منذ عام 2011، تتفاوض مصر والسودان وإثيوبيا للوصول إلى اتفاق بشأن ملء سد النهضة الإثيوبي وتشغيله، إلا أن جولات طويلة من التفاوض بين الدول الثلاث، لم تثمر حتى الآن عن اتفاق. ومؤخرا، أعلنت إثيوبيا في أغسطس/آب الماضي الملء الرابع للسد كأمر واقع يتعين على مصر مواجهته بلا أي قدرة على التصرف، في ظل ما تصفه بـ”التعنت الإثيوبي” و”الخطوات الأحادية”.

على الجانب الآخر تعتبر أديس أبابا أنها بادرت بحسن النية حين أطالت من الفترة الزمنية للملء بحيث لا يؤثر على تدفق المياه لمصر. وقد أتى هذا الملء بعد لقاء جمع بين رئيس الوزراء الإثيوبي، والرئيس عبد الفتاح السيسي، في يوليو/تموز الماضي، واتفاقهما على استعادة مسار المفاوضات، إضافة لتطمينات إثيوبيا على مستوى القيادة، بتنفيذ الملء الرابع بجدولة “لا تضر بمصر”. وهي المفاوضات التي لم تتوصل إلى أي نتائج خلال جولتها الأولى بالقاهرة. وأعلنت مصر أمس كذلك فشل الجولة الثانية التي جرت في أديس أبابا السبت والأحد.

لكن ضمن محاولة “مصر 360” فهم النظرة الدولية للنزاع، بعيدا عن منظور الرؤية المصرية، من أجل التعرف على الجوانب والأبعاد المختلفة، التي ينظر إليها مختصون دوليون في مثل هكذا نزاعات، كان هذا الحوار مع الخبير القانوني الدولي جون مباكو، مؤلف كتاب “إدارة حوض نهر النيل: البحث عن نظام قانوني جديد“.

 

الخبير القانوني جون مباكو
الخبير القانوني الدولي جون مباكو

ومباكو أيضًا أستاذ اقتصاد مرموق في برنامج برادي الرئاسي، وزميل جون س. هينكلي في جامعة ويبر ستيت. وكذلك زميل أول غير مقيم في معهد بروكينجز في واشنطن، ومحامي ومستشار للمحكمة العليا للولايات المتحدة، وهو خبير في اتحاد البحوث الاقتصادية الإفريقية ومقره كينيا.

وإلى نص الحوار.

مصر 360: دخلت مصر والسودان وإثيوبيا لفترات طويلة في مفاوضات لم تؤدِ إلى التوصل إلى أي اتفاق. واتهمت مصر إثيوبيا مرارًا بانتهاك اتفاق المبادئ لعام 2015. وفي نهاية أغسطس/آب الماضي، استأنف الأطراف الثلاثة المفاوضات بعد توقف دام عامين، ولكن مرة أخرى دون التوصل إلى أي اتفاق. والآن أكملت إثيوبيا الملء الرابع للسد، مما أثار غضب مصر.

لماذا فشل الطرفان المصري والإثيوبي في التوصل إلى اتفاق حتى الآن برأيك، ولماذا ترفض أديس أبابا التوصل إلى اتفاق حول قواعد ملء وتشغيل السد؟

جون مباكو: على مر السنين، لم تتمكن دول حوض النيل من التوصل إلى اتفاق حول كيفية تخصيص مياه نهر النيل بشكل معقول ومنصف. لكي نفهم ونقدر ما يحدث في حوض النيل اليوم بشكل كامل، يجب على المرء أن يدرك أنهما في الواقع صراعان مختلفان يحتاجان إلى حل -أحدهما حول سد النهضة الإثيوبي الكبير والآخر حول تخصيص مياه نهر النيل بين الدول المتشاطئة الـ11.

كان من المفترض أن تحل اتفاقية الإطار التعاوني (اتفاقية عنتيبي) القضايا المتعلقة بتخصيص واستخدام مياه النيل، لكنها فشلت في القيام بذلك لأن مصر والسودان رفضتا التوقيع والتصديق على المعاهدة.

بعد اعتماد اتفاقية إعلان المبادئ لعام 2015 بين مصر وإثيوبيا والسودان بشأن مشروع سد النهضة الإثيوبي الكبير، اتفقت الدول الثلاث على ضرورة التعاقد مع خبراء دوليين لدراسة تأثير سد النهضة على الأمن المائي لمصر والسودان، دولتي المصب.

لكن هذا القرار أعاد إشعال الخلاف الطويل حول معاهدات الحقبة الاستعمارية -المعاهدة الإنجليزية المصرية عام 1929- ومعاهدة النيل عام 1959- والحقوق الممنوحة لمصر والسودان في مياه النيل بموجب هاتين الاتفاقيتين.

لم يتمكن الطرفان -مصر والسودان من ناحية، وإثيوبيا من ناحية أخرى- من التوصل إلى اتفاق بشأن ملء وإدارة سد النهضة لأن مصر، التي لا تزال تطالب بـ 55 مليار متر مكعب (من المياه الممنوحة لها بموجب معاهدة النيل لعام 1959)، تصر على أن خط الأساس لتحديد تأثير سد النهضة على الأمن المائي المصري يجب أن يكون حقوقها المكتسبة تاريخيًا -أي 55 مليار متر مكعب.

إثيوبيا، التي توفر مرتفعاتها أكثر من 85% من المياه التي تصب في نهر النيل، رفضت الموقف المصري، ولهذا السبب لم يتم التوصل إلى اتفاق. وقال السودان، مثل مصر، إن حقوقه المكتسبة، أي تلك الممنوحة بموجب معاهدة النيل لعام 1959، يجب أن تكون نقطة البداية لأي مفاوضات بشأن سد النهضة.

مصر 360: في الوقت الحالي أصبح السد أمرًا واقعًا لا يمكن لمصر تجاهله، لكن في ظل عدم وجود اتفاق قانوني ملزم فإن الأمن المائي في مصر في خطر، وهي تعاني بالفعل من شح المياه.

كيف يمكن تجاوز الخلافات بين الطرفين والتوصل إلى اتفاق ملزم يأخذ في الاعتبار نسبة مصر من المياه؟

جون مباكو: إن حقيقة أن إثيوبيا قد أكملت ملء خزان سد النهضة يعني فقط أن الجدول الزمني لملء السد لم يعد قضية للمفاوضات. خلال المفاوضات بين الدول الثلاث في كينشاسا في إبريل (نيسان) 2021، كانت هناك قضيتان مهمتان يجب أخذهما في الاعتبار هما الوقت اللازم لملء السد والقيام بذلك بطرق لا تؤثر سلبًا على مصر والسودان، وكذلك كيفية إدارة السد، وخاصة فيما يتعلق بتخفيف آثار الجفاف.

والآن بعد أن اكتملت عملية الملء الرابع، أظن مسألة الملء لم تعد مطروحة للتفاوض. والقضايا الوحيدة التي يجب التفاوض بشأنها هي كيفية تأثير إدارة السد على تدفقات المياه إلى مصر والسودان، خاصة في أوقات الجفاف.

في رأيي، فإن حل هذه القضايا سيتطلب تخلي مصر والسودان عن مخصصاتهما المائية في الحقبة الاستعمارية، والسعي مع إثيوبيا إلى إبرام معاهدة جديدة تستند إلى مبدأي القانون العرفي الدولي اللذين اعترفت بهما الدول الثلاث وأعلنت صراحةً عنهما في إعلان المبادئ: “مبدأ عدم التسبب في ضرر جسيم” و”مبدأ الاستخدام المنصف والمعقول”.

مصر 360: لا يبدو أن المجتمع الدولي أو الولايات المتحدة فاعلين في هذا الصراع حتى الآن، منذ مغادرة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للرئاسة . في رأيك، كيف يمكن للولايات المتحدة أو الجهات الدولية أن تلعب دورًا في تقريب وجهات النظر بين مصر وإثيوبيا أو في دفع إثيوبيا للتوقيع على اتفاق ملزم؟ وما الحلول البديلة لمصر إذا لم يحدث ذلك؟

جون مباكو: شاركت الولايات المتحدة والبنك الدولي في الجهود المبذولة لحل النزاع حول سد النهضة خلال إدارة ترامب. وعلى الرغم من موافقة مصر على الاتفاقية النهائية، إلا أن أديس أبابا رفضتها، مدعية أنها تميل لصالح دول المصب، وفي المقام الأول مصر.

على أية حال، أعتقد أن الجهات الفاعلة الخارجية، مثل الولايات المتحدة والبنك الدولي ودول الخليج وجامعة الدول العربية والاتحاد الأوروبي، ليست ضرورية لهذه الدول الثلاث لحل جميع القضايا المتعلقة بالقضية، نهر النيل بشكل عام وسد النهضة بشكل خاص.

ومن المرجح أن يتم التوصل إلى اتفاق مستدام إذا تجاهلت الدول الثلاث التأثيرات الخارجية، وتفاوضت بحسن نية فيما بينها.

في 28 يوليو/تموز 2010، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار 64/292 الذي اعترفت فيه بـ “الحق في الحصول على مياه الشرب المأمونة والنظيفة وخدمات الصرف الصحي كحق من حقوق الإنسان وضروري للتمتع الكامل بالحياة وبجميع حقوق الإنسان”.

ويمكن لهذه البلدان الثلاثة استخدام هذا القرار والاعتراف بحق الإنسان في الحصول على المياه وحق الإنسان في الصرف الصحي كأساس لمفاوضاتها، ووضع اتفاقيات الحقبة الاستعمارية جانبًا.

إن المعاهدة الملزمة لن تقلل بشكل كبير من حالة عدم اليقين المرتبطة بالأمن المائي في مصر فحسب، بل ستسمح أيضًا للدول الثلاث بالتعامل بشكل أكثر فعالية مع التحديات المرتبطة بتغير المناخ.

س: ما هي الخسائر المحتملة التي قد تتكبدها مصر إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق مع إثيوبيا؟

جون مباكو: إذا كان ما قالته إثيوبيا صحيحًا، فإن تشغيل سد النهضة لا ينبغي أن يهدد دون داع تدفقات المياه إلى مصر والسودان. وقد صرحت أديس أبابا باستمرار أن سد النهضة هو في الأساس سد لتوليد الطاقة الكهرومائية، وأنه بمجرد امتلائه، لن يكون هناك أي تأثير كبير على تدفقات المياه إلى دول المصب.

اكتمل الآن الملء الرابع، وفقًا لبيان صادر عن الحكومة الإثيوبية. ومع ذلك، لا تزال هناك قضايا تحتاج إلى حل. على سبيل المثال، ما هو الدور الذي سيلعبه سد النهضة في التخفيف من آثار الجفاف؟ وهذه قضية من المرجح أن تكون مهمة، ليس فقط للقاهرة، بل أيضًا لأديس أبابا والخرطوم.

ماذا عن إدارة الفيضانات؟ وماذا لو كان هناك خلاف مستقبلي بشأن سد النهضة، ما هي آلية حل النزاع؟

جون مباكو: ينبغي لمعاهدة بخصوص سد النهضة أن تقدم إجابات لهذه القضايا وأن تساعد الدول الثلاث على تقليل الشكوك العديدة المرتبطة بكيفية إدارة نهر النيل بطرق مفيدة للطرفين. وفي رأيي، من غير المرجح أن يتم التوصل إلى مثل هذه المعاهدة إذا استمرت مصر والسودان في الإصرار على أن تكون حقوقهما المكتسبة تاريخيًا هي الأساس لأي مفاوضات.