قصة الحرب، لا تلخصها وقائع السلاح وحدها، إنها قصة جيل تصور نفسه على موعد مع القدر، قبل أن تداهمه الهزيمة العسكرية في يونيو (1967).

الجيل الموعود بثمار يوليو؟، كان هو نفسه الجيل الموجوع بالهزيمة.

لست سنوات كاملة، أخذ يستعد ليوم تحرير الأراضي المحتلة بقوة السلاح، قاتل في حرب الاستنزاف وتظاهر في الجامعات المصرية رافضا أية “حلول سلمية”، يؤجل باسمها قرار الحرب.

قبل حرب أكتوبر بعام واحد، صدرت بيانات دعم، وتأييد للحركة الطلابية التي اجتاحت الجامعات المصرية عام (1972)، التي بدت استئنافا لموجة الغضب الأولى عام (1968)، على الأسباب التي أفضت إلى الهزيمة.

لم تتخلف نقابة مهنية رئيسية واحدة عن تبني المطالب الطلابية في الدعوة لـ”حرب تحرير شاملة”.

وصف الرئيس “أنور السادات” محركي الانتفاضة الطلابية بـ”القلة المندسة”، التي تضلل “القاعدة السليمة”، وهو تعبير شاع على نطاق واسع في الخطاب الرسمي، واعتمد لسنوات طويلة عند أية أحداث مماثلة حتى استهلك تماما.

في العام التالي (١٩٧٣) تحركت انتفاضة طلابية جديدة تحت نفس المطالب: تهيئة الجبهة الداخلية للحرب وتوسيع المشاركة في صنع القرار ورفض أية مشروعات تسوية سياسية.

رغم أن أجيالا متعاقبة حملت السلاح داخل إطار المؤسسة العسكرية الوطنية ودخلت تجارب الحرب- أكثر من مرة أحيانا في عمر الجيل الواحد، إلا أن جيلا واحدا من بينهم جميعا يستحق أن يوصف بـ”جيل الحرب”.

الجيل يُقاس بالتجربة الفكرية والسياسية، والوجدانية والنظرة إلى الحياة والقيم الأساسية التي تحكم توجهاته، ومخيلته قبل أعداد السنين المسجلة على شهادات الميلاد.

باتساع مفهوم الجيل، كان هناك جناحان رئيسيان في قصة الحرب.

الأول: قاتل بفواتير الدم على الجبهة الأمامية، وضم خريجي الجامعات سنة بعد أخرى.

والثاني: دعا بفوائض الغضب في الجامعات المصرية إلى تعبئة الموارد العامة وراء المقاتلين، وانتقد الأداء الداخلي، الذي لا يتسق مع تضحيات الدماء.

في ذلك الوقت اكتسبت مسرحية “البعض يأكلونها والعة” شعبية كبيرة وسط الطلاب.

خاطبت غضبهم، وتبنت نظرتهم، حيث المفارقات فادحة بين جبهة القتال وأوضاع الداخل.

تندرج المسرحية تحت ما يسمى بـ”الكباريه السياسي”، مجموعة اسكتشات متعاقبة، تبرز حجم التناقض.

بين كل إسكتش، وآخر كانت تظهر في الخلفية صورة الفريق أول الشهيد “عبدالمنعم رياض”، وكان التصفيق مدويا في كل مرة.

في خنادق القتال، نضجت رؤى وأفكار وقيادات، وبرزت مواهب أدبية وفنية.

أفضل ما قيل في وصف بطولات أكتوبر، أن الإنسان المصري العادي هو بطل الحرب. غير أن بطل أكتوبر لم يكن- من ناحية تدقيق المعاني والألفاظ- إنسانا عاديا، بل جيلا كاملا صهرته تجربة القتال، وصاغت منه تجربة فريدة.

الفارق واضح بين نسبة النصر إلى الإنسان العادي المجرد، أو إلى صفات إيجابية مطلقة في الشخصية المصرية، وبين نسبته إلى جيل بعينه، وإلى وعي بعينه، وإلى بنى ثقافية وسياسية ونفسية بعينها.

إنه الفارق بين المطلق والتاريخ.

أغلب الذين قاتلوا في (١٩٧٣)، بعد ست سنوات في الخنادق، أو في معسكرات التدريب، أو في مهمات قتالية، أثناء حرب الاستنزاف، من خريجي الجامعات المصرية، الذين أتاحت مجانية التعليم الفرصة أمامهم؛ لاكتساب معارف العصر.

جيل الحرب هو نفسه جيل الثورة ومجانية التعليم والحق في الثروة الوطنية.

فرضت ضرورات تحديث القوات المسلحة في أعقاب الهزيمة، دفع جيل بأكمله من خريجي الجامعات إلى صفوف القتال، للتعامل مع أحدث التقنيات العسكرية في ذلك الوقت.

المأساوي في قصة هذا الجيل، أنه أرجأ طموحاته وحياته إلى ما بعد انتهاء الحرب، غير أنه عندما عاد من ميادين القتال، وجد أن ما قاتل من أجله قد تبدد، وأن عليه دفع ثمن سياسات الانفتاح الاقتصادي التي دشنت عام (١٩٧٤)، من مستقبله الاجتماعي والإنساني.

تردد وقتها في البيئة العامة تعبير: “الذين عبروا.. والذين هبروا”.

ثم أن يرى بعد سنوات قليلة من انتهاء الحرب سياسات التطبيع مع العدو الذي انتظر طويلا في الخنادق أن يواجهه.

لم تعد إسرائيل عدونا التاريخي.

“هذا كذب.. أنا لا أعرف من أنتم، ولا من أين أتيتم.. إن ما أعرفه جيدا أن هذا البيت بيتي، وأن واجهته خمسون مترا بالتمام، وإذا كنت لم أفكر في إعادة قياسه، منذ زمن بعيد، فذلك لثقتي بأن الأرض لا يمكن، أن تضمر بفعل الزمن”.

كانت تلك نبوءة مبكرة في منتصف السبعينيات، تضمنتها مسرحية “محمود دياب” “الغرباء لا يشربون القهوة”، عن حجم ما سوف يحدث من تجريف لأي معانٍ، حاربت من أجلها مصر.

لم يكن “السادات” قد زار الكنيست، ولا وقعت اتفاقية “كامب ديفيد”.

“إن الحب لا يقحم على قلوب الناس بزواج ملك من ملكة.. خذها حكمة من الزباء، ولا تنسها، أن أرضا ارتوت بالدم لا تنبت زهرة حب”.

لم يكن “محمود دياب”، يتنبأ بما قد يحدث من فراغ، حيث بدأت بعض المواقف، والكتابات تدعو إلى تسوية ما، تنهي الصراع الدامي، وتدين السياسات التحررية التي اتبعتها مصر في أوقات سابقة.

الحقيقة الرئيسية من يونيو إلى أكتوبر، أن مصر كلها- لا “جمال عبد الناصر” ولا “أنور السادات”- صاحبة قرار الحرب الذي اتخذته تحت ظلال الهزيمة يومي (٩) و(١٠) يونيو (١٩٦٧).

رمزت شخصية “عادل” طالب الثانوي في المسلسل التلفزيوني الطويل “القاهرة والناس”، الذي بدأ بثه في العام التالي للهزيمة إلى بداية نشأة الجيل الجديد، جيل الثورة وجيل الهزيمة وجيل الحرب.

كاد الممثل “نور الشريف” أن يتماهى مع شخصية “عادل”.

كلاهما شاب حول العشرينات، يعاني صدمة الهزيمة، ينتسب إلى ثورة يوليو، ويعلن أنه” ناصري”، دون تنازل عن حقه في نقد التجربة.

“نور” من أبناء أكثر الأحياء المصرية شعبية، وعراقة “السيدة زينب” من أسرة بسيطة، لم يتنكر لأصوله ولا ادعى غير حقيقته.

و”عادل” من أبناء “العباسية”، أحد أحياء الطبقة الوسطى في النصف الثاني من الستينات.

هناك فارق جوهري على المستوى الوجداني بين جيلين متعاقبين.

الذين عاشوا الحلم بعضهم، لم يستطع أن يتحمل وطأة انكساره.

كان “صلاح جاهين” مثالا تراجيديا، فقد أصيب باكتئاب حاد.

والذين اكتسبوا وعيهم السياسي بعد الهزيمة، رفضوها، ونقدوا أسبابها، ودفعوا فواتير الدم على جبهات القتال قبل أن يعودوا؛ ليجدوا ثمارها قد ذهبت لغير أصحابها.

في عام (١٩٦٨)، أعلنت أجيال ما بعد الهزيمة عن حضورها فوق مسارح التاريخ، تطلب المشاركة السياسية، تؤكد إرادة القتال، وتدعو إلى جبهة داخلية متماسكة، لا تفسح مجالا للصوص المال العام والمتسلقين على أكتاف السلطة.

كانت تلك شخصية “عادل” في المسلسل التلفزيوني.

لم تكن مصادفة أن أغلب الأعمال السينمائية، التي قدمت نقدا مباشرا لنتائج الانفتاح الاقتصادي، وإهدار تضحيات المقاتلين في حرب أكتوبر، تصدرها “نور الشريف”.

بقدر الموهبة الاستثنائية لـ”نجيب محفوظ” في التقاط الشخصية الدرامية من قلب التحولات الاجتماعية، بدا “زعتر النوري” في “أهل القمة” تمثيلا من لحم ودم لبداية “عصر اللصوص”.

بصورة أكثر تأثيرا، أدى “نور” دور “حسن سلطان” في “سواق الأتوبيس”.

كان ذلك الشريط السينمائي وثيقة إدانة بلغة فنية، لا ادعاء فيها، لعصر كامل، انقلبت فيه موازين القيم، وبدت الحالة الأخلاقية والاجتماعية في انكشاف غير مسبوق.

بالقرب من هذه المنطقة المهجورة، عرت أعمال سينمائية أخرى خيانة المثقفين، الذين تواطأوا على أية قيمة للعدل الاجتماعي مثل فيلم، “البحث عن سيد مرزوق”.

كان هو هذا الخائن “يوسف كمال”.

بالقدر نفسه، أدان ما بعد الحرب في “زمن حاتم زهران”.

ضاعت معاني التضحية بالدم على جبهات القتال، وانتصر الزاحفون بسطوة المال.

فيلم “كتيبة الإعدام” من تأليف” أسامة أنور عكاشة”، تعبير مباشر عن زواج الرأسمال الطفيلي مع خيانة دم الشهداء.

وفيلم “ناجي العلي”، الذي جلب حملة صحفية غير منصفة، وغير أخلاقية، فرضت ما يشبه الحصار الكامل على أعماله ترجمة فنية لعمق التزامه بالقضية الفلسطينية.

بالتعبير الفني، فإن التناقض وصل مداه.

وبالتعبير التاريخي، فقد ولد جيل جديد من قلب تجربة الحرب، والانقلاب على مشروع “جمال عبد الناصر”.

شابت تجربة جيل السبعينيات، مرارات لا شك في عمقها الوجداني، لكنها لم تكسر إرادته.

أحيانا بعض الهزائم أشرف من بعض الانتصارات.