فتحت دعوة الرئيس عبد الفتاح السيسي للحوار الوطني، بين القوي السياسية والنظام، النقاش حول مستقبل النظام السياسي، البعض اعتبر الدعوة بابا للأمل، والخروج من أزمة سياسية واقتصادية محتدمة، بينما شكك البعض، في أن تساهم الدعوة في فتح المجال السياسي، واعتبروها مجرد ذر للرماد تخاطب المجتمع الدولي.

تأخر انطلاق الحوار الوطني لمدة عام، حيث انطلقت الدعوة في إبريل 2022، وبدأت فعاليات وجلسات الحوار مايو 2023، وعلقت جلسات الحوار مع بداية الاستعداد لانتخابات الرئاسة، وقبلها غرق الحوار في التفاصيل، عشرات اللجان، آلاف المشاركين، مئات الأطراف المشاركة، وترك  المشهد تساؤلات حول مصير التوصيات التي أقرها مجلس أمناء الحوار.

يطرح ذلك تساؤلاً هامًا حول شكل النظام السياسي في أعقاب انتهاء الانتخابات، التي يبدو فيها فوز السيسي شبه أكيد، وإن كان النظام سيسعى إلى الانفتاح -ولو قليلاً- وتوسيع بنية تحالفات الحكم؛ خوفًا من “انفجار شعبي عفوي”، أم سيتجه نحو الإبقاء على محدودية تحالفاته – التي تلعب فيها المؤسسة العسكرية دورًا مركزيًا- مع تشديد القبضة الأمنية، وتكميم أي أصوات ناقدة.

محورية المسار الاقتصادي

تشير مارينا أوتاوي، كبيرة الباحثين في شؤون الشرق الأوسط بمعهد ويلسون التابع للكونجرس الأمريكي، إلى أنه ليس أمام الرئيس الحالي خيار سوى الاستمرار في الاعتماد على المؤسسة العسكرية.

وتقول الباحثة، التي تركز أعمالها على مسألة تشكُّل الأنظمة السياسية وتحوّلها، لـ”مصر 360″، إنه ربما تكون هناك محاولات لإعطاء الانطباع بوجود انفتاح، كما حدث في الحوار الوطني، “لكن جوهر النظام لن يتغير”.

في هذا السياق، يلعب المسار الاقتصادي دورًا محوريًا فيما هو متوقع بعد الانتخابات، بحسب هشام سلام، زميل مركز الديمقراطية والتنمية وسيادة القانون في جامعة ستانفورد الأمريكية.

“المسار الاقتصادي الذي يحافظ على الدور المهيمن للمؤسسة العسكرية في القطاعات المدنية مع تقويض الحقوق الاجتماعية والاقتصادية القائمة منذ فترة طويلة هو مسار يعتمد على استمرار القمع واستمرار إغلاق المجال السياسي”، يقول سلام.

ويوضح لـ”مصر 360”: “بعبارة أخرى، إذا نجحت سياسات السيسي الاقتصادية في تحقيق المزيد من نفس الشيء (خفض الدعم، وارتفاع الأسعار، والمشاريع الضخمة الباهظة التي يقودها الجيش)، فإن التحرر السياسي على غرار عهد الرئيس السابق حسني مبارك، سيكون غير وارد، لأن مثل هذه السياسات الاقتصادية الإقصائية، وما يترتب عليها من آثار وتكاليف اجتماعية، تتطلب إغلاق قنوات المعارضة”.

لكن شهيرة أمين، الزميلة الباحثة في “المجلس الأطلنطي” ومقره واشنطن، تعتقد أنه إذا بدأ الرئيس السيسي فترة ولاية ثالثة جديدة، كما هو متوقع، فقد يكون هناك انفتاح طفيف في المجال العام: “فمن الواضح أن هناك استياءً شعبيًا متزايدًا من الوضع الحالي. لا سيما مع هيمنة الجيش على الاقتصاد، الأمر الذي ترك القطاع الخاص في حالة من العزلة. ويدرك السيسي ذلك جيدًا، حيث تزايدت انتقادات الدور المتزايد للجيش في الاقتصاد في الأشهر الأخيرة”.

وتشير الصحفية المصرية إلى أن هناك “قلقًا متزايدًا بين مستشاري السيسي ودوائر المخابرات” من أن الوضع متفجر، وأنه إذا استمرت الأمور على ما هي عليه، فقد يكون هناك انفجار كبير بلا فائزين وخسائر من جميع الأطراف.ولهذا السبب بالتحديد، كنا نسمع تصريحات الرئيس مؤخرًا بأن “الباب مفتوح أمام القطاع الخاص للمشاركة مع الدولة في المشاريع الوطنية”، أو وعود بطرح أسهم الشركات التابعة للجيش في البورصة.

هل يعود رجال مبارك؟

تقول أمين لـ”مصر 360″ إنه في حين أن القوات المسلحة قد تكون بالفعل مستعدة وراغبة في إقامة تحالفات مع القطاع الخاص، إلا أن “الجيش سيكون انتقائيًا” في اختيار من سيشارك معه، ومن المرجح أن يُفضّل رجال الأعمال الذين تمت تجربتهم واختبارهم من عهد حسني مبارك.

وفي يوليو/ تموز الماضي، وضمن برنامج بيع الأصول الحكومية ذهب نحو نصفها لرجال أعمال مقربين من نظام مبارك، حيث تم بيع حصة 37% في 7 فنادق إلى شركة “أيكون” للاستثمارات، التابعة لرجل الأعمال هشام طلعت مصطفى مع شريك أجنبي، عبر زيادة رأس المال.

إضافة إلى بيع حصة تمثل 31% من شركة “عز الدخيلة” بقيمة 241 مليون دولار والتي يملكها رجل الأعمال أحمد عز، أمين لجنة السياسات بالحزب الوطني سابقًا، والذي اشترى هو نفسه هذه الحصة.

يرى سلام، أستاذ العلوم السياسية بجامعة ستانفورد، أن الخطوات القانونية التي تم اتخاذها مؤخرًا لتبرئة اسم طلعت مصطفى من تهم القتل- التي أُدين بها وحُكم عليه في عام 2008- ربما تكون مرتبطة بجهود النظام “لاسترضاء أمثال مصطفى بالنظر إلى الدور الذي يلعبونه الآن. ويقتطعون لأنفسهم جزءًا في خطط الإصلاح الاقتصادي التي ترعاها الدولة”.

لكن ذلك يطرح مزيدًا من التساؤلات، مثل: هل سيستمر هذا الدور في النمو، وهل سيترك بصمة على السياسة؟ وهل سيسمح السيسي بدور سياسي أكبر للمصالح التجارية والعائلات السياسية المرتبطة بنظام مبارك بينما يعمل على إقامة شراكات أعمق مع رأس المال الخاص؟ “كل هذه أسئلة مفتوحة يجب البحث عنها في أعقاب الانتخابات المرتقبة”، بحسب سلام.

تظن شهيرة أمين أنه من المرجح أن ترغب القوات المسلحة في الاستمرار في إدارة المشاريع بنفسها بدلاً من تسليم الإدارة إلى أعضاء القطاع الخاص، وذلك لأن الجيش “ليس لديه ثقة كبيرة في قدرة المدنيين أو أي شخص خارج المؤسسة العسكرية على إدارة المشاريع”.

“في تقديري الشخصي من الصعب عودة طبقة رجال أعمال مبارك للسياسة، لا أراه اتجاهًا ممنهجًا وسياسةً واضحةً، فهي تبدو أقرب لاستجابة آنية لظروف تطلبت دخلا دولاريا ضخما. مثلاً حزب مستقبل وطن الذي يضم شخصيات كثيرة من الحزب الوطني لا يتولى سوى وزارة واحدة هي وزارة التجارة والصناعة (الوزير أحمد سمير كان نائبًا في مجلس الشعب عن حزب مستقبل وطن). ورغم تواجدهم في البرلمان فهم غير مسؤولين عن إدارة أي سياسات”، يقول المحلل السياسي ماجد مندور.

ويضيف -في حديثه مع “مصر 360- أنه رغم قدرة رجال أعمال مبارك مثل أحمد عز وهشام طعت مصطفى على جلب موارد دولارية إما عبر شركاء أجانب أو قروض خارجية إلا أن الموارد الدولارية المطلوبة ضخمة ولن تكون هناك قدرة لهما أو لأمثالهما على توفير هذا الحجم الضخم.

وتبلغ الاحتياجات المصرية من التمويل الخارجي في السنة المالية الحالية والمقبلة ما لا يقل عن 41.5 مليار دولار أمريكي، من دون احتساب 14 مليار دولار أمريكي هي قيمة الديون للحلفاء الخليجيين.

“هذه الطبقة كلها على بعضها غير قادرة على المساعدة في ظل الحجم المهول من الاحتياجات الدولارية”، بتعبير مندور، الذي تركز أبحاثه على القمع الحكومي والتنمية الرأسمالية في العالم العربي.

وطبقًا للباحث، تقول المؤشرات إن هناك المزيد من “العسكرة الاقتصادية” مثل استحواذ جهاز الخدمة الوطنية على نسب من شركتي “بشاي للصلب” و”طاقة عربية”، واجتماع الرئيس مع لواءات الجيش من أجل تعميق التصنيع المحلي، بالإضافة إلى قانون الإعفاءات الضريبية الذي صدر مؤخرًا واستثنى المؤسسات العسكرية.

“إذا كانت دول الخليج بثقلها قالت كفاية لمشاركة الجيش في الحياة الاقتصادية، ورغم ذلك لم تتم الاستجابة لهم رغم أنهم منحوا مصر أكثر من 100 مليار دولار على مدار عقد من الزمان. هذا يعني أن توازن القوى داخل النظام يشير إلى حكم عسكري مباشر”، يقول مندور الذي ينشر تحليلات بشكل دوري في مركز “كارنيجي الشرق الأوسط”.

غياب حزب مثل “الحزب الوطني” يُصعّب الانفتاح

ليس من السهل أبدًا إحداث التغيير داخل بنية النظام، بحسب أمين الباحثة في المجلس الأطلنطي، فالنظام الحالي قائم منذ ما يقرب من عقد من الزمن، ومن المرجح أن تكون “هناك مقاومة قوية من داخل المؤسسة العسكرية نفسها للقيام بالأشياء بشكل مختلف. وسيقع العبء على عاتق السيسي نفسه لإقناع القوات المسلحة بأن التغيير ضروري لتجنب عدم الاستقرار”.

لقد رأينا مؤخرًا أن مقابل كل خطوتين إلى الأمام، هناك خطوة إلى الوراء. على سبيل المثال، عندما تم العفو عن بعض المعتقلين السياسيين، أعقبت هذه الخطوة موجة جديدة من الاعتقالات والاحتجاز للمعارضين السياسيين.

لذلك، تقول أمين إنه حتى لو كانت هناك رغبة حقيقية في التغيير، فإن “القيادة الحالية غير متأكدة من كيفية القيام بذلك وليست مستعدة دائمًا للثقة في الأصوات من خارج دائرتها الداخلية”.

لكن مندور يعتبر أن المشكلة الحقيقية والهيكلية هي “عدم امتلاك النظام حزب مدني حاكم مثل الحزب الوطني الذي كان منتشرًا في ربوع المحروسة، وبالتالي ليس لديه أي قوة مدنية يمكن استخدامها بشكل يوازن المؤسسات الأمنية والعسكرية، ومعنى هذا أنه حتى لو أراد الرئيس الموازنة وتوسيع التحالفات فلن يكون ذلك سهلاً”.

“هناك فكرة بأن للرئيس مطلق القوة والقدرة على فعل أي شيء، وفي تقديري هذا غير واقعي تمامًا لأن هناك توازنات داخل النظام من الصعب تغييرها، فحتى لو أراد توسيع التحالفات يتطلب ذلك بناء حزب مدني حقيقي، وهو موضوع لن يحدث بين يوم وليلة، ومُعقّد ويحتاج إلى سنين لتطبيقه”، يلفت مندور.

كذلك لا توجد دلائل على موافقة المؤسسة العسكرية على ذلك -والحديث لا يزال لمندور- لذا فالاتجاه الأقرب حاليًا هو “المزيد من العسكرة وليس أقل، وهو ما يدلل عليه ما نراه من عسكرة الوظائف المدنية مثل خضوع المعلمين وموظفي النقل وأئمة الأوقاف وغيره، لدورات عسكرية. ومن الواضح أن هذا نهج منتظم في جميع الوظائف الحكومية”.

وحول إن كان مسار التفاوض مع المؤسسة العسكرية يُمكن أن يُفضي إلى انتقال سلمي وتداول للسلطة، يعتقد مندور أن ذلك غير واقعي “نحن نتحدث الآن عن شبكة أصحاب مصالح متجذرة ومن الصعب تفكيكها. يجب النظر بجدية إلى هيكل النظام الذي يحتاج لعقود ربما من أجل التعامل معه وتفكيكه، وربما لن يتم ذلك دون وجود ضغط شعبي مستمر ومتواصل”.

لكن الضغط الشعبي المستمر والمتواصل يظل صعبًا كذلك، في رأي المحلل السياسي، مع غياب قوى سياسية منظمة ذات بُعد شعبي عميق تطرح فكرًا واضحًا ذو شعبية.

“التفاوض كان هو المسار المطروح مع المؤسسة العسكرية عام 2011 حينما لم تكن مطالب الناس راديكالية، فقط انتخابات حرة مع إمكانية احتفاظ الجيش بامتيازاته. لكن الآن بات خيار التفاوض صعب جدًا في ظل ما ارتُكب من مساوئ ومظالم منذ ذلك الحين، وما حدث من احتقان مجتمعي”، يشير الباحث.

“المكابح الداخلية” تُعطّل أي تغيير

“يمكننا أن نقول بكل ثقة أن مصر هي الجيش، والجيش هو مصر. وهذا بيان صحيح، يستند إلى عوامل تاريخية وثقافية منذ 1952 فكل (أو معظم) رؤساء الجمهورية، أي من عبد الناصر فصاعدًا، انتموا إلى القوات المسلحة”، يقول جوسيبي دينتشي، رئيس قسم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في المركز الدولي للدراسات في روما.

ويشير إلى أن هناك اعترافا منصوصا عليه أيضًا في التعديلات الدستورية لعام 2019، والذي يتعامل مع القوات المسلحة باعتبارها الوصي والضامن للهوية الوطنية.

يتابع المحلل السياسي الإيطالي “على الرغم من أن الجيش هو لاعب مركزي في الحياة السياسية والمدنية المصرية، إلا أنه كانت هناك منذ فترة طويلة إرادة لدى القوى المدنية للمطالبة بتقليص حجم مشاركة الجيش، الذي يجسّده ويرعاه الرئيس السيسي بطريقة ما. ومع ذلك، فإن السيسي على وجه التحديد هو الضامن للنظام القائم، ومعه شهدت القوات المسلحة تطورًا شاملاً في حياة البلاد باعتبارها جهة فاعلة مدنية واقتصادية مهيمنة”.

ويوضح لـ”مصر 360″: “لقد تم اختيار السيسي للحفاظ على هذه الهيمنة، وحتى لو أراد تغيير شيء ما، فسيكون لديه مكابح داخلية في الجيش لمنع ذلك”.

لذا، في ظل الوضع الحالي، الأرجح أن يتمسك الرئيس بمنع حدوث اختلالات جديدة في مسألة توازنات الحكم بحيث لا تؤدي إلى تقليص سلطاته، وفق تعبير دينتشي، الذي يذهب إلى أنه “على المدى الطويل قد يؤدي ذلك في الواقع إلى صراع شرس على السلطة لن يفيد البلاد بالتأكيد”.

تقول شهيرة أمين إننا وصلنا إلى نقطة إذا أصرت فيها القيادة على الحفاظ على الوضع الراهن ومقاومة التغيير، فسيُفرض عليها التغيير لاحقًا لأن الوضع الحالي غير قابل للاستمرار. لذا، يجب أن يكون هناك قدر أكبر من الانفتاح وتسامح أكبر مع الأصوات الناقدة. والأهم من ذلك كله، صحافة حرة تحاسب جميع الأطراف.