخرا سيطرت حالة من القلق على المجتمع الدولي إثر تجدد الاشتباكات بين أذربيجان وأرمينيا في إقليم ناجورنو كاراباخ في وقت، لم تتعافَ فيه، بعد، أسواق الطاقة العالمية من تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، وسط مخاوف أوروبية من تفاقم أزمة الطاقة، نظرا للأهمية الاقتصادية والجيو سياسية للمنطقة التي تجري بها الاشتباكات، حيث تُعتبر نقطة التقاء، ومحطة عالمية رئيسة لنقل النفط والغاز.
وشنّت أذربيجان مؤخرا، عملية عسكرية في ناجورنو كاراباخ بعد ثلاثة أعوام، من آخر حرب في الجيب الانفصالي، مطالبة بانسحاب أرميني كامل، وغير مشروط من المنطقة، ومؤكدة في الوقت نفسه استعدادها للتفاوض في حال إلقاء أرمن الإقليم السلاح، اذ يمثل الأرمن الغالبية العظمى من سكان الإقليم البالغ تعداده 150 ألف نسمة.
وناجورنو كاراباخ هو إقليم معترف به دولياً جزءاً من أذربيجان، لكن منطقة منه تديرها سلطات انفصالية من عرقية الأرمن تقول، إن المنطقة وطن أجدادها، وتسبب النزاع على المنطقة في نشوب حربين، منذ سقوط الاتحاد السوفياتي عام 1991، أحدثهما في عام 2020.
ويحظى الصراع العسكري بإقليم كاراباخ باهتمام عالمي؛ نظراً للتهديد الكبير لإمدادات الطاقة الوافدة للأسواق الأوروبية، والدور اللوجستي الفاعل للمنطقة في هذا الشأن، حيث تقع المعارك بالقرب من خطوط أنابيب النفط، والغاز التي تربط منتجي آسيا الوسطى بالأسواق العالمية.
وخلال السنوات الأخيرة، سعت أذربيجان بفضل ثروتها النفطية إلى تقديم نفسها للعالم، وللغرب، واستثمرت بشكل خاص في الرعاية، خاصة في مجال كرة القدم. ومنذ 2016، تحوّلت أذربيجان أيضًا إلى موقع لسباق الجائزة الكبرى للفورمولا واحد، في 2022، عقب الغزو الروسي لأوكرانيا، تحوّلت أذربيجان إلى مورّد نفط بديلا عن روسيا في أوروبا.
تقاطع أنابيب النفط والغاز
ويتركز في تلك المنطقة استثمارات عدد من القوى الإقليمية، بما في ذلك روسيا وتركيا وإيران، وإن كان بدرجات متفاوتة، خصوصا فيما يتعلق بمصادر الطاقة.
وتستمد أذربيجان أهميتها في تلك المنطقة، كونها يمر من خلالها ثلاثة خطوط رئيسية؛ لنقل النفط وهي:
– خط باكو- نوفوروسيسك الذي يمتد من مواني النفط خارج ميناء باكو في أذربيجان إلى نوفوروسيسك عبر جنوب روسيا، وتبلغ طاقته الإنتاجية 180 ألف برميل يوميا.
– خط باكو- سوبسا، والذي يمتد من باكو إلى ميناء سوبسا الجورجي عبر البحر الأسود.
– خط ديوهندي- باتوميو، ويمتد من محطة النفط الأذرية في ديوهندي إلى ميناء باتومي الجورجي.
– خط أنابيب (باكو- تبيميسي- جيهان )، والذي يمتد من أذربيجان عبر العاصمة الجورجية تبليسي، وتركيا إلى ميناء جيهان عبر البحر الأبيض المتوسط، ويبلغ طوله 1.730 كم.
وينقل الخط نحو 80 بالمئة من صادرات أذربيجان، وتبلغ طاقته الاستيعابية 1.2 مليون برميل يوميا، أو أكثر من واحد بالمئة من إمدادات النفط العالمية، حيث تصدر أذربيجان نحو نصف مليون برميل من النفط .
ويأتي توتر الأوضاع مجددا في إقليم كاراباخ في وقت، توجد فيه لدى أذربيجان خطط؛ لزيادة صادرات الغاز الطبيعي إلى أوروبا التي تعاني أزمة حقيقية في إمدادات الطاقة، منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية .
وتقود بي.بي البريطانية، اتحاد شركات دولي، يطور حقل شاه دنيز في أذربيجان الذي يقع قبالة ساحل بحر قزوين الأذربيجاني، وتبلغ احتياطاته تريليون متر مكعب من الغاز، وملياري برميل من المكثفات؛ ما يجعله بديلًا مهمًا؛ لإمدادات الغاز الروسية لأوروبا.
مصالح إقليمية متضاربة
بُعد آخر تحمله الحرب والاشتباكات المتقطعة في كاراباخ، مرتبط بتنافس الفواعل الدولية والإقليمية في ظل المصالح الجيو سياسية المتضاربة لتلك القوى.
ويعد الصراع بين أذربيجان وأرمينيا نقطة التقاء قوى إيران وروسيا وتركيا، وفي صميم السعي في إقامة نظام دولي جديد مع العلم، أن أرمينيا ليس لديها نفط، ولكن موقعها الجيوسياسي هو موردها الرئيسي.
وتبلور هذه المنطقة الصغيرة من القوقاز تباعد المصالح، وألعاب النفوذ لمجموعة من الجهات الفاعلة، من روسيا إلى تركيا، ومن الولايات المتحدة إلى إيران، ومن إسرائيل إلى الصين، عبر باكستان التي تبيع الأسلحة لأذربيجان، والهند التي تزود بها أرمينيا؛ فالمواجهة بين أرمينيا وأذربيجان، عندما تتوسع ،يمكن أن تستدعي عددا أكبر من الدول للمشاركة .
وجعلت تركيا التي لديها طموحات جيو استراتيجية في منطقة القوقاز السوفيتية السابقة وآسيا الوسطى، من أذربيجان، الدولة الناطقة باللغة التركية، والغنية بالنفط، حليفها الرئيس في المنطقة، وهي صداقة عزّزتها الكراهية المشتركة تجاه أرمينيا.
كذلك، تدعم أنقرة باكو في رغبتها في السيطرة على ناجورني كاراباخ، ولدى الأرمن عداء تاريخي تجاه تركيا، بسبب الإبادة الجماعية.
في مقابل ذلك تربط روسيا القوة الإقليمية الرئيسية في تلك المنطقة، بأرمينيا علاقات أوثق من تلك التي تربطها بأذربيجان، لكنّها تبيع الأسلحة للبلدين، وانضمّت أرمينيا إلى التحالفات السياسية، والاقتصادية، والعسكرية التي تسيطر عليها موسكو، ومن أبرزها منظمة معاهدة الأمن الجماعي، وهو تحالف أمني تقوده موسكو، ويضم في عضويته 6 دول.
صراع إسرائيلي إيراني
يشكل جنوب القوقاز الذي يضم أذربيجان وأرمينيا وجورجيا، قيمة استراتيجية لإسرائيل؛ بسبب موقعه الجيو سياسي، وقربه من إيران، لذلك عززت تل أبيب علاقتها بأذربيجان في ظل الخلافات المتصاعدة بين باكو وطهران التي تدعم أرمينيا في صراعها.
وترتكز المصالح الإسرائيلية في العلاقات مع باكو على حقيقة، أن أذربيجان تقع على حدود إيران، مما يجعلها مكاناً مثالياً؛ لجمع المعلومات الاستخباراتية، عما يحدث في طهران.
تلك الرؤية دفعت شركات الصناعات العسكرية، والأمنية الإسرائيلية إلى تزويد أذربيجان بالطائرات المسيرة، والمدافع والدبابات، والأسلحة المختلفة في صفقات تسليح قدرتها تقارير أوروبية بنحو 4.5 مليارات دولار.
ويرى مراقبون، أن إسرائيل تتعامل مع أذربيجان، على أنها منصة محتملة، يمكن لتل أبيب، في حالة النزاع القيام بعمليات، ضد إيران، سواء استخباراتية أو هجومية.
فرصة مصرية
في الخلاصة، يمكن الإشارة إلى ثمة فرصة مصرية عنوانها الطاقة، في ظل هذا الصراع المحتدم بين معسكري أذربيجان، وأرمينيا، فما دام استمر التوتر في تلك المنطقة التي تتحكم بجزء كبير من سوق الطاقة التي تمر إلى أوروبا، فإن الأوروبيين أنفسهم سيعملون طوال الوقت على تأمين مصادر بديلة للطاقة؛ لتأمين احتياجاتهم، خاصة في ظل غموض الموقف بشأن انتهاء الحرب الروسية الأوكرانية، وهو ما يفتح الباب أمام القاهرة، للعمل على تعزيز شراكات عبر ما تملكه من إمكانيات، متمثلة في محطتي إسالة الغاز في إدكو ودمياط، من أجل زيادة كميات الغاز الموجه إلى أوروبا، وتوسيع حصتها من سوق الطاقة العالمي، ضمن الخطط الرامية؛ لتحويل مصر لمركز إقليمي للطاقة.