منذ عدة أسابيع، برزت في أجواء الاستعداد لانتخابات الرئاسة أحد القضايا المهمة المتصلة بالإشراف القضائي على تلك الانتخابات، وكأن هذا الإشراف هو المحك في نزاهة الانتخابات. ومنذ عدة أيام خرجت علينا بعض مقترحات الحوار الوطني، وكان منها مخرجات أقرها مجلس الأمناء، وتخص انتخابات الرئاسة.

وكان أهم تلك المخرجات الطلب إلى رئيس الجمهورية “مد مدة الإشراف القضائي على الانتخابات العامة والاستفتاءات، والمحددة بعشر سنوات تبدأ من تعديل دستور 2012 عام 2014، وذلك لمدة لاحقة، بهدف بقاء الإشراف القضائي على الانتخابات الرئاسية بذات الصيغة التقليدية، وهي معادلة قاض على كل صندوق، أي بجعل الإشراف القضائي من أعضاء الجهات، والهيئات القضائية كاملا….”. ولما كان هذا الإشراف القضائي وفق تلك المعادلة، قد حُدد بمدة عشر سنوات، وفقا لما أقرته المادة 210 من الدستور، فإنه بات من المؤكد وجود شبهة عدم دستورية في تعديل القانون 198 لسنة 2017 في شأن الهيئة الوطنية للانتخابات، فيما يخص المادة 34 من هذا القانون التي تتحدث عن إشراف مدته 10 سنوات، تنتهي في 17يناير 2024، وينتهي معها الإشراف القضائي وفق معادلة قاض على كل صندوق.

لذلك كله، يُعتقد أن الهيئة الوطنية للانتخابات ستنعقد قريبا؛ لتعلن فتح باب الترشيح، ووضع الجدول الزمني للانتخابات، وقبل ذلك تقوم بدعوة الناخبين للتصويت في انتخابات الرئاسة، بحيث تنتهي كافة أعمال التصويت، وإعلان النتيجة قبل 17يناير 2024.

ولما كانت انتخابات الرئاسة عام 2014، استغرقت 105 أيام، وانتخابات 2018 استغرقت 113 يوما، منذ دعوة الناخبين إلى إعلان النتيجة، فأنه من المرجح أن تعلن الهيئة عن دعوة الناخبين؛ للاقتراع قبل الأول من أكتوبر 2023، حتى تختتم عملية قاض على كل صندوق بتلك الانتخابات عقب تلك الانتخابات.

والسؤال الآن، هل وجود قاض على كل صندوق، هو الضامن لنزاهة الانتخابات، أو بعبارة أخرى، هل لا زالت معادلة قاض على كل صندوق صالحة وحدها؛ لعقد وتنظيم انتخابات حرة نزيهة؟ المؤكد أن هناك أمورا كثيرة غير ذلك… وآيات تلك الإجابة الموجزة كثيرة.

اعتياد شعبي في غير محله

فالناس اعتادت، منذ ربع قرن على تواجد القضاة على الصناديق، وداخل لجان الانتخابات، وكان دستور 2012 المعدل عام 2014، قد أقر بذلك عبر مدة محددة، لأن القضاة ليست مهمتهم الأساسية الإشراف على الانتخابات، بل أن مسألة الانتخابات لا علاقة لهم البته بها، فهم لا يفهمونها، ولا يعُونها كما قال وزير العدل الأسبق أحمد الزند: معنى ذلك أن الإشراف على الانتخابات ليس من عمل القضاة، وهي تجعل القاضي المفترض أن يكون حكما، وممثلا للعدالة، ومن ثم رفيع المكانة والهَمة، وبعيدًا عن الاحتكاك المباشر بالناس، وتنظيم أمورهم ومشكلاتهم وقضاياهم الحياتية.

من ناحية ثانية، فإن القضاة والضباط والمحامين, وغيرهم من أهل القانون والعاملين في مجال الأمن، هم كغيرهم من الناس منهم الصالح ومنهم الطالح، وقد وجدنا خلال العقد الأخير بروز لأحداث جسام كان طرفها قضاة، ووجدنا أيضا منذ بضعة أسابيع ضابط طبيبا، يقوم بارتكاب جريمة قتل عمد في كمبوند “مدينتي” بدم بارد. غاية القول، أو ما هو مقصود هنا، أن المنصب أو المهنة لم تمنع أي شخص، من أن يرتكب خطأ أو جرما، بل أنه قد يغري بعض ضعاف النفوس بفعل الجُرم، رغم أن النفس البشرية جُبلت كاتجاه عام على الرحمة وفعل الخير.

من ناحية ثالثة، فإن الشارع الدستوري قد حدد مدة 10 سنوات للإشراف القضائي الكامل، ليس بغرض مد تلك المدة فيما بعد، بل على العكس حددها، لكي تكون مُهلة يقوم خلالها المعني بإدارة الانتخابات، وهو الهيئة الوطنية للانتخابات، ومن قبلها اللجنة العليا للانتخابات، أو لجنة انتخابات الرئاسة بتدريب عناصر جديدة من غير القضاة للمساهمة في الإشراف على العملية الانتخابية. وها هو قد حان الوقت لذلك في الانتخابات العامة التي ستلي انتخابات الرئاسة القادمة، والتي يعتقد أنها ستكون انتخابات المحليات، لكن ما يؤسف له هو، إننا لم نستعد بعد تلك الفترة الطويلة لهذا اليوم!!!

قضاة منتمون إلى الحكومة

ولعل من الأمور التي كان يستند إليها دائما في تبرير الإشراف القضائي على الانتخابات، والاحتفاء بمعادلة قاض على كل صندوق، هي إن السلطة القضائية لا ناقة لها، ولا جمل في أعمال الاقتراع والفرز وإعلان نتيجة الانتخاب. بعبارة أخرى، هي ليس لها مصلحة على الإطلاق، بمن يفوز ومن يخسر، لذلك فإنها هي أفضل من يُشرف على الاقتراع.

هذا القول يحتاج إلى مراجعة، ليس فقط لأن القضاة لا يتمتعون بالنزاهة، بل لأنه من الممكن بسهولة، أن تجد فئات غيرهم يتسمون بالنزاهة والشرف، والقدرة على الحياد والوقوف على مسافة واحدة من جميع الناس. ولا عجب هنا أن العين لا تغفل عما حدث في دستور 2012، المعدل عام 2014، عندما أقر بجعل هيئة قضايا الدولة والنيابة الإدارية ضمن السلطة القضائية، وهم في الأساس تابعون لوزارة العدل التي تخضع للسلطة التنفيذية، التي هرمها هو رئيس الدولة، ثم رئيس الحكومة والوزراء والمحافظين ورؤساء المدن.

غاية القول أن ما كان قديما يعتبر محايدًا، ولا ينتمي للسلطة التنفيذية بأي شكل، بات جزء منه، جزءا منها، ما يجعل التمسك بتبرير النزاهة بدعوى الحياد الكامل عن السلطة التنفيذية محل نظر، على الأقل من قبل البعض، ومنهم القضاة أنفسهم الذي رفض نفر منهم ضم التابعين لوزراة العدل سابق الإشارة إليهم، إلى القضاء العادي وقضاء مجلس الدولة والقضاء الإداري.

قضاة الندب عند السلطتين التنفيذية والتشريعية

وفي أدبيات النظم السياسية، من المعروف أن الحكومة تنقسم إلى ثلاث سلطات تنفيذية، وتشريعية، وقضائية. وكل سلطة يجب أن تكون مستقلة عن الأخرى، فهناك المُشرع، وهناك المُنفذ، وهناك الحَكم.

وكان النظام السياسي المصري قد سعى إلى تدارك المشكلات المحيطة بعدم الفصل هذا في دستور 2012 المعدل 2014، بأن أشار إلى عدم ندب القضاة إلى جهات غير قضائية، إذ أنه فوق أن المادة (186) من الدستور قد نصت على أن “القضاة مستقلون غير قابلين للعزل، لا سلطان عليهم فى عملهم لغير القانون….ولا يجوز ندبهم كليا أو جزئيا إلا للجهات وفى الأعمال التى يحددها القانون، وذلك كله بما يحفظ استقلال القضاء….” نصت المادة (239) من الدستور على أن “يصدر مجلس النواب قانونًا بتنظيم قواعد ندب القضاة، وأعضاء الجهات والهيئات القضائية، بما يضمن إلغاء الندب الكلي والجزئي لغير الجهات القضائية، أو اللجان ذات الاختصاص القضائى أو لإدارة شؤون العدالة أو الإشراف على الانتخابات، وذلك خلال مدة لا تتجاوز خمس سنوات، من تاريخ العمل بهذا الدستور”. وكان قسم التشريع في مجلس الدولة قد انتهى في ديسمبر 2018، عند مناقشة مشروع قانون الحكومة لوضع نص المادة 139 موضع التنفيذ، قد انتقد بشدة المشروع الذي حدد جهات الندب، وشمل منها وزارة العدل، لأن التحديد فيه مخالفة دستورية كبيرة، لأنه لا يمنع الندب لغير الجهات القضائية، بل ينظمه، ناهيك عن أنه يضع وزارة العدل ضمنه، رغم أنها ضمن السلطة التنفيذية. نفس الأمر يمكن قوله على ندب عشرات القضاة بمجلسي النواب والشيوخ، وهي جميعها جهات، لا تمت للقضاء بصلة.

إن غاية القول من ندب للقضاة في أي نظام سياسي، هو أن ذلك يجعل القضاة يعملون في جهات سياسية وإدارية، وهو أمر يتنافى مع عملهم أولا. وثانيًا: وهذا هو الأهم، أن ذلك يفتح الباب أمام السلطة التنفيذية؛ لإفساد القضاة، بأن تقوم بمكافأتهم بوسائل مادية مجزية، ولا تتناسب مع ما يقومون به من أعمال، الغير قادر على القيام بها برواتب أقل بكثير. والحكومات في هذا الصدد، تنتظر من بعض هؤلاء من ضعاف النفوس، وهم قلة، رد كل ذلك بشكل معنوي عند إعادتهم إلى عملهم، وانتهاء مدة ندبهم.

وهكذا، فإنه مع قرب عقد انتخابات الرئاسة وإشراف القضاة عليها بمعادلة قاض على كل صندوق، يُومل أن تقوم الهيئة الوطنية للانتخابات بسرعة إعداد كادر جديد له صفات محددة دائم أو منتدب، وله تنظيم لائحي فائق الدقة، بحيث يثبت للكافة أن مصر قادرة – كغيرها من بلدان العالم- على تنظيم انتخابات لا علاقة للقضاء بالإشراف عليها، وأن هؤلاء من حيث مكانتهم الرفيعة والسامية فوق كل تحزب أو تشرذم أو نزول للساحات العامة.