خرجت مايسة إلى المعاش مؤخرا، وهي تعاني كما نسبة غير قليلة من المسنين، من أمراض مزمنة، ثلاثي السكر والضغط والقلب.
قبل المعاش، كانت ضغوط تكلفة العلاج أقل، وكان التأمين الصحي يوفر لي العلاج، تتابع مايسة بأسى: ولكن هناك معاناة أخرى. مؤخرا لم تعد العديد من الأدوية متوفرة، في الوقت الذي تضاعفت فيه أسعارها.
وكأنه لم يكف مايسة، وأمثالها من المرضى من المصريات والمصريين، وهم بالملايين، السعر المبالغ فيه، حتى تتحالف معه الندرة، والعناء في البحث عن الدواء، الذي بات في حد ذاته داء من الأدواء والأمراض، يستوجب العلاج في السياسات الاقتصادية والاجتماعية، كما السياسات الصحية والحق في العلاج.
فمؤخرا ظهرت أزمة في سوق الدواء، تتمثل في نقص عديد من الأدوية، وارتفاع أسعارها، خاصة في الشهور الثلاثة الأخيرة، وهي أزمة ليست منفصلة عن واقع الاقتصاد أو سوق الدواء.
أين الخلل؟
هنا ترتفع لافتة عريضة تكمن فيها الأسباب وربما الذرائع: الدولة لا تستطيع توفير متطلبات مالية؛ لاستيراد بعض السلع، ولم تكن الأدوية والعلاجات استثناء، وبالرغم من وجود شركات مصرية منتجة للدواء، إلا أن بعض مستلزمات التصنيع، بما فيها المواد الفعالة تستورد من الخارج، ما فاقم أزمة تلك الشركات. ما العمل؟ هل يمكن أن يشكل التأمين الصحي ملاذا؟ ماذا يفعل المرضى في ظل نقص الدواء، خاصة أصحاب الأمراض المزمنة، والمنتشرة بين المسنين، والذين تزيد أزمتهم مع بلوغ سن المعاش وتقلص دخولهم. وهل يمكن أن يكون التأمين الصحي ملاذا لكثير من المرضى، الذين تراجعت دخولهم مع انخفاض القيمة الشرائية للجنيه، وارتفاع أسعار الادوية بقفزات جنونية في الشهور الثلاثة الأخيرة؟ وأين ذلك وغيره من حق المواطنين المنصوص عليه في الدستور “وفي الإنسانية” في العلاج والصحة؟.
الحق في العلاج
ضمن الحق في الصحة يأتي الحصول على العلاج، بما في ذلك توافر الأدوية بأسعار تكلفتها ممكنة دستوريا، وضمن مهام الدولة، تلتزم الدولة بصيانة ودعم المرافق الصحية، وتقديم الخدمات، وتعزيز كفاءتها وتوزيعها الجغرافي العادل.
وتنص المادة 18 من الدستور على التزام الدولة “ بإقامة نظام تأمين صحي شامل لجميع المصريين، يغطى كل الأمراض، وينظم القانون إسهام المواطنين في اشتراكاته أو إعفاءهم منها طبقاً لمعدلات دخولهم”.
المسنون يواجهون مأزقين
تقول منال: وهي إحدى الموظفات في هيئة التامين الصحي، أن أدوية الأمراض المزمنة التابعة للشركات المصرية متوفرة، لكن النقص واضح في الأدوية المستوردة. وهي المشكلة التي تتكاتف مع التهاب الأسعار.
%30 من المصريين سكر وضغط
ويشير الاتحاد الدولي لمرض السكري في تقريره لعام2021، أن مصر من أعلى دول العالم (العاشرة من حيث التصنيف) من حيث أعداد المصابين بمرض السكري، ويبلغ عددهم نحو 11 مليون مريض، وتوقع الاتحاد، إذ لم تتم المواجهة، وصول عدد المرضي إلى 20 مليون بحلول العام 2045.
ووفقاً لتصريح دكتور أحمد البربري أستاذ القلب بجامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا، أظهرت حملة 100 مليون مواطن، أن الإصابة بمرض ارتفاع الضغط تمثل نسبة ٣٠% من مصابي الأمراض غير المعدية، ويقدر عدد مرضى الضغط ب٢٠ مليون مصري.
سوق الدواء؟
يمثل الوصول إلى الدواء تحديًا؛ بسبب عوامل مختلفة، منها ارتفاع أسعاره بالخصوص، إضافة إلى تأثيرات الأزمة الاقتصادية بالعموم، وانخفاض قيمة الجنيه، وهي أمور تُعجز المواطنين عن تحمل تكاليف الأدوية والعلاجات الطبية، ما يزيد مضاعفات الأمراض و”يهد حيل المرضى” وذويهم أيضا.
ويشكل سوق الدواء المصري، أكبر الأسواق في منطقة الشرق الأوسط، وتصل مبيعاتها السنوية إلى 170 مليار جنيه مصري (5.5 مليارات دولار) عام 2022، بحسب بيانات حكومية.
وتنتج الشركات المحلية نحو أربعة مليارات وحدة دوائية سنويا بقيمة 3.5 مليارات دولار، لكن الأزمة تكمن في أن 98% من حجم الإنتاج المصري يعتمد على المكونات الفعالة، والمواد المستوردة المرتفعة السعر. ما أدى لانخفاض المعروض.
تقول علا: وهي صاحبة مجموعة صيدليات، إن ارتفاع أسعار الدواء مؤخرا، خفض الطلب عليها، بما في ذلك أدوية الأمراض المزمنة، وبديلا عن ذلك، بدأ بعض المرضى يتوجهون إلى التأمين الصحي.
تدلل علا على أزمة نقص الأدوية فتقول: جرد الصيدلية قبل عام، كان يتطلب أسبوعين، في مقابل خمسة أيام حالياً، وترجع ذلك لانخفاض المعروض من الأدوية، وارتفاع أسعار الدواء بشكل عام، مما خفض الطلب، لكن بالنسبة للأرباح لم تنخفض رغم قلة الطلب.
وعن ارتفاع الأسعار تعطي أمثلة فتقول: زادت أسعار بعض أنواع الأنسولين “الخاص بأمراض السكري” من 55 الى 63 جنيها خلال 3 أشهر، بينما شهد الأميريل زيادة من 60 إلى 68 إلى 78 جنيها، خلال 3 أشهر، وجلوكوفاج من 40 إلى 50 جنيها، وهي نفس قيمة الزيادة في الفترة ذاتها لبعض أدوية علاج الضغط مثل، كونكور 5 بلس.
السوق و”السوء” والأسوأ.. تهريب وغش بالأدوية
وفقا لتقرير اللجنـة المشـتركة للصـحة والسكان، بمجلس الشيوخ حول دعـم الصناعات الدوائية، بلغت معدلات استهلاك الدواء 9,3 مليارات جنيه في عام 2006، ووصل إلى 63 مليار جنيه عام 2018، بينما في عام 2022، تجاوز 122.7 مليار جنيه. ومن المتوقع، أن تصل مبيعات الدواء نهاية 2023 إلى 142.5 مليار جنيه.
نقص الأدوية يأتي في نفس الوقت التي تنتشر تجارة الأدوية المهربة من الخارج، وتُباع خارج الصيدليات، عبر سماسرة يستغلون حاجة المرضى، ما بين أدوية منتهية الصلاحية، وأخرى مغشوشة، مما ينذر بانحدار أوضاع صحة المصريين للأسوأ.
هل التأمين الصحي ملاذ؟
ترجم قانون التأمين الصحي الشامل جزءا من التزامات الدولة الدستورية في الخدمات الصحية والعلاجية، حيث صدر عام 2018، ويهدف لتعميم نظام التأمين الصحي على السكان، والذين يندرج ثلثهم تقريبا تحت سن 29 عامًا، بينما يعيش ثلث آخر في حالة فقر، وهم الأكثر حاجة للرعاية الصحية والعلاج بأسعار ميسورة.
ودخلت محافظة أسوان، منذ عامين في المرحلة الأولى التجريبية للتأمين الطبي الشامل، إلا أنه لم يبدأ العمل بها فعليا إلا في الشهر الماضي.
وتقول غادة: وهي صيدلانية بمستشفى التأمين الصحي بأسوان، إنه نتيجة لزيادة أسعار الأدوية مؤخرا، زاد لجوء المواطنين إلى التأمين الصحي لطلب أدوية الضغط، والسكر وأمراض القلب والأمراض المناعية.
لكن هناك نقصا في أدوية الأنسولين نتيجة؛ توقف استيراد المادة الخام التي تستخدم في صناعتها؛ لارتفاع تكلفة استيرادها.
وتتسع قوائم النقص، لتشمل شحا في أدوية أمراض المخ والأعصاب، لكن وزارة الصحة قالت، إنها تعمل جاهدة على توفيرها؛ لتغطية الزيادة في السحب عليها.
تلاحظ منال زيادة أعداد المستفيدين من منظومة التأمين بسبب ارتفاع أسعار الأدوية، أو لنقصها بالصيدليات وتقول لـ”مصر360″: أوامر صرف بعض الأدوية للمستفيدين تحتاج لموافقة لجان طبية بالمحافظة، منها الأدوية المدرجة في جداول مخدرات، وتشمل أدوية الصرع، بينما في السابق، كانت الحالات المرضية تحول إلى لجان طبية في محافظة قنا؛ للعرض للحصول على الموافقة لصرف الأدوية.
وتمضي منال في بسط صنوف المعاناة الإضافية بالنسبة للمرضى: أغلب حقن الجلطات مستوردة، وزادت الضعف، السيبروليسين وصل سعره 103 جنيهات، خلال 3 أشهر فقط، أما أدوية التروكسين، وهو علاج لأمراض الغدة، قفز 300%، ووصل سعر العلبة من 300 جنيه الى 900 جنيه مع اختفائه من السوق، بحسب منال تحول أغلب المصابين إلى التأمين الصحي؛ للحصول على العلاج بتكلفة يسيرة.
تعاني النساء الحوامل أيضا من نقص بعض حقن المنشطات مثل، الفوستيمون والميريونال نتيجة؛ لوقف استيرادها أو زيادة أسعارها مثل، حقن التنشيط أبيبي فاسي التي زادت من 84 إلى 211 جنيها، خلال 5 أشهر.
يرتبط الحصول على الأدوية من منظور حقوق الإنسان، ارتباطًا جوهريًا بمبادئ المساواة، وعدم التمييز والشفافية، ولا تزال علاقة جوهرية تربط بين الفقر، وإعمال الحق في الصحة، حيث أنّ الدول النامية هي الأكثر احتياجًا إلى الأدوية، وأقل قدرة على الحصول عليها. فمتى يحصل فقراء المصريين، وهم الأغلبية على حقهم في الحصول على الدواء؟