في آخر إصداراته، نشَر معهد التمويل الدولي يوم الثلاثاء الماضي في القسم الخاص بمتابعة الديون الدولية تقريرًا، بعنوان “البحث عن الاستدامة”. جاء بالتقرير أن الدين العالمي الإجمالي السيادي، وغير السيادي، قد وصل إلى 307 تريليون دولار، بنهاية النصف الأول من هذا العام، وهو مستوى قياسي جديد، إذا ما قورن بمستواه في عام 2013، والذي كان قد بلغ 207 تريليون دولار، أي أن زيادةً قدرها 100 تريليون دولار، قد شهدها حجم الدين العالمي، خلال عِقدٍ واحدٍ فقط من عُمر الزمان.
وقد أشار التقرير إلى أن ما يقرب من 207 تريليون دولار، أي نحو 67% من حجم الدين العالمي، كان مُتَرَكِزًا في مجتمعات الأسواق الناضجة (دول الشمال أو دول المركز)، وهي: الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وبريطانيا واليابان، بينما كان نصيب مجتمعات الأسواق الناشئة كالصين، والبرازيل والهند، وغيرها من حجم الدين العالمي، ما يقرب من 100 تريليون دولار، أي نحو 33%. ولأن الأرقام المُجردة لا تَشي بأي دلالة، إلا إن تَمّت نِسبَتُها إلى أرقام أخرى ذات صلة، فقد رَبَط التقرير بين رقم الدين العالمي وبين إجمالى الناتج العالمي، إذ بلغت نسبة الدين العالمي إلى قيمة الناتج العام العالمي نحو 336%، أي أن قيمة الدين تزيد بثلاث مرات ونصف المرة -تقريبًا- عما ينتجه العالم من سلع وخدمات.
وعلى الرغم من أن تلك النسبة لا تحتاجُ متخصصًا؛ لإدراك أنها قد تَعَدْت حدود الخطر بمراحل، إلا أن كونها نسبة إجمالية وشديدة التعميم، تضم من المجتمعات، من يزيد ما ينتجه عن ديونه إلى جوار من يفعل العكس في مُحَصِلَةٍ، لا تُعبر عن الصورة الحقيقية بثناياها الدقيقة، فقد اقتضت الحاجة لمزيد من التفصيل، أسردها على القارئ الكريم من بيانٍ أمريكي، صدر صباح السبت 24 سبتمبر، تم فيه ذِكْر أحجام الديون السيادية “فقط”، والنواتج المحلية لبعض الدول، وكانت تفاصيلها بالأسواق الناضجة على النحو التالي:
أما على مستوى أهم الأسواق الناشئة، فقد جاءت الأرقام وفق نفس التقرير الأمريكي كما يلى:
وعلى الرغم من أنه يؤخذ -فنيًا- على الجداول الموضحة أعلاه غيابُ بياناتٍ أخرى، تتعلق بعدد السكان، ونصيب كل منهم في الدين السيادى، والناتج العام؛ حتى يكون التحليل أكثر دقة وتعبيرًا، ناهيك عن عدم ذكر أية بيانات عن مجتمعات باقي الأسواق الناشئة؛ لعدم انطباق معايير التقرير عليها “شكليًا” في ظل غياب بياناتٍ عنها، يمكن الوثوق بها على نحوٍ ما، إلا أنه وبصورة عامة، يمكن للقارئ الكريم إدراك حجم الأزمة التي تعانيها مجتمعات الأسواق الناضجة، حيث يزيد الدين السيادي بنسب متفاوتة، عما تنتجه هذه المجتمعات، فيما عدا ألمانيا، بينما تأتي الآية معكوسة في مجتمعات أهم الأسواق الناشئة، حيث يزيد ما تنتجه هذه المجتمعات من سلع وخدمات عن الدين السيادي بها، فيما عدا البرازيل التي يرتفع حجم دينها السيادي بنسبة ضئيلة جدًا عن مقدار ما تنتجه من سلع وخدمات.
ولا شك عندى، إنه إن تم استبعاد قيمة الثروات الطبيعية، والمالية التي تنهبها دول الأسواق الناضجة – بانتظامٍ منذ عقود- من دول الأسواق الناشئة، لتساهم من خلال ذلك في زيادة نواتجها المحلية، فسيزداد انكشاف حجم أزمة الدين العام بشقيه السيادي وغير السيادي في مجتمعات تلك الأسواق، الأمر الذي ينذر بكارثة مالية عالمية، ستتضاءل أمامها آثار كارثة 2008، خصوصًا مع ارتفاع تكلفة التوجه الأممي؛ لمعالجة آثار تخريب المناخ، وإفساد البيئة، اللتين تسببت فيهما ممارسات دول تلك الأسواق.
كان الاقتصادي الأمريكي الكبير “جوزيف ستيجليتز” الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد، قد أشار في واحدٍ من أهم كُتُبِه الذي صدر في عام 2010، بعنوان “السقوط الحُر- أمريكا، الأسواق الحُرة وانهيار الاقتصاد العالمي”، إلى أن ما حدث في الاقتصاد الأمريكي، منذ نهاية تسعينات القرن الماضي، وحتى الأزمة المالية في 2008، ما هو إلا عملية سرقة كُبرى Great Robbery، تم بناؤها على الاحتيال والتدليس والتلاعب بالقوائم المالية، والقواعد المحاسبية، وأعمال توريق ديون الرهونات العقارية. وقد أشار ستيجليتز إلى أن تلك العملية قد شارك فيها مجموعة من السماسرة، ومديري الشركات ومؤسسات التصنيف الائتماني، كما شارك فيها أيضًا كل من الاحتياطي الفيدرالي، ووزارة الخزانة الأمريكية بالصمت حينًا، وبالتواطؤ أحيانًا.
استمرت عملية السرقة الكبرى بعد ذلك؛ لتأخذ أدواتها أشكالًا أكثر تطورًا وتعقيدًا، مُتَمَدِدَةً عبر المحيطات على جناح العولمة الغاربة شمسها، لتصيب مجتمعات العالم بكل أمراضها المُزمِنة، بدءًا بعشوائيات الأوفشور وجرائم غسل الأموال، ومرورًا بتجارة الأدوات المالية (الاقتصاد المالي)، ثم انتهاءً بالديون السيادية وغير السيادية، لتعكس عمق الأزمة الكامنة في بنية النظام الاقتصادى في أمريكا، وفي دول الأسواق الناضجة، لتُصيب أثناء مسار تطورها البائس، الأسواق الناشئة في مقتلٍ.
كشفت أزمتا كورونا والحرب الأوكرانية مَدَى هشاشة النظام الاقتصادى العالمي، وبؤس آليات عمله التي اعتمدت العولمة أساسًا لها، فإذا بها (العولمة) قد تطورت سَلبًا، فتمدد نطاقها؛ ليشمل عولمةً للديون التي أضحت كالسحر الذي انقلب على الساحر، تحت ضربات التضخم العابر للقارات في عالمٍ جديدٍ، تتشكل ملامحه بتحالفاتٍ مُستَحدَثة ستفضي ،بِحُكم حتمية تطور الواقع، إلى تكوين مؤسسات دولية جديدة على أنقاض مؤسسات ما بعد الحرب الكونية الثانية.