أثار ظهور صور لأعداد من فقراء المصريين، أثناء انتظارهم توزيع “كرتونة انتخابات الرئاسة”، عقب قيامهم بعمل توكيلات لرئيس الجمهورية من أجل، دعم ترشحه لدورة ثالثة، كثير من الجدل، وذكرت الكثيرين بمشاهد شراء الأصوات التي عرفتها مصر في أكثر من استحقاق انتخابي، والذي كان شعارها الدائم “الكرتونة ” التي تضم الزيت والسكر والشاي وبعض المعلبات الغذائية الأخرى، أو أموال تدفع بشكل مباشر للناخبين من أجل؛ أن يصوتوا لمرشح، يمتلك رصيدا ماليا، ويغيب عنه أي رصيد شعبي.
والسؤال المطروح، هل هذه النوعية من الناس التي تبيع صوتها وكرامتها من أجل؛ مساعدات مالية أو عينية، تعني أننا لا يمكن أن نجري انتخابات حرة شفافة، ما دام أن هناك شريحة مستعدة، أن تبيع كل شيء تحت وطأة الفقر والعوز، وما دام هناك من يتاجر بفقرها وعوزها، بما يعني أن الصور التي شهدناها، أثناء جمع توكيلات المؤيدين في انتخابات الرئاسة، ستتكرر مرات أخرى في أي انتخابات قادمة، كما سبق وتكررت في مرات سابقة.
يقينا هذه الشريحة موجودة، ولا يمكن مواجهتها إلا بدولة قانون ونظام ديمقراطي، يقلل من تأثيرها حتى تتراجع، وتصبح مشهدا سلبيا أمام مشاهد انتخابية أخرى إيجابية.
صحيح إن أعضاء “حزب الكرتونة”، وحلفائه من “حزب البطاقة الدوارة” و200 أو 500 جنيه لكل صوت موجودين، وتقديري على ضوء تجربتين انتخابيتين برلمانيتين، خضتهما في 2011 و2015، وكللتا بالنجاح أن نسبتها بأي حال لا يمكن، أن تتجاوز الثلث، وتتراجع، ولا تكون مؤثرة، إذا شارك الناس بكثافة في أي استحقاق انتخابي، بحيث لا يمكن بأي حال أن يكون هذا الثلث معطلا، لو شارك 50% أو 60% من الناخبين في أي استحقاق انتخابي، وأن مشاركة الناس الكثيفة تجعل تأثير حزب الكرتونة، وحلفائه محدود جدا ولا يمكن أن ينجح بمفرده أي مرشح.
إن رهن البعض مستقبله، ومستقبل أبنائه بكرتونة، يسد بها رمقه أمر مدان، ومرفوض، ولكن يجب أيضا، أن تكون هذه الإدانة مزدوجة، أي لمن يبيع صوته، ومن يشتريه في نفس الوقت.
إن اعتبار وجود الأميين والمهمشين، ومن قهرهم الفقر والعوز سببا في أن يقول البعض، إن مصر لا يمكن أن تصبح بلدا ديمقراطيا خطأ فادح، لأن النظم الاستبدادية تكرس من وجودهم، وتعمل على تدهور التعليم، وانهيار الإعلام، وضعف الثقافة الديمقراطية، وهيمنة الخرافة والأكاذيب، حتى صارت وجهة نظر، على عكس النظم الديمقراطية التي تحارب الفقر، والأمية وتنشر قيم العلم والعمل والإبداع.
والحقيقة، أن نظرية المجتمع الجاهل تختلف جذريا عن نظرية المجتمع المأزوم أو المعطل، ففي الأولي تحكم على المجتمع بالموت، في حين أن الحديث عن المجتمع المأزوم تنقلك إلى مستوى آخر، يحتاج إلى مزيد من العمق والجهد لفهم أسباب أزمة هذا المجتمع، وتعثره في بناء نظام كفء، ودولة قانون ديمقراطية.
والحقيقة، أن الحالة المصرية كما شهدناها في أكثر من استحقاق انتخابي، ومنها انتخابات الرئاسة، تعكس أزمة حقيقية، يبدو فيها حضور “حزب الكرتونة” نتيجة؛ غياب باقي الأحزاب والمقصود أحزاب المعارضة، ومختلف القوى السياسية الفاعلة، وأيضا غياب المنافسة بين أكثر من مرشح رئاسي، نالوا نفس الفرص في الدعاية والحضور في المجال السياسي، بما يعني، إنه في حال حضورهم لن يوجد احتياج “لحزب الكرتونة” وحلفائه.
إن مسئولية النظام القائم في عدم وضع القواعد، والقوانين التي تساعد المجتمع على الخروج من كبوته من خلال دولة قانون، تسمح بحضور كل الاتجاهات المؤمنة بالنظام الجمهوري والدستور المدني، لا أن يترك المجتمع المأزوم لقدره، ولكثير من أصحاب السطوة والنفوذ؛ لكي يتاجروا بفقره وعوزه، دون أي محاولة؛ لمواجهه هذه الظواهر، بل تشجيعها.
الثلث المعطل الذي قوامه حزب الكرتونة، وحلفاؤه في السياسة له نظراء أيضا في الاقتصاد، فهناك طفيليات البيزنس من سماسرة ومضاربين، لا يعرفون معنى الإنتاج في أي شيء، ومثلهم طفيليات السياسة الذين نموا، وترعرعوا في ظل غياب دولة القانون والمؤسسات.
إن مواجهة حزب الكرتونة وحلفائه سيكون بمنظومة قوانين جديدة، تفككها وتقضي عليها، لا أخذها حجة؛ لكي نقول إن الديمقراطية لا تصلح في مصر، ودولة القانون يجب أن تظل غائبة.
إن كثير من المجتمعات في أمريكا الجنوبية وأوروبا، كان يقال عنها أيضا، إنها “غير قابلة للديمقراطية”، فهكذا قال البعض في خمسينيات وستينيات القرن الماضي عن إسبانيا والبرتغال؛ لأن في الأولى بلغت نسبة الأمية 15% والثانية 20 %، ووصفها بعض الأوربيين الآخرين، بأنها مجتمعات كاثوليكية متعصبة، والدين مهيمن على ثقافة شعوبها، بصورة تجعلها غير قادرة على تقبل النظام الديمقراطي، واعتبروا أيضا، أن هناك ثلث معطل خارج القيم الحديثة، وغير قابل للاندماج فيها.
ما جرى في البلدين الأوربيين اللذين صارا بعد ذلك دول أوروبية متقدمة، و”كاملة الأهلية”، تكرر في مجتمعات كثيرة في أمريكا الجنوبية وأوروبا الشرقية، بل وكثير من البلدان الإفريقية، الذين تحولوا جميعا من نظم استبدادية إلى نظم ديمقراطية، بل أن بلدا، مثل تركيا شهد انتخابات رئاسية تنافسية حقيقية، لم يكن في صالح الانتخابات المصرية أن تجري قبلها بعدة أشهر.
يقينا حزب الكرتونة ظاهرة سلبية، والثلث المعطل من المجتمع، هو عقبة وتحد، ولا يعني بأي حال، أن الحل في تغييب الديمقراطية ونشر الاستبداد.