تمتعت مصر تاريخيا بمكانة ونفوذ في منطقة الشرق الأوسط، ولكن المتابع للمعمار الأمني الجديد، يرى صعود أطراف جديدة في المنطقة، حيث حضور الخليج قويا (سعوديا خصوصا) في خريطة الأحداث الإقليمية.
وغابت القاهرة عن الساحة الإقليمية، وملفات الصراع الخليجي الإيراني وحرب اليمن، ولم يكن بروز دور السعودية والإمارات بالأمر المفاجئ ضمن السياقين، السياسي والأمني، والتحولات العالمية والإقليمية، هذا بجانب عوامل داخلية في مصر والخليج.
أمن مصري.. أموال خليجية
عقب سقوط جماعة الإخوان، قدمت السعودية والإمارات مساعدات مالية ضخمة لدعم الاقتصاد المصري، لكن لا توجد أرقام رسمية حولها، لكن بحسب مصدر بالبنك المركزي المصري تحدث لجريدة كويتية في 2019، وصل الدعم نحو 92 مليار دولار، وعقب غزو روسيا لأوكرانيا، تكرر الأمر، تعهدت السعودية والإمارات وقطر، بتقديم دعم مالي بقيمة 22 مليار دولار، يتضمن استثمارات وودائع وشراء أصول، واستهدفت المساعدات الحد من تداعيات اقتصادية خلفتها الحرب في أوكرانيا، بما في ذلك التأثير على عوائد السياحة والاستثمار، بجانب تهديد إمدادات القمح.
يرتبط الدعم المقدم لمصر خليجيا بمعادلة، تربط بين الأمن والمساعدات. يلاحظ محمد عبد العزيز، بأن هناك منفعة متبادلة في العلاقة بين مصر والخليج، فبينما مصر تحصل على المساعدات المالية، ترى دول الخليج أن القوةالعسكرية لمصر تمثل ضامنا للاستقرار والأمن في المنطقة، بالإضافة إلى أن هذه الدول ترى أن عدم استقرار مصر، أو وصول قوى مثل، جماعة الإخوان للسلطة، سيشكل خطرا وجوديا على أمن الخليج.
وتتشارك باربرا أزولا بيازا في أن توافق المصالح بين السعودية ومصر بني على حاجه مصر؛ للدعم المادي من ناحية، ورغبة الخليج بالقضاء على الإخوان بالإضافة إلى التأثير الإيراني من ناحية أخرى، مما عزز العلاقات بين مصر والسعودية، ولكن هذا لم يمنع من وجود خلافات بينهما، ترتبط بعدم تقديم مصر الضمانات الأمنية للخليج التي كانت تتوقعها الرياض في مواجهة نفوذ إيران، وهذا ما ظهر في اليمن وسوريا.
ليست مشاكل عابرة
على الرغم، أن مصر اتفقت مع السعودية والإمارات على عدة أمور منها، وقف مد الربيع العربي، ومواجهة جماعة الإخوان، والجماعات الإسلامية في المنطقة، ولكن ظهرت خلافات عميقة بينهم أيضا، ولم تكن عابرة.
كانت حرب اليمن من أوائل محطات الخلاف الرئيسية، أعلنت مصر مشاركتها بالتحالف الذي تقوده السعودية، ولكن مشاركة القاهرة ظلت في جوهرها رمزية، حيث لم تشارك عسكريا؛ لمحاربة الحوثيين، و اكتفت فقط بوضع سفن حربية؛ لتأمين مضيق باب المندب الذي له أهمية استراتيجية بالنسبة لأمنها، والملاحة في قناة السويس.
هذا العزوف عن التورط العسكري في اليمن، أدى إلى انزعاج دول الخليج، وخاصة الرياض.
لم تشارك مصر دول الخليج موقفها العدائي تجاه نظام بشار الأسد، خلال بدايات الأزمة السورية. وقفت مصر على الجانب الروسي، ولم تحبذ سقوط نظام بشار؛ خوفا من خطر الجماعات الإسلامية. كما صوتت لصالح مشروع روسي في الأمم المتحدة بشان، سوريا مما أثار غضب الخليج، وعبر مسئولون سعوديون عن استيائهم، وأوقفت الرياض وقتها شحنات نفط لمصر.
ظهرت خلافات بين الإمارات ومصر أيضا، في الصراع الدائر فى السودان، بين حميدتي والبرهان، حيث تؤيد مصر الأخير بهدف؛ عودة الاستقرار وحماية الأمن القومي المصري، بينما تدعم الإمارات حميدتي ضمانا لمصالحها الاقتصادية.
وضمن محطات الخلاف، جاء سد النهضة بإثيوبيا، حيث انشقت الإمارات عن موقف دول الجامعة العربية الداعم لموقف مصر، واتخذت أبوظبي موقفا حياديا تجاه الأزمة، بل وقدمت دعم ماليا وعسكريا لحكومة آبي أحمد. ما أثار استياء القاهرة.
قررت السلطات السعودية تغيير سياساتها بشأن المساعدات، وتوقفت الرياض عن توجيه مساعدات بلا قيود أو شروط، وأصبحت تتوقع، أن تحصل على عوائد وأرباح من تلك الأموال، ولم يعد الرابط المتمثل فى المساعدات صلبا، كما كان سابقا.
صرح وزير المالية السعودي، بأن سياسية المساعدات غير المشروطة قد انتهت، وأصبحت الآن مربوطة بتنفيذ إصلاحات، وأوقفت الإمارات سياسة المساعدات غير المشروطة لمصر، كما أوضحت مصادر لمدى مصر، بل وتدخلت الإمارات أيضا في مفاوضات مصر مع صندوق النقد الدولي، وطالبت باتخاذ موقف قوي بشأن تحرير سعر الجنيه، وانخراط الجيش في الاقتصاد.
وقالت مصادر لبلومبرج في فبراير، بأن دول الخليج لم تقدم أغلب المساعدات ( الـ 10 مليارات دولار )، والتي كانت تعهدت بها مسبقا، لأن الدول الخليجية تنتظر تطبيق مصر للإصلاحات، التي يطالب صندوق النقد الدولي (بالإضافة الى مراقبة، وضع العملة عقب التعويم).
خلجنة النظام الأمني
اتخذت القضايا الأمنية في المنطقة منعطفا خليجيا في العقد الأخير، وصف عمرو يوسف النظام الأمني للمنطقة، بأنه تم “خلجنته”، – مثل الصراع بين إيران ودول مجلس التعاون الخليجي، ومشكلة قطر، وحرب اليمن، وهي القضايا التي باتت بارزة، وعلى الجانب الآخر، تم تهميش قضايا، كانت تحتل الأولوية مسبقا (مثل، القضية الفلسطينية).
يجادل يوسف، بأن من أسباب هذا التحول، أن دول الخليج لم يصبح بإمكانها الاعتماد على الضمانات الأمنية القديمة مع انشغال مصر بمشاكلها الداخلية، وتراجع انخراط واشنطن في المنطقة.
ولهذا، اتبعت السعودية والإمارات سياسات أكثر حزما؛ لتحديد أمن المنطقة بأنفسهم. عمرو عادلي وحمزة المؤدب، يلاحظان أيضا، بأن تزايد اعتماد مصر على المساعدات الخليجية ( بسبب؛ المشاكل الاقتصادية الداخلية، وآثار الصدمات العالمية على الاقتصاد المصري، وازدياد الديون) همش دور القاهرة الجيو سياسى، إقليميا وعالميا.
اتفاقات إبراهام بين إسرائيل والإمارات والبحرين، كانت من التطورات التي أثرت أيضا على مكانة مصر الأمنية. فعقب الاتفاقات لم تصبح مصر الشريك الأمني الوحيد لإسرائيل في المنطقة. تطبيع الإمارات مع إسرائيل اتسم بالدفء، والتطور المتزايد على جميع الأصعدة الاقتصادية، والأمنية والعسكرية والسياسية. ربما في وتيرة أسرع بشكل ملحوظ من وتيرة تاريخ التطبيع المصري الإسرائيلي. التعاون الأمني والعسكري، والاستخباراتي بين الإمارات وإسرائيل يتزايد بشكل ملحوظ.
كما أن إسرائيل والإمارات يخططان؛ لتشييد مشروعين لخط أنابيب وخط سكك حديد، من المتوقع، أن يؤثرا على أرباح قناة السويس سلبا. وفي تطور هام على الجانب السعودي، أعلن نتنياهو مؤخرا، أن إسرائيل على اعتاب إبرام اتفاق سلام تاريخي مع السعودية. كما أن علاقة الرياض بحماس بدأت بالتحسن بعد سنوات من الفتور.
واحتمالية ازدياد دفء العلاقات بين السعودية مع إسرائيل من جانب، وعلاقات المملكة مع حماس، من جانب آخر، قد تهدد مكانة مصر الدولية كضامن للاستقرار، تلك المكانة التي اكتسبتها القاهرة تاريخيا لكونها الوسيط الأهم بين القوى الفلسطينية وإسرائيل.
الرياض ترفض قيادة القاهرة
من الوقائع البارزة التي كشفت وجود توترات بين مصر ودول الخليج حول القيادة، كانت في عام 2015. اقترحت مصر وقتها تأسيس قوة عربية عسكرية مشتركة؛ لحماية الأمن القومي العربي، وبالفعل لاقت المبادرة المصرية صدى، حيث أيد الأمين العام لجماعة الدول العربية نبيل العربي هذه الدعوة.
وفي ختام القمة السادسة والعشرين لجامعة الدول العربية، وافقت الدول العربية، على إقرار تشكيل القوة العربية المشتركة. وبالرغم من الموافقة المعلنة للدول العربية على هذه المبادرة المصرية، ولكن الاقتراح لم ينفذ على أرض الواقع، وهذا يرجع لعدة أسباب أهمها الموقف السعودي.
أحد الكتاب المصريين (المعروف بمواقفه المؤيدة للنظام السياسي في مصر)، وصف فكرة القوة المشتركة “باللامعة” ثم أضاف بأن دول الخليج حطمتها، وهاجمها للجوئهم لدول غير عربية؛ بحثا عن الحماية بدلا من مصر على حد تعبيره.
هذا الجدال، يعبر عن خلاف عميق حول قيادة الإقليم. لقد لاحظت جيسيكا نول وستيفان رول، بأن مصر اقترحت فكرة القوة العربية المشتركة من أجل؛ تعزيز نفوذها الإقليمي، حيث إن تلك القوة المشتركة ستكون تحت قيادتها، بفضل امتلاك مصر الجيش الأكبر في المنطقة، وفي هذا الإطار تصبح القاهرة الحامي؛ لأمن الخليج، مما سيبدل العلاقة بين الخليج ومصر، حيث ستصبح المساعدات الخليجية في تلك الحالة ثمنا، مقابل الحماية، وليس مجرد معونات، تعتمد عليها مصر، مما سيوازن علاقات القوى بين مصر والخليج.
ولكن كما لاحظا، نول، ورول أيضا، أن السعودية لم تكترث بمثل هذا الاقتراح، فلقد قامت بإطلاق تحالفها الخاص تحت قيادتها، ضد الحوثيين في اليمن، حتى قبل انعقاد القمة، وتأييد الجامعة العربية؛ للتدخل السعودي في اليمن، كما أن الرياض على الأرجح أدركت دوافع مصر أيضا من اقتراح القوة المشتركة.
هذا الموقف، وضح بأن السعودية لا تحبذ المشاركة في تحالف تقوده مصر. أصبحت الرياض ترى نفسها قادرة على تكوين تحالفاتها؛ لحماية مصالحها الأمنية والسياسية تحت قيادتها الخاصة.
مع استقلال السياسة الخارجية للرياض، أصبحت السعودية ترى، بأن القيادة المصرية أمر غير ضروري وغير مستحب، بل تفضل الرياض الآن، أن تكون في الصدارة والقيادة. على سبيل المثال، أعلنت السعودية عن تأسيسها لكيان للدول المشاطئة للبحر الأحمر وخليج عدن (من بينهم مصر)؛ لحماية طرق الملاحة. ولقد ركزت صحيفة سعودية على وصف مبادرة الرياض، بأنها “مبادرة تاريخية من الملك سلمان” على حد تعبيرها، هنا يصبح جليا، بأن هناك اتجاها واضحا من الرياض نحو تأكيد قيادتها، وإنشاء تحالفات تكون السعودية في صدارتها، وليس في معية مصر أو أي طرف إقليمي آخر.
مصر أكبر من أن تفشل ولكنها ليست أكبر من أن تتخلف
ولكن هذا لا يعني، بأن القاهرة فقدت أهميتها بالنسبة لدول الخليج. لقد أكد الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي، بأن العلاقات المصرية – الخليجية ركيزة أساسية لأمن واستقرار المنطقة. كما قال جمال سيف الجروان أيضا (الأمين العام لمجلس الإمارات للمستثمرين) في تصريحات لسي إن إن، بأن مصر أهم من أن تفشل، وستستمر بالحصول على مساعدة الإمارات دائما، ولكنه أضاف، بأن طلبات مصر المتكررة للديون يضعف من موثوقيتها، وقال إن كثرة طلبات مصر للديون تختبر صبر مقدمي الدعم. تصريحات الجروان تلك تعكس الرؤية الخليجية الجديدة لمصر.
ربما قد تكون عبارة مصر أكبر من أن تفشل عبارة مألوفة بين المهتمين بالشأن المصري. بالفعل أغلب مراكز القوى في السياسة العالمية، والإقليمية يتبنون تلك العبارة كدليل، يوجه سياساتهم نحو مصر، خاصة وقت الأزمات.
الخليج لا يزال يؤمن بتلك المقولة حتى الآن، فالدول الخليجية ترى أن فشل مصر، سيكون كارثيا على أمنهم. ربما يتفق العديد من القوى الإقليمية والدولية، على أن مصر أكبر من تفشل، ولكن ليس من المألوف القول، أو سماع بأن مصر أكبر من أن تتخلف أو تصبح في الظل.
لن تتردد الدول الخليجية في تقديم المساعدات لإنقاذ الاقتصاد المصري، إن لزم الأمر لحماية أمنها، ولكن على الجانب الآخر أصبحت الدول الخليجية أكثر استقلالا، وغير معتمدة بشكل أساسي على الحماية المصرية. هذا سيعني استمرار الخليج بتقديم المساعدات الكافية لاستقرار الأوضاع بمصر، ولكن هذا لن يمنع الخليج من الضغط على القاهرة من خلال المساعدات بهدف؛ تحقيق مصالحهم السياسية والاقتصادية.
حيثيات تراجع مصر في أعين الخليج
عقب 2011، أصبحت دول الخليج ترى، بأن مصر عرضة لعوامل عدم الاستقرار. كما أن حالة الاقتصاد المتأزم يجعل الخليج، يرى الوضع المصري أكثر هشاشة. هذا جعل القاهرة في نظر الدول الخليجية طرفا غير مستقر، لا يمكن الاعتماد عليه أمنيا، كما كان الحال سابقا.
ثانيا: عدم استعداد مصر للانخراط عسكريا في حروب الخليج في مواجهة، إيران وحلفائها في المنطقة، جعل الخليج يتشكك في استعداد القاهرة؛ لحماية أمن الخليج بشكل جاد. وأخيرا، التحول الأكبر جاء نتيجة؛ صعود محمد بن سلمان ومحمد بن زايد. كلا الحاكمين الخليجيين، تبنيا رؤى جديدة للسعودية والإمارات.
وكلاهما يطمحان؛ لتحويل بلادهم إلى المراكز التجارية والاقتصادية والسياسية الأكبر في المنطقة. ويسعيان لقيادة المنطقة وفرض نفوذهم السياسي، والأمني على الساحة الإقليمية. وفي سبيل هذا، لن يترددوا في إزاحة أي منافسة (حتى في ما بينهم، ما ظهر في الصراع بين السعودية والإمارات) وتبني أكثر التدخلات عنفوانا، وحزما إن لزم الأمر.
لا يوجد مجال للشك، بأن كل هذا يؤرق القاهرة، ويجعلها مستاءة من تراجع مكانتها الأمنية والسياسية في الإقليم. حاولت القاهرة إعادة إثبات قدرتها على القيادة بداية من فكرة القوة العربية المشتركة، إلى إعادة التأكيد على أهميتها الإقليمية في الوساطة بين القوى الفلسطينية، إسرائيل في السنوات الأخيرة.
ولكن رياح الخليج تظل قوية نظرا؛ لوفرة مواردهم المالية، وعواصف الخليج تتحدى تلك المحاولات المصرية. كما أن الخليج أصبح مستعدا؛ للمخاطرة نسبيا باستقرار القاهرة أكثر من السابق.
لن توفر السعودية والإمارات معونات على بياض مجددا، بل يضغطون على القاهرة من أجل؛ تنفيذ شروط، ستعود عليهم بالأرباح في مقابل المساعدات.
من الملاحظ أيضا، بأن إجراءات وشروط صندوق النقد إزاء القاهرة التي يؤيدها الخليج، تجعل الأوضاع المعيشية في المجتمع المصري أكثر صعوبة، ما قد تنظر إليه القاهرة، على أنه يشكل تهديدا على استقرار الأوضاع الداخلية، واستمرار النظام السياسي. خاصة أن هذا الضغط الخليجي، يأتي في وقت حرج، حيث إن الاقتصاد المصري في أمس الحاجة للدعم المالي، عقب الصدمات التي يتعرض لها.
كما أن مواقف دول الخليج اصطدمت مع الأمن المصري في عدة مواقف. موقف الإمارات في السودان، أجج أزمة على الحدود المصرية، تؤثر سلبا على الأمن المصري. بالإضافة إلى انزعاج القاهرة من الموقف الإماراتي في أزمة سد النهضة، وهي التي تراها القاهرة خطرا وجوديا، يهدد الأمن المائي لمصر.