يؤدي الاستثمار في البشر، إلى تعظيم قيمة رأس المال البشري الذي تحتاج اليه البلدان متوسطة، وضعيفة النمو على وجه الخصوص؛ لأن التسارع التكنولوجي يغيّر من طبيعة العمل بصورة كبيرة، حيث تقدر بعض الدراسات، أن ما يصل إلى 65% من أطفال المدارس الابتدائية اليوم، سيعملون في وظائف أو مجالات غير موجودة بعد !!! لذلك تحتاج تلك البلدان إلى الاستثمار في تنمية، ما ستحتاجه شعوبها من مهارات، تمكنها من التعامل مع اقتصاد المستقبل، ذلك أن التقدم العلمي والتكنولوجي يغير حياة الناس، بل إنه يوفر الفرصة؛ لمساعدة البلدان الفقيرة على سد الفجوة مع البلدان الغنية في مدي زمني قصير نسبيا، إذا ما أدركت تلك البلدان القيمة الكبيرة لهذه الفرصة، وعملت بجدية على اغتنامها.
وبالإضافة إلى كون التغذية السليمة، والتعليم الجيد والرعاية الصحية الشاملة، حق أصيل من الحقوق التي تعتبرها كافة المواثيق الدولية لحقوق الانسان التزام وجوبي على الدولة تجاه مواطنيها، هناك مبررا اقتصاديا أيضاً للاستثمار في البشر، وهو أن نكون مستعدين؛ للمنافسة والازدهار في بيئة سريعة التغير.
إن “رأس المال البشري” – إمكانيات الأفراد – هو الاستثمار الأهم على المدى الطويل الذي يمكن لأي بلد تحقيقه من أجل؛ ازدهار شعبه ورفع نوعية حياته مستقبلا.
لقد سيطر على الباحثين والمفكرين أصحاب الرؤى الأكثر انحيازا لتقدم الإنسانية، المفهوم القائل بضرورة الاستثمار الواسع في البشر، من منظور إنساني أولا: ثم لأسباب يمليها احترام مبادئ وقيم حقوق الإنسان .. الآن نحن نعلم علم اليقين، أنه من الناحية الاقتصادية، فان الاستثمار في البشر هو الطريق الآمن، وربما الوحيد للنهوض بشعوبنا، والحفاظ على وجودنا بين الأمم المتقدمة، وأنه علينا بأقصى سرعة القيام به، فالاستثمار وبكثافة في أبنائنا، هو الضمانة الوحيدة والحقيقية؛ لإنقاذ الحاضر وتأمين المستقبل.
هذه الفكرة كانت موجودة لبعض الوقت، ولكن مع توفّر بيانات أفضل، وظهور أدوات تحليلية جديدة أكثر قوة، فإننا ندرك الآن أن العلاقة بين رأس المال البشري والنمو الاقتصادي، يمكن أن تكون أعمق بكثير، مما كنا نتخيله. فالاستثمار في البشر مردوده مركب ومتعدد الأبعاد، وطريقة حسابه يجب أن تأخذ في اعتبارها ذلك التعدد القيَمي.
وتكشف الأبحاث الجديدة، أن رأس المال البشري – رصيد المعرفة التقنية، والمعارف، والمهارات في بلد ما – هو جزء أهم بكثير في مكونات الثروة، مما كان مفهوما سابقا، فعلى عكس ما هو شائع عن الأهمية المطلقة لرأس المال المادي، فإن رأس المال البشري يشكل الآن أغلبية الثروة في البلدان المرتفعة الدخل، ونسبة مئوية أقل من إجمالي الثروة في البلدان المتوسطة الدخل، ونسبة أقل من ذلك بكثير في البلدان المنخفضة الدخل.
 فالبلدان التي حسّنت رأسمالها البشري أكثر من غيرها، مقارنة مع البلدان الأقل تحسينا لرأس المال البشري بين عامي1991 و2016 نجد أن الفرق في نموها الاقتصادي يبلغ 1.25%، من إجمالي الناتج المحلي كل عام على مدى 25 عاما، ما يعني أنه بالنظر إلى الماضي القريب، كان للاستثمار في البشر تأثير هائل على النمو الاقتصادي.
هذا وتوجد نماذج في العالم لدول متقدمة تتمتع باقتصاد قوي، لا يقوم اقتصادها بالأساس على الموارد والثروات المادية الهائلة، ولا على أساس مواردها الطبيعية، بل على مواهب شعوبهم ومهارتهم ومعارفهم ” ثروتهم البشرية “، كوريا الجنوبية نموذج، والهند ” أرض المعجزات ” التي تحولت من الفقر إلى سادس قوة اقتصادية في العالم، اتخذت من العنصر البشري مرتكزا؛ لتحقيق نهضتها، وماليزيا و سنغافورة، وغيرهم العديد من الدول التي احدثت نقلات نوعية مبهرة في معدلات نمو اقتصاداتهم، وتقليص حجم الفقر المدقع لشعوبهم، بل وتحقيق قدر مقبول من الرفاهية لهم  معتمدين على الاستثمار بشكل كبير، وأساسي في مواردهم وثرواتهم البشرية، والأهم من ذلك كله النجاح في اللحاق بقطار التطور العلمي والتكنولوجي، واستيعاب المعارف والتقنيات الحديثة والتي تعني القدرة علي الاندماج الكامل، ليس فقط في اقتصاد المستقبل، بل أيضا في صناعته.
هذا وما زال البعض في بلداننا، الذين يتبنون أفكار المدارس الاقتصادية النيوليبرالية، يرددون مقولات مثل، “سنحقق النمو لاقتصادنا أولا: ثم سنستثمر في شعوبنا” متغافلين عن حقيقة، أن الاستثمار في البشر من أهم الاستثمارات؛ لتحقيق معدلات أعلي للنمو الاقتصادي.ولكنه يحرم أصحاب المصالح  والمتنفذين، وصناع القرار من جني الأرباح الضخمة نتيجة؛ الاستثمار في أعمال البنية التحتية، والتجارة والاستيراد وأعمال التشييد والبناء والقطاعات الخدمية الأخرى.
لقد استثمرت الحكومات طويلاً؛ لتحقيق النمو الاقتصادي عن طريق التركيز على رأس المال المادي، كالطرق والكباري والمطارات وغير ذلك من البنى التحتية. لكنها غالبا ما تستثمر بدرجة أقل في مواطنيها، حتى أن العالم اليوم يواجه “فجوة في رأس المال البشري”. وفي العديد من البلدان، وخاصة الفقيرة وضعيفة النمو، فإن القوى العاملة غير مستعدة للمستقبل الذي تتكشف لنا ملامحه سريعاً.
إن انعكاس المستوى التعليمي والمعرفي والصحي للبشر على الأوضاع الاقتصادية في بلد ما، وعلى الحالة الاجتماعية والثقافية ودرجة الوعي بتعقد المشكلات، وكيفية التعامل معها، تثبته حقائق التاريخ والجغرافيا، ويؤكده واقع الحياة اليومية في الوقت الراهن.

كيف نقيس عوائد الاستثمار في البشر:

لو أن هناك معادلة لحساب عوائد الاستثمار في البشر، بصورة علمية وبلغة النسب والأرقام، يجب أن تتضمن العناصر الآتية:
نسبة للتعلم، نسبة لزيادة المعارف، نسبة للقدرة على العطاء وقت أطول وبصورة أفضل، نسبة لاستيعاب التكنولوجيا الحديثة واستخدامها بكفاءة أعلى، نسبة لاختصار زمن العمل والجهد المطلوب للعملية الواحدة، نسبة لانعكاس الوعي والمعرفة على الذوق العام، نسبة لتربية أجيال جديدة اكثر وعي ومعرفة وأصحاء البنية، نسبة لزيادة الإنتاجية، نسبة للاستدامة، نسبة لدرجة التحضر العام للمجتمع وخفض الهدر، نسبة للاستخدام الرشيد للثروات وعوائد الإنتاج، ونسب أخرى كثيرة تشكل متوالية هندسية؛ لعوائد الاستثمار في البشر.
إن عوائد الاستثمار في البشر لا يمكن، وليس من الإنصاف قياسها بالمعادلات الحسابية البسيطة، رغم أنه حتى حسابها بتلك الطرق البسيطة، يعطي نتائج ومردود كبير بحساب تعظيم حجم ودور العنصر البشري، الذي هو قوة العمل، العنصر والمكون الأساسي في العمليات الإنتاجية، مهما تعددت أساليب العمل وأدواته، فسيظل العنصر البشري عنصرا حاسما ضمن مكونات أي عملية إنتاجية، وخاصة في البلدان التي تفتقر إلى الموارد المالية الكبيرة، والتي تعتمد على توفير احتياجاتها الأساسية في الوقت الراهن عن طريق الاستدانة، ورهن مستقبل البلاد.

أين تقع مسؤولية الدولة بالضبط من عملية الاستثمار في البشر؟

الدولة هي المسئول الأول عن الارتقاء باقتصاد البلاد، ومستوى معيشة ورفاهية شعبها، وفي هذا السياق تأتي مسئوليتها التي يمكن حصرها في ثلاث حزم رئيسية كالتالي:
حزمة الرؤى والسياسات: فالدولة مسؤولة مسؤلية كاملة عن حياة، وأمان واستقرار مواطنيها، عن حاضرهم ومستقبل أبنائهم، وذلك بالتخطيط وتطبيق السياسات التي من شأنها حفز، وتشجيع كل من يوجه استثماراته نحو التعليم والصحة، سياسات تعظم من قيمة العنصر البشري في العمليات الإنتاجية، سياسات تلزم أصحاب الأعمال بالتدريب وتنمية قدرات العاملين، سياسات تعطي حوافز ومكتسبات، وإعفاءات ضريبية لمن يوجه استثمارات في مجال التعليم الفني الراقي، …. إلخ وبهذا المعنى الدولة لا تقع عليها مسئولية تدبير الأموال المطلوبة؛ للإنفاق على الاستثمار في البشر بنفسها، وإنما تنحصر مسؤليتها المادية في الالتزام، بما ينص عليه دستور البلاد والقوانين المفعلة له بهذا الشأن، ووضع الخطط ورسم السياسات الموجهة؛ لحفز الاستثمار في البشر، بما يضاعف حجم استثماراتها الواردة في موازنتها العامة عدة مرات، وهي مسئولية كبيرة تعكس درجة اهتمام الدولة والمسئولين فيها بالمواطنين، وبمستقبلهم ورفاهيتهم.
حزمة الانفاق المباشر العام من ميزانية الدولة: وذلك بتوجيه الإ؟؟نفاق بنسب متزايدة تصاعديا كل عام على حساب، وخصما من نفقات عامة أخرى، مثل قطاع التشييد والبناء، وقطاع الطرق والكباري وغيرها من القطاعات الخدمية التي يمكن ضغط الإنفاق عليها، وتحقيق التوازن بين قطاعات الاقتصاد المختلفة حسب الأولوية والضرورة.
حزمة التشريعات والقوانين: التي تترجم السياسات التشجيعية للاستثمار في البشر مثل، إعفاءات ضريبية، قوانين ملزمة بتوفير الرعاية الصحية الشاملة للعاملين، قوانين ملزمة بالتدريب المستمر وتطوير قدرات العاملين، تسهيلات وإعفاءات لمن يستثمر في مجال التعليم والصحة العامة، … إلخ.
خلاصة القول، إن الاستثمار في البشر لم يعد مطلبا اجتماعيا؛ لتحسين أوضاع المواطنين الصحية، والتعليمية، وتوفير سبل الحياة الكريمة لهم وحسب، وإنما أصبح ضرورة تنموية أساسية لا غنى عنها في البلدان متوسطة وضعيفة النمو، ومصر واحدة من تلك البلدان، فإما التوجه فورا صوب تنمية قدراتنا البشرية، واتخاذ خطوات جادة، نحو  تغيير توجهاتنا الاقتصادية والمالية الحالية، بما يؤدي إلى تعظيم رأسمالنا البشري الذي يعد أهم عناصر قوى الإنتاج في العالم بسبب؛ التطور التكنولوجي وزيادة قيمة المعرفة، والقدرات البشرية على استخدام وتطويع التقنيات الحديثة، وأما الاستمرار في نفس السياسات الاقتصادية والمالية الحالية، وبالتالي تدهور قدراتنا الإنتاجية، والمزيد من اتساع الهوة بيننا وبين اللحاق بالأمم المتقدمة؟!!