توزعت سبل المعارضين في تقييم مدى تأثير الانتخابات الرئاسية المزمع بدء التصويت بها – ديسمبر المقبل ٢٠٢٣- على مستقبل النظام السياسي، وسؤال التغيير في مصر الذي لا يزال مطروحا من يناير ٢٠١١، حتى الآن، وعجز الجميع – الدولة والنخب- عن تقديم إجابة له.
رأى البعض، أن المشاركة فيها من حيث المبدأ إضفاء الشرعية على نظام فاقد لكثير منها. يستند هذا الرأي إلى طبيعة النظام التسلطية، وخبرة الانتخابات السابقة جميعا التي أجراها. يعتقد أصحاب هذا الرأي، أن الشرعية قد تآكلت داخليا وخارجيا، إلا إنهم لا يتركونا أمام خطة عمل واضحة، لكيف سيحدث التغيير أو استرداد ولو محدود للسياسة.
رأي آخر، قرر القبول بالمشاركة. هو اتخذ قراره ليس مع الانتخابات الرئاسية؛ ولكن من قبل، حين قبل النزول على القائمة التي أعدتها أجهزة النظام في الانتخابات التشريعية ٢٠٢٠. هو يبحث عن حد أدنى من الضمانات التي تبرر له أمام أعضائه، ومناصريه المشاركة في الانتخابات. هو إذ يشارك يضمن لحزبه موضعا في الخريطة السياسية التي يجري هندستها، فيما بعد الانتخابات. متحمس للمشاركة، دون أن يقدم لنا قراءة نقدية عن: ١- تجربة المشاركة التي استمرت ثلاث سنوات- هي عمر المجالس التشريعية، ٢-مشاركته في الحوار الوطني.
هناك طرف ثالث، يعي أن المشاركة جزء من مارثون طويل، وليس سباقا لمائة متر؛ الانتخابات الرئاسية بدايته، ولكن نتائجها ليست نهايته. مقصد هذا المارثون، وهدفه هو الظفر بدولة ديموقراطية مدنية حديثة، لكن نقطة البداية فيه هو استرداد، أو إحياء السياسة بعد تموينها؛ لعقد من السنين علي يد الجمهورية الجديدة. في موت السياسة -كما يرون- خطر علي الدولة، كما هو تهديد للمصريين جميعا، وفيه تهديد وجودي لمؤسسات الدولة ولجموع المصريين.
استطعت في مقالاتي على موقع مصر ٣٦٠
أن أطور منظورا، يمكن من خلاله تقييم هذه الانتخابات. بدأت بتأثيرها على التحديات الأساسية التي نواجهها الآن، أو بما أطلقت عليه أسئلة اليوم التالي، ويأتي في مقدمتها: هل سيكون المصريون أفضل حالا بعدها بغض النظر عمن يجلس في كرسي الحكم. تقدمت خطوة؛ لأرصد رسائل الانتخابات للنظام السياسي، والتي كانت أهمها هي قدرته على تغيير سياسة، ثبت فشلها. المقال الثالث، خصصته لتأثير هذه الانتخابات على هيكلة المجال السياسي. أخيرا كانت مقالتي الرابعة، حول ما الذي نتوقعه من المعارضة في هذه الانتخابات، وذلك من ثلاث زوايا: امتلاك سردية بديلة لسردية النظام، صرف جزء من الغضب الشعبي نحو الضغط على الدولة؛ للسير في إصلاح متدرج، وثالثا: بناء أو استعادة، ولو جزئية للمجال السياسي.
استعادة ولو جزئية للسياسة، كانت أحد المعايير الأساسية في تقييمي للمرشحين المحسوبين على المعارضة، وليست مسألة الفوز في الانتخابات. الفوز محسوم لسيادة الرئيس؛ فلم يحدث في مصر المعاصرة، أن كانت الانتخابات سبيلا؛ لتغيير رأس النظام.
استعادة السياسة لبر مصر عملية مركبة، تستدعي فهما أعمق؛ لكيفية تموينها بعد ثورة يناير، كما تتطلب إدراكًا؛ لمسارات الإحياء وطرقه وأدواته، كما تظهرها هذه الانتخابات.
في هذا المقال، نتعرض للتمويت، وإن قدر الله في التالي نتعرض للإحياء. وسبحان الله الذي خلق الموت والحياة؛ ليبلونا أينا أحسن عملا.
موت السياسة في الجمهورية الجديدة
اتخذ ذلك مسارات عشرة، لكن الأهم هو أن هذه المسارات، لا تزال تستخدم؛ لتعويم الرئيس في الانتخابات الجارية. استمرار هذه المسارات، يجعل من معركة الرئاسة الحالية صراع بين مشروعين: أحدهما فيه موت للسياسة أو إماتة، والثاني محاولة لإحيائها.
١- عدم مسئولية النظام، عما وصل إليه المصريون من فقر مدقع، يصل إلى الجوع، بالإضافة إلى المهددات الوجودية على المستوي الخارجي|، كما يظهر في سد النهضة .. ورد ذلك إلى أسباب داخلية مثل، الزيادة السكانية وثورة يناير، وعوامل خارجية مثل، الحرب الأوكرانية ووباء كورونا، أو مؤمرات أهل الشر.
السياسات المطبقة في هذا التصور، ليست محل مساءلة أو مراجعة أو قابلة للتغيير، ولن يتم البحث عن العوامل الهيكلية التي أنتجتها؛ فالإجابات جاهزة، ويمكن تبرير القرارات كافة من المنوريل إلى تدريب البيروقراطية في الأكاديمية العسكرية.
٢- هندسة المجال السياسي بإنتاج برلمانات، ومعارضة وعمل أهلي وإعلام …بالأجهزة التي يطلق عليها سيادية. الكل يعمل وفق رؤيتها، له مسار محدد لا يخرج عنه، وإن شذ فهو في النار- نار السجن أو الطرد من الخدمة.
أنتج هذا، ما يمكن أن نطلق عليه، “كأن”: كأن فيه برلمان، وكأن فيه إعلام، وكأن فيه معارضة …
٣- الاستقطاب الذي تمحور حول الإخوان أولًا، واستمر بهم وعليهم، لكنه امتد لكل جوانب الحياة المصرية: استقطاب حول يناير و٣٠ يونيو، حول القطاع الخاص ودور الجيش في الاقتصاد، والطلاق الشفوي وقانون الأحوال الشخصية، وشيخ الأزهر وخطابه … جرى تغذية الاستقطاب من كل الجهات، وحول جل الموضوعات، ولم يخرج أحد أو فكرة أو موضوع سالما.
مع تصاعد الاستقطاب؛ فقد المصريون الثقة في أنفسهم ورموزهم وطريقة التفكير في موضوعاتهم، في وقت يشهد الإقليم والعالم والمجتمع تطورات، يحكمها منطق عدم اليقين، بما يستدعي تحقيق حد أدنى من التوافقات، وتطوير خطابات، وسياسات جديدة للتعامل معها.
٤- ليس في مصر غير الرئيس؛ فهو الذي يتحدث، وهو الذي يتصدي للإشاعات، وهو الذي يقر السياسات، وهو الذي يتخذ القرارات، وهو الذي يحدد أولويات الإنفاق العام، وهو الذي يراقب ويحاسب ويقيم. تبدأ المؤسسات عنده، وتنتهي به، هو الوحيد المستمر في منصبه، والكل في مؤسسات الدولة زائل؛ يتغير ويتبدل بقراره.
هذه الصيغة أضعفت المؤسسات، وجعلت الجدل العام، يدور حول الرئيس فقط، وانتفى معه تقييم أداء المؤسسات الأخرى، ومساءلتها وفق قواعد الحوكمة الرشيدة، كما انتفت الشفافية الواجبة؛ لعمل هذه المؤسسات.
٥- الحشد والتعبئة لجموع المصريين بحجة الحفاظ على الدولة، وبإثارة مخاوفهم بالتفزيع والتخويف من مصير الفوضى، وعدم الاستقرار.
الدولة في هذا التصور فوق الطبقات، والخلافات الأيديولوجية والسياسية والفروق، أو اللامساواة المناطقية والجغرافية، لذا فلا حديث عن تأثير السياسات المطبقة على الفئات الاجتماعية المختلفة. فوجئت الدولة بحراك ٢٠١٩ الذي كان في تقديري بداية استرداد السياسة في مصر. بدا عفويا غير متوقع، لم تكن وراءه تنظيمات ولا أحزاب، عماده المهمشون خارج القاهرة. تكرر في ٢٠٢٠، وأطلق عليه انتفاضة أصحاب الجلاليب.
أعادت هذه الأحداث، طرح المسألة الاجتماعية في مصر مرة أخرى؛ برغم سعي نظام ما بعد ٢٠١٣، إلى مصادرتها بخطاب وطني يعلي من قيمة مصر، باعتبارها كيانا مصمتا فوق الجميع، ولا ينعكس فيه مصالح الفئات الاجتماعية المختلفة.
دشنت في هذه المرحلة “عقيدة الأمن القومي” التي تتمحور حول الخوف من عدم الاستقرار، والفوضى والتفزيع من مصير بلدان في المنطقة، انزلقت إلى الحرب الأهلية. امتزجت هذه الخطابات بمقولات غيبية، تجعل يد الله حاضرة دائما، ولكنه حضور يصادر الفعل البشري، ولا يجعله مسئولا عن نتائج أفعاله.
إن انتزاع التسييس، يعني تهدئة وإنكار وقمع الاختلافات السياسية والاجتماعية/الاقتصادية، وإغلاق المساحات للتعبير عن الخلاف والاحتفال به.
٦- مبادرات لا تنتهي، لا لشيء، وإنما غرضها استهلاك الوقت على رغم ما يبدو عند إطلاقها من بريق.
لم يكن الحوار الوطني آخرها. في الأخير؛ أصبح حوارا بلا نتائج على الرغم، من أنه استغرق عاما لانعقاده، وعاما آخر لمداولاته.
في الربع الأخير من عام ٢٠٢١- سبتمبر تحديدا- صدرت الاستراتيجية الوطنية لحقوق الانسان، وفي أعقابها، تم مباشرة اعتبار عام ٢٠٢٢ عاما للمجتمع المدني في مصر، ثم كان إعلان الرئيس السيسي في إبريل من نفس العام عن الدعوة لحوار سياسي، ينظر في أولويات العمل الوطني في المرحلة الراهنة. صاحب إعلان الحوار السياسي إعادة تشكيل لجنة للعفو الرئاسي، وهي لجنة تكونت؛ لتقديم أسماء من المعتقلين السياسيين؛ لتنظر الأجهزة الأمنية في إطلاق سراحهم.
لم ينته العام حتى جرت الدعوة للمؤتمر الاقتصادي -عقد في أكتوبر-؛ لمناقشة أولويات الإنفاق العام، ومراجعة السياسات الاقتصادية المطبقة على مدار السنوات الثماني الماضية. سبق المؤتمر دعوة الحكومة؛ لحوار حول وثيقة سياسة ملكية الدولة، وهي وثيقة تعيد رسم دور الدولة في الاقتصاد، بما يسمح للقطاع الخاص، أن يحتل وزنا أكبر في الاقتصاد المصري.
ما أنتج هذه المبادرات جميعا، ليس استراتيجية واضحة؛ وإنما إجراءات لا رابط بينها، تتعامل مع سياق مأزوم وبالقطعة: ضغط دولي نعلن استراتيجية حقوق الإنسان. الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، يقتضي تدشين سياسة ملكية الدولة. أزمة اقتصادية نشرع في الحوار الاقتصادي … وهكذا مبادرات غرضها الإشغال، ويحكمها منطق “اضحك تطلع الصورة حلوة”. هي تنجح في تحقيق غرضها المباشر التقاط الصورة؛ لكنها لا تقدم فيلما محكم السيناريو، والحوار يمكن أن تستمتع بالفرجة عليه.
٧- جعل تكلفة ممارسة أي شكل من أشكال السياسة، ولو حتى بوست على السوشيال ميديا باهظا. ربما يفسر لنا، لماذا حافظ النظام بشكل دائم ومستمر على سياساته في القبض على المعارضين، واستمرار حبسهم لسنوات طويلة، وعدم التسامح مع أي خروج على النص المكتوب.
٨- إضعاف المؤسسات الوسيطة -كالنقابات العمالية والمهنية- التي كان يمكن أن تصرف الطلب على السياسة، نحو قنوات مفيدة للدولة والمجتمع. أما الأحزاب السياسية؛ فهي لا تتمتع بالثقة ومشكوك في أمرها لدرجة تصل إلى الازدراء.
٩- جمهورية الجدل، وفيها يتم احتدام الجدل حول كل الموضوعات والقضايا -دينية وسياسية واجتماعية … دون تأثير حقيقي على السياسات العامة المطبقة، ولا القرارات المتخذة، ولا القوانين المقرة. بالطبع هذا يعكس ضعف الهياكل السياسية، وقدرتها على تحويل الجدل إلى تأثير على السياسات، لكنه- أيضا- استخدم للتغطية على موضوعات أخرى، كما وظف في خلق مزيد من الاستقطاب.
وهنا يحسن، أن نشير، أن جزءا معتبرا من الخطاب الرسمي يستهدف نزع السياسة من خلال شجب، أي أصوات بديلة أو مختلفة، باعتبارها غير عقلانية أو غير أخلاقية أو غير مسؤولة أو حتى إرهابية، لأنها تتحدى الفهم الواجب للدولة وطريقة عملها، والإجماع المهيمن وحقائقه الموضوعية المفترضة.
- ١٠- غياب السياسات المحلية. ليس مظهرها الوحيد هو عدم إجراء الانتخابات المحلية بعد حل مجالسها في ٢٠١١ فقط؛ ولكن أيضا غياب، وتآكل الشبكات المحلية التي تتحرك من خلالها مطالب المواطنين في القرى والمدن الصغرى.
- القائد لا يحتاج وسطاء، فهو يخاطب الجمهور مباشرة.
إماتة السياسة، لا تعني أنه لا توجد عمليات مضادة؛ لاختراعها بما يخلق قابليات متعددة للفعل السياسي. السياسة المستردة؛ إن لم يؤد تصريفها عبر قنوات شرعية كثيرة؛ فإن المجتمع والدولة سيكونان في مأزق كبير، خاصة أن الغاطس من تفاعلات المجتمع أكثر من المعلوم، وعدم اليقين الاستراتيجي أكبر من التخطيط، والتقلبات الجيواستراتيجية في الإقليم، والعالم أعظم من قدرة المؤسسات، وصانعي القرار علي التكيف معها.
لكن كيف يجري إحياء السياسة في الانتخابات الرئاسية؟ هذا ما سأصرف الجهد لبيانه في المقال القادم.