خلال عشر سنوات، تأذت الطبقة الوسطى من السياسات الاقتصادية، ما أفقر شرائح واسعة منها؛ حتى بات الحديث في مصر، عن طبقتين تتسع بينهما الهوة، ويزداد الفقراء فقرًا، والأثرياء ثراءً.

يستدعي ذلك النظر إلى استجابات الطبقة الوسطي في الانتخابات الرئاسية القادمة، هل ستشارك فى التصويت بحثا عن  خلاص عبر الصناديق، هل ستمارس تصويتا عقابيا. أم هناك خيارات أخرى؟.

أسئلة عدة، تختلف الإجابات حولها من باحثين وخبراء، خاصة مع كون الطبقة الوسطي ليست كتلة واحدة كما تتباين، من حيث  التوجهات، وتنقسم إلى شرائح: دُنيا ووسطى وعُليا، لكنها تعاني آثار السياسات الاقتصادية.

يمكن القول إن ذلك وحّد تلك الشرائح الثلاث من الطبقة الوسطى على الغضب من سياسات النظام على اختلاف تبايناتها وتوجهاتها، وهو ما يختلف عن الفترة بين 2011 و2013، حين لعبت العوامل الأيديولوجية والاجتماعية والثقافية، وحتى الاقتصادية دورًا في كونهما على طرفي المواجهة.

وفيما لعب تآكل الطبقة الوسطى السريع -الذي قدّره البعض بنسبة 47%- دورًا في انفجار ثورة 2011، إلا أنه يجدر هنا التمييز بين الطبقة الوسطى الدُنيا التي تأذت من سياسات الخصخصة ورأسمالية المحاسيب، وبين الطبقة الوسطى العُليا التي استفادت من هذه السياسات.

وهو انقسام، يُرجعه الباحث، هاري بيتيت، إلى سياسات كل من أنور السادات وحسني مبارك النيوليبرالية، وذلك في دراسته عن الطبقة الوسطى الدُنيا في مصر عام 2017، والتي شملت أحد عشر شهرًا من العمل الميداني الإثنوجرافي (نوع من البحث النوعي الذي يتضمن الانغماس في مجتمع أو منظمة معينة؛ لمراقبة سلوكهم وتفاعلهم عن قرب) في القاهرة وما حولها.

وهو ذات التحليل الذي انتهى إليه الباحث، كيث جلين وايتمير، في دراسته “الثورة المضادة والطبقة الوسطى الدُنيا في مصر“، بقوله إن استعادة السلطة التي هدد الشعب المصري بانتزاعها في عام 2011، جرد الطبقة المتوسطة من ثرواتها وحمايتها. إذ “عندما لم تعد النُخب تربح بما فيه الكفاية؛ لخلق الثروة لأنفسهم من خلال حماية الطبقة الوسطى، سارعت النُخب إلى انتزاع الثروة من الطبقة الوسطى”.

وتشير الباحثة إصلاح حسن، في دراستها “الطبقة الوسطى والمشاركة السياسية“، إلى أن هذه السياسات صنعت الفروقات والتباينات داخل الطبقة الوسطى، ما جعل منها طبقة “غير متجانسة” تلجأ عادة إلى “الحلول التوفيقية أو الانتقائية” لمعظم القضايا .

ومن هنا يُمكن فهم العلاقة الجدلية مع الدولة، وممارستها السياسية غير المتجانسة، وموزعة على مختلف الأطياف السياسية، والإيديولوجية في المجتمع . وأيضًا مشاركتها الفاعلة في ثورة 2011، ثم سيرها في الاتجاه المعاكس عام 2013؛ بحثًا عن “الاستقرار”، وتحسين الوضع الاقتصادي.

“الطبقة الغائمة” وآثار تآكلها السلبية

يقول د. عمرو هاشم ربيع، نائب رئيس مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، إن الطبقة الوسطى مفهوم غائم، وتزداد غيومه مع التحولات الاقتصادية في الدولة؛ لصالح حراك اجتماعي، يصب في مصلحة الطبقات العليا، ويهبط بالطبقة الوسطى للأسفل، وانتقالها إلى الطبقة الدُنيا”.

ويضيف لـ”مصر 360″، أن الطبقة الوسطى هي رائدة الابتكار، والتحولات وتآكلها، يزيد التراجع على الصعيد الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، ويرتبط هذا التراجع بنمو طبقة رجال الأعمال الرأسمالية المستوحشة، والتي في جزء كبير ومعتبر منها ارتبط بزوغها بكم من الفساد على عدة مستويات.

الطبقة الوسطى وطريق للخلاص

لذلك تبحث الطبقة الوسطى عن أي طريق للخلاص من الوضع الحالي، واستعادة المكانة الاجتماعية والسياسية، بحسب الباحث والسياسي المهتم بالقضايا العمالية إلهامي الميرغني، الذي يضرب مثلاً على ما حدث في انتخابات نقابتي الصحفيين والمهندسين، حين قرر أعضاؤهما دعم المرشح المستقل في مواجهة مرشح الدولة.

ولهذا يتوقع الميرغني، نائب رئيس حزب التحالف الشعبي الاشتراكي، في حديثه مع “مصر 360، أن تكون المشاركة أكبر، وأوسع في الانتخابات الرئاسية القادمة، كمحاولة للبحث عن تغيير سلمي من خلال صناديق الاقتراع.

يرجع ذلك إلى أن  ” الكيل طفح بالطبقة الوسطي، وأوضاعها في انحدار مستمر، ولذلك هي تبحث عن أي حلول توقف النزيف، وربما تكون الانتخابات فرصة؛ لوقف الطوفان الاقتصادي والاجتماعي، والحفاظ على الوضع الراهن وتحسينه”.

لكن ربيع، يظن أن التيار الذي يُطلق عليه “حزب الكنبة”، أو “تيار العزوف”، ربما لن يتحرك هذه المرة. “نحن نتحدث عن نسب مشاركة في الانتخابات المصرية إجمالاً، لم تتجاوز 62%  طوال تاريخها، وكانت جميع النسب فيما بعد أقل من تلك النسبة، كانت نسبة المشاركة فى انتخابات مجلس الشورى عام 2012، نحو 12.5% فقط وفق الأرقام الرسمية للدولة”.

ولا يعتقد ربيع، أن الكتلة الفاعلة قد تستجيب برد فعل عفوي بالذهاب للجان، وانتخاب شخص آخر، فالمناخ العام مُحبط. “طول ما الناس لا تجد محاسبة، ورقابة لن تشعر، أن المناخ مناسب للتحرك”.

كيفية الاستجابة للانتخابات الرئاسية؟

يقول ماجد مندور: المحلل والكاتب السياسي الذي تركز أبحاثه على العنف السياسي والتشكيل الطبقي، إنه من الصعب الإجابة على هذا السؤال، لأنه لا يوجد وعي طبقي واضح لدى الطبقى الوسطى، بمعنى أنها ليست طبقة واضحة وكتلة محددة تتحرك بشكل معيّن، فهناك اتجاهات تُعبّر عن جماعة الإخوان، واتجاهات تعبر عن السلفيين، وأخرى ليبرالية ويسارية وعلمانية، لذا من الصعب إعطاء إجابة واضحة بشأنها.

ويضيف لـ”مصر 360″: “الاتجاه العام هو العزوف عن الانتخابات، إذ بدأت سردية النظام تتفكك، وتتفتت تحت وضع الأزمة الاقتصادية. لكن في نفس الوقت لا يوجد بديل واضح، فرغم أن الدعم للنظام بدأ ينهار. ولكن الأمر على ما أعتقد لا يزال في البدايات؛ فالمسار طويل”.

ويرى مندور، أن الأزمة الاقتصادية جعلت الكثير من مؤيدي النظام، ممن أيدوه بدافع، أنه الحل الذي سيعيد الاستقرار والحفاظ على البلد من الفوضى، للاتجاه إلى رفض هذه السياسات مع صعوبة الطريق، وعدم قدرة النظام على حل الأزمة.

“الوضع الحالي من الممكن، أن يكون بداية التحول الذي سيستغرق العديد من السنوات، لكن من الواضح أن دعم النظام يتآكل سريعا في الطبقة الوسطى، مثلما رأينا في انتخابات نقابات الصحفيين والمهندسين. والاستدلال على ما حدث في انتخابات النقابات، من حيث فكرة وجود انتخابات حرة؛ فالنظام ممكن يخسر”.

ويستدرك “لكن هل يكفي ذلك للقول، إن دعم النظام تآكل تمامًا، أعتقد أن هناك قطاعا لا يزال مؤيدا للسيسي، والمعارضة هزيلة ولا توجد رؤية واضحة، ولا توجد تنظيمات ذات قواعد شعبية متجذرة، وواسعة تقدر على طرح البديل الذي يقنع الناس. ولكن على الأقل، نحن في بداية انكشاف الأوهام، وأن النظام لن يقدم أي حلول، خاصة أنه للأسف الأزمة الاقتصادية سيطول وقتها وفق هذا النهج”.

هل نشهد تصويتًا عقابيًا؟

يشير مندور إلى تصويت الموظفين التابعين لأجهزة الدولة في انتخابات نقابتي الصحفيين والمهندسين؛ لصالح المرشح المستقل في مواجهة مرشح الدولة باعتباره ممكن التكرار.

“والسبب واضح، وهو أن السيسي رفع الحد الأدنى للأجور أكثر من مرة، وعكس الرؤساء السابقين، هو غير مهتم بالجهاز الإداري أو المدني للدولة، والأزمة الاقتصادية نهشتهم أحياءً”

يتفق الميرغني، مؤكدًا أن “التصويت العقابي هو أحد وسائل المقاومة، كما اتضح ذلك في انتخابات المهندسين، والصحفيين ولكن ربما سيكون المتغير الأخطر هو انضمام ملايين الفقراء إلى التصويت العقابي، بما يجعل كتلة الطبقة الوسطي أكبر، وأكثر تأثيرًا. سيكون ذلك تغيرًا إيجابيًا، نتمنى حدوثه، لأنه سينقلنا إلى مرحلة جديدة فعلاً”.

وعن انتخابات نقابة الأطباء -المقرر إقامتها شهر أكتوبر المقبل- يقول الميرغني، إنها أقرب استحقاق انتخابي في مصر، ومؤكدا أنها ستكون مؤشر للوضع في الانتخابات الرئاسية المقبلة.

“لكن سواء في الانتخابات النقابية أو في الانتخابات الرئاسية الوضع يتوقف على التحول من المراقبة السلبية والعزوف عن المشاركة إلى  المشاركة والتصميم على الدفاع عن النفس في فرصة ذهبية لتغيير المعادلة”.

“لا توجد مسارات لترجمة الغضب”

يرى هشام سلام، زميل في مركز الديمقراطية والتنمية وسيادة القانون في جامعة ستانفورد، أن المناخ السياسي يعطينا الإجابة بوضوح “فنظرًا للمناخ القمعي المحيط بالانتخابات الرئاسية المرتقبة، من الصعب أن نتصور واقعًا حيث يصبح السباق تنافسيًا بالدرجة الكافية لتشجيع المشاركة على نطاق واسع.

ويضيف: لكي تتمكن هذه الانتخابات من جذب إقبال الناخبين على المستويات التي تشهد فيها استراتيجية للحملات، وبرامج المرشحين، وتكون فيها تفضيلات الناخبين ذات أهمية، فلا بد من تغيير الكثير من الأشياء”.

لذا، فمن الصعب من الناحية الموضوعية، أن نتخيل أن  الانتخابات المقبلة ستولد منافسة تستدعي تحليل تفضيلات الناخبين أو استجابتهم وفق حديث سلام مع “مصر 360”.

ويلاحظ أستاذ العلوم السياسية أنه بعد سنوات من تبني الموقف المتشدد “والاستفزازي إلى حد ما” بأن الناس يجب أن يتحملوا التكاليف المؤلمة للإصلاح الاقتصادي، على سبيل المثال، من خلال دفع المزيد مقابل الخدمات الاجتماعية المدعومة سابقًا أو استهلاك كميات أقل من المنتجات الغذائية، تغيّرت لهجة الرئيس في الآونة الأخيرة”.

“هو الآن يتبنى خطابًا يروج لتصميمه على حماية المجتمعات الضعيفة اقتصاديًا، حتى لو كان مثل هذا المسعى قد يجبره على رفض توصيات صندوق النقد الدولي”. وذلك في إشارة لأحاديث الرئيس عبد الفتاح السيسي الأخيرة.

ورغم أن هذا السرد “مضلل وغير دقيق”، حسب تعبير سلام، فإنه يعكس مدى وعي الرئيس بعدم شعبية سياساته الاقتصادية. “إن قضائه الأشهر القليلة الماضية في حملته الانتخابية لعرض إنجازاته كرئيس هو دليل على أنه يعلم أن مكانته الشعبية هشة”، يوضح الباحث.

والسؤال هو: هل الغضب الشعبي الحالي سيشكل نتيجة الانتخابات المقبلة؟ يعتقد هشام سلام أن الجواب بالنفي، لأن المناخ السياسي لا يوفر أي مسارات لترجمة هذا الغضب إلى برامج سياسية وبدائل واضحة يمكن للناس التصويت لها.

من الناحية النظرية، فإن “أقصى ما يمكن أن يتوقعه المرء من الانتخابات هو فرصة لتوسيع الحيز السياسي بحيث تتمكن القوى السياسية المستقلة من تنظيم نفسها وإقامة علاقات مع الناخبين؛ على أمل أن تؤتي عملية التمكين المحدود هذه ثمارها في المستقبل”.

ولتأمين مثل هذه الفرصة، وفق سلام، فإن القوى السياسية المعارضة فى حاجة إلى اجماع. ومن الناحية العملية، يعني هذا الاحتشاد خلف مرشح واحد قادر على تحدي الرئيس، وتشكيل السردية حول الانتخابات، والإعلان عن أوجه القصور في سياسات السيسي، وإثبات أن البديل القابل للتطبيق في متناول اليد.

أو بدلاً من ذلك، قد يعني الإجماع توحيد القوى السياسية المستقلة حول هدف فضح الجانب القبيح للانتخابات، بما في ذلك الممارسات غير العادلة التي تنطوي عليها والمناخ السياسي القمعي الذي تجري فيه.

يقول سلام “بصراحة، لا أرى أي دليل على ظهور مثل هذا الإجماع. أرى بين القوى المعارضة رسائل مختلطة وترددًا وعلامات الاقتتال الداخلي. وأخشى أن هذا لن يؤدي إلا إلى تعزيز رواية النظام بأن المعارضة ضعيفة وغير مجهزة، وأن الخيار الواقعي الوحيد للرئيس هو عبد الفتاح السيسي”

“الاستبداد الأكثر استنارة” كخطر يهدد السلطة

وبعيدًا عن تفاعلات الطبقة الوسطى، يُبيّن سلام أنه بالنسبة لنظام السيسي، فإن التحدي الأكثر صعوبة والأهم في هذه الانتخابات يأتي مما وصفه بـ”اليمين”، وتحديدًا من المتنافسين المحتملين المنتمين إلى نظام مبارك السابق.

ويقول: “كانت الثرثرة حول احتمال ترشح جمال مبارك مصدرًا واضحًا لقلق النظام. وعلى نطاق أوسع، يدرك النظام أن جمال يمثل بديلاً يمكن أن يجذب العديد من حلفاء السيسي الحاليين، محليًا ودوليًا. وبالنسبة للعديد منهم، يمثل جمال الوعد (والذكرى) ببديل سلطوي أكثر استقرارًا واستنارةً”.

ولهذا السبب على وجه التحديد، وفق تحليل أستاذ العلوم السياسية بجامعة ستانفورد، تحرك النظام بحذر أكبر في التعامل مع الشائعات التي تقول إن جمال ربما يفكر في الترشح للرئاسة.

“لا يريد النظام الدخول في صراع مفتوح ومباشر معه، لأنه قد يثير صراعًا داخل معسكر السيسي، خاصة وأن عائلة مبارك تتمتع بمكانة قوية بين حلفاء السيسي في الخليج، ناهيك عن وجود قيادات سابقة من أعضاء الحزب الوطني داخل الذراع السياسية الحالية للنظام، حزب مستقبل وطن”.

بعبارة أخرى، يبدو النظام أكثر توترًا تجاه المنافسين الذين يَعدون بحكم استبدادي أفضل أداءً من النظام الحالي، وليس المنافسين الذين يَعدون بالتغيير التقدمي أو من غضب الطبقة الوسطى، بحسب ما يقول سلام.