في (6) أكتوبر (1973)، عبرت القوات المصرية قناة السويس.

كان ذلك يوما مشهودا تأكدت فيه إرادة القتال لتحرير سيناء المحتلة.

وفي (6) أكتوبر (1981)، اغتيل الرجل الذي وصف بـ”بطل الحرب والسلام” عند منصة العرض العسكري.

كان ذلك يوما دمويا في أوضاع عصبية، سادت المسرح السياسي عقب اعتقالات سبتمبر من نفس العام.

ما بين اليومين، جرت تحولات وانقلابات استراتيجية، أفضت إلى صلح منفرد، وخروج مصر أكبر دولة عربية من الصراع العربي الإسرائيلي.

وصفت صحيفة “الجيروزاليم بوست” اتفاقية “كامب ديفيد”، بأنها أهم تطور في تاريخ الدولة العبرية بعد تأسيسها.

الصحيفة نفسها، عادت يوم الاثنين (٥) يناير (١٩٨١)؛ لتنشر تقريرا أعلى يسار صفحتها الأولى، كتبه محررها لشؤون الشرق الأوسط عن صراعات السلطة في مصر استنادا إلى معلومات مسربة، بدت كما لو أنها قريبة من الصحة.

تصور “أنور السادات” متوجسا، أن “محمد حسنين هيكل” وراءها، كما أخبر “منصور حسن” وزير الثقافة والإعلام في ذلك اليوم البعيد.

“لكن هيكل لا يتصل بالإسرائيليين”.

الرئيس الغاضب، لم يأبه بما ألقاه الوزير المقرب على مسامعه.

صودرت أعداد الصحيفة الإسرائيلية، ونشرت وكالة “أنباء الشرق الأوسط” برقية موجزة، تصف المعلومات بـ”الادعاءات والأكاذيب”، دون أن تشير إلى طبيعة مادتها، وجرى منع دخول أية أعداد أخرى منها، أو منح أي من محرريها تأشيرة دخول.

في اليوم التالي “الثلاثاء”، اعتبرت “الجيروزاليم بوست” الإجراءات بحقها، هي الأولى من نوعها ضد صحفيين إسرائيليين، منذ السماح لهم بالعمل في مصر بعد زيارة السادات للقدس.

نشرت تقريرا ثانيا لنفس المحرر في نفس الموضوع أعقبه تقرير ثالث بعد يوم آخر، يناقش خلافات التكتيك بين “السادات” و”مبارك” في قضية السلام والتطبيع مع إسرائيل.

استمعت إلى أسرار وخفايا القصة المثيرة من “منصور حسن” ذات لقاء، لم يكن للنشر قبل ثورة يناير.

لم تكن تلك المقالات على الموقع الإلكتروني لـ”الجيروزاليم بوست”، فتاريخ نشرها يسبق إنشاء الموقع بسنوات طويلة.

بمعاونة صحفيين فلسطينيين خلف الجدار، جرى الوصول إليها من أرشيف الصحيفة.

بدا مفاجئا بتوقيته، ونصه ما نشرته الصحيفة الإسرائيلية من تقارير، تتحدث عن تصاعد نفوذ النائب “حسني مبارك”، واحتدام المعارك المكتومة على المناصب الرئيسية بين مجموعتي الرئيس والنائب، وأن “السادات” قد يحبط رهانات نائبه على خلافته.

تناقضت صورة النائب في أهم صحيفة إسرائيلية، تكتب بالإنجليزية، عما هي عليه في مصر، فهو رجل قوي ينازع على السلطة، له موالون متمركزون في مفاصلها، وتقف على الجانب الآخر من الصراع حلقة ضيقة حول الرئيس، تضم أربع شخصيات: حرمه “جيهان السادات”، وصهريه رجل المقاولات الشهير “عثمان أحمد عثمان”، ورئيس مجلس الشعب “سيد مرعي”، ورئيس الوزراء الدكتور “مصطفى خليل”.

في ذلك الوقت، راجت معلومات عن تغيير وزاري محتمل.

نسب التقرير الإسرائيلي إلى “همت مصطفى” رئيسة التلفزيون المقربة من “السادات”، أنها قالت في جلساتها الخاصة، إن “من يشملهم التغيير يشعرون كمن يجرى اصطيادهم”، كأنها تقصد إحباط رهانات “مبارك”، وتقليص نفوذه في السلطة هو ورجاله، وربما خسارة مقعده كنائب.

ناقض ذلك السيناريو، ما شرع فيه “السادات”، منذ مايو (1980)؛ ليكرسه كرجل ثان، وخليفة محتمل في الحزب الوطني وفي بنية الحكومة.

التوقعات التي ذهبت إليها الصحيفة لم تحدث، فلا تولى السفير المصري في واشنطن “أشرف غربال” حقيبة الخارجية، ولا أطيح بـ “النبوي إسماعيل” من وزارة الداخلية، بل بقي على مقعده إلى ما بعد حادث المنصة.

الجو العام للتقارير الإسرائيلية بمبالغاتها، يوحي بأنها مسربة، ومقصود خروجها على النحو الذي كتبت به.

بإلحاح ظاهر، تكررت عبارة “مبارك ورجاله”.

بالتفاصيل قيل، إن هناك عملية إزاحة ممنهجة لأنصار “السادات” من الوظائف الرئاسية.

بعد كل إزاحة، يحدث إلغاء للمنصب نفسه حتى لم يعد حول “السادات”، سوى سكرتيره الشخصي “فوزي عبد الحافظ”، والمدير الإداري “محمود عبد الناصر”.

جرت إزاحة المشير “محمد عبد الغني الجمسي” وزير الدفاع السابق عن منصب المستشار العسكري وألغي المنصب بعده.

جرى إلغاء منصب رئيس مكتب الرئيس الذي كان يشغله “حسن كامل”، كما ألغى منصب سكرتير الرئيس للمعلومات، الذي كان يتولاه “أشرف مروان”، وكان مختصا- حسب توصيف التقرير الإسرائيلي- باستشارات حل الأزمات.

ألغى منصب المتحدث الرئاسي الذي كان يشغله “سعد زغلول نصار”، وأزيح شقيقه “كمال نصار” عن وزارة الإنتاج الحربي.

إلى أي حد كان ذلك مقصودا وممنهجا؟!

ما مدى صدقية ما نسبته الصحيفة الإسرائيلية إلى النائب “مبارك” من قدرات، ومواهب على التخطيط والمناورة في صراعات السلطة.. أم أن الكلام كله كان يستهدف “تلميع” النائب؛ لتولي أدوارا مستقبلية؟

حسب الرواية الإسرائيلية، كانت هناك أربعة دوافع للقلق داخل الحلقة المحيطة بـ”السادات”.

الأول- خشية الاستبعاد مستقبلا من معادلات القوة والنفوذ، إذا ما صعد “مبارك” للسلطة العليا.

الثاني- خشية كسبه لمجموعات المعارضة الذين لا يريدون التصالح مع “السادات”.

الثالث- تحذير “السادات” نفسه بتسريب ما هو مكتوم في الكواليس إلى العلن الإعلامي من خطورة الصراع السياسي الدائر.

كان ذلك تلميحا صريحا، إلى أن المجموعة المحيطة بـ”السادات” هي مصدر التسريب الرئيسي، لما ورد في الصحيفة الإسرائيلية من معلومات أثارت غضبه.

الرابع- توجيه رسالة إلى أمريكا وإسرائيل؛ لمساعدة “السادات” على حماية سياسات السلام، بدلا من تعريضها لمسارات غير متوقعة.

وكان ذلك رهانا خاطئا، فقد صيغت التقارير على نحو يرجح، أنها أُخضعت لمعالجات استخباراتية انحازت إلى النائب، وراهنت عليه باعتباره خيارا أفضل من “السادات”؛ لمستقبل المعاهدة المصرية الإسرائيلية.

أخطر ما نشر في تلك التقارير، ما نسب إلى الفريق “سعيد الماحي” رئيس المخابرات المصرية، من أنه نصح “السادات” بـ”ضرورة تنظيف المنزل”، فـ “البلد لا يحتمل صراعا سياسيا، ولا صراعا على السلطة”، وأنه حذر الرئيس، من أن السفارة الأمريكية بالقاهرة تبدي اهتماما كبيرا بصراعات السلطة، وأن الأمريكيين يفضلون الدفع قدما بالنائب، وتحسين صورته وتلميعه، وأن هناك تقريرا جديدا للاستخبارات الأمريكية يتوقع أن يغادر “السادات” السلطة بعد عشر سنوات من توليها، أي في أكتوبر المقبل، وهو ما حدث بالفعل.

لماذا تبنت الاستخبارات الأمريكية بعد أقل من عامين على توقيع المعاهدة المصرية الإسرائيلية خيار استبدال الجياد في مصر، أو التخلص من “السادات”؟

نفس التقرير الاستخباراتي الأمريكي، حسب الصحيفة الإسرائيلية، فضل أن يعمل “مبارك” فور تعيينه رئيسا على الدفع بفريقه الخاص إلى صدارة المشهد، بعيدا عن وجوه “السادات” المستهلكة الذين تُلاحق بعضهم اتهامات تربح وفساد.

بدت هذه الإشارة داعيا إضافيا؛ لغضب الرجل الذي وقع اتفاقية السلام مع إسرائيل، لكنها تحولت إلى حقيقة بعد فترة وجيزة من اغتياله بمحاكمات، شملت بعض مقربيه.

بأية قراءة متأملة في فحوى التقارير الإسرائيلية التي استبقت اغتيال “السادات” بعشرة أشهر، فإنها لامست بعض خفايا ما جرى في مصر.

في أيام “السادات” الأخيرة، لاحظت الصحيفة الإسرائيلية عودة جديدة لسياسيين، كانوا على خلاف معه بينهم اللواء “حافظ إسماعيل” مستشار الأمن القومي، أثناء حرب أكتوبر، الذي وصفته بـ”هنري كيسنجر مصر”.

المحت، أنه يفكر في تعيين نائب جديد، لم تبين، إذا ما كان هو “حافظ إسماعيل” نفسه.

كان لافتا ومثيرا في التقارير الإسرائيلية التي نشرت قبل اغتيال “السادات” مباشرة، ما حاولت أن تستشرفه، فيما لو آلت السلطة العليا إلى النائب “مبارك”.

كانت إجابتها، أن الفريقين المتنازعين على السلطة، من حول الرئيس ونائبه، أو في مواجهة الرئيس نفسه متفقان، على أن مصر يجب أن تحافظ على علاقاتها مع الولايات المتحدة، وأن “مبارك” قد يفضل أيضا إعادة إحياء الصلات مع موسكو.

بشأن التطبيع مع إسرائيل، فالاتفاق واضح بين الفريقين في الاستراتيجية، والخلاف ماثل في التكتيك.

“السادات” ومساعدوه، يرون أن التطبيع يقتضي بالمقام الأول حلا للقضية الفلسطينية، فيما يحبذ “مبارك” على الجانب الآخر المضي قدما في التطبيع باعتباره جائزة، تغري إسرائيل بالتنازلات.

لم يصادف ذلك التقدير، ما جرى في سنوات “مبارك”، فقد ظل السلام باردا، وهو نفسه امتنع عن زيارة إسرائيل باستثناء مرة واحدة للمشاركة في جنازة رئيس الوزراء الإسرائيلي “إسحق رابين” بعد اغتياله في خريف (1995).

على الأرجح، فإنه قد جرى استطلاع آراء النائب وتصوراته، أثناء زياراته الخارجية من جهات سياسية ودبلوماسية، واستخباراتية استدعت ذلك التوقع، لكنه عندما استلم السلطة لم يمض في خياره بسبب؛ قوة الرفض الشعبي للتطبيع.

بدا “مبارك” مأمونا وموثوقا في ضمان المصالح الأمريكية، والإسرائيلية أكثر من الرجل الذي وقع معاهدة السلام، دون أن يكون قد تورط في واقعة الاغتيال.

الجماعات الإسلامية، تولت إطلاق النار، هذا ثابت ومؤكد، لكن “السادات” قبل غيره يتحمل المسئولية الرئيسية عن الدفع بالحوادث إلى المنصة الدامية.