“يُحكى أن ثلاثة أشخاص معصوبو العينين، طُلِبَ منهم أن يحددوا ماهية الفيل مِن لَمْسِه. من لَمَس الزلومة قال، إن هذا خرطوم مياه. من لَمَس الأذن قال، إن هذا شراع مركب. من لَمَس الرِجل قال، إن هذا جذع شجرة”. كان ما سبق فَاتِحة محاضرة قام الاقتصادى الكبير، والأستاذ الجليل الدكتور أحمد جلال بتقديمها في ندوة، عُقِدت بالجمعية المصرية للاقتصاد والتشريع في 18 مايو 2022، بالمشاركة مع نظيره أستاذ الاقتصاد البارع الذي ينتمي لمدرسةٍ فكريةٍ، تقع على الطرف المُقابل مِن مدرسة الدكتور أحمد جلال، وهو الدكتور جودة عبد الخالق الذي لعب دورًا هامًا في تشكيل رؤيتي الاقتصادية، وانحيازاتى الاجتماعية مع مُبدعين آخرين، يأتي على رأسهم كبيرُنا الذى عَلَمَنا الدكتور سمير أمين، والدكتور إسماعيل صبري عبد الله، والدكتور فؤاد مرسي، والدكتور عمرو محيي الدين، والدكتور محمود عبد الفضيل، رحمهم الله جميعًا، بالإضافة إلى أساتذة غير مصريين كهايمان مينسكي وجوزيف ستيجليتز، وتوما بيكيتي وآخرين.

كان الدكتور أحمد جلال قد ذكر المثال السابق في معرض، تناوله لمسألةِ، أن مثل هذا الأمر يحدث، عندما يطرح سؤال نفسه، بشأن كيفية مواجهة الاقتصاد المصري للتحديات الحالية والمُستقبلية، حيث يأتي تشخيص أي مشكلة مدفوعًا بموضع وبالظروف الخاصة بكلٍ من الأطراف المهتمة بالإجابة على هذا السؤال.

وقد أورَد الدكتور جلال صورة ضوئية من هذه المحاضرة في كتابه “ضد التيار- حكايات ما قبل، وما بَعد يناير 2011″، وهو كتابٌ أَعُدُه بمثابة وثيقة بالغة الأهمية، أتت في ميعادها التاريخي المحتوم. كتب الدكتور جلال كتابه -في اقتدار شديد- بأسلوب علمي عميقٍ، لكنه بسيط ومباشر، لا يجد غير المتخصصين أي صعوبة في فهمه، فأبرَزَ فيه علاقة الشأن الاقتصادي بكلٍ من الشأنَين السياسي والاجتماعي، وتأثيراتهم المُتبادَلة، مُشيرًا في اختصار غير مُخِلٍ إلى تجارب مجتمعات أخرى، في عصر ما بعد الحرب الكونية الثانية. كان الدكتور جلال قد قام بتقسيم الكتاب -زمنيًا- إلى خمسة فصول، بدأ في كلٍ منها بعرضٍ للسياق العام، ثم انتقل لسرد رؤيته، وكانت على النحو التالي:

  • الفصل الأول: قبيل ثورة 25 يناير 2011.
  • الفصل الثاني: الحوار المجتمعي في أعقاب ثورة 25 يناير.
  • الفصل الثالث: فترة حُكم الإخوان القصيرة.
  • الفصل الرابع: فترة الحكومة الانتقالية (2013/2014).
  • الفصل الخامس: إطلالة على المستقبل.

وأنا في هذا المقال، لن أقوم بتلخيص، ما ورد بالكتاب، لكنني أتوقف فقط عند ثلاث محطات هامة بالكتاب:

المحطة الأولى: آثر الدكتور جلال، أن يورد بالفصل الأول نصًا كامِلًا -دون تلخيص- لورقةٍ، كانت الدكتورة هانيا الشلقامي، والدكتورة غادة والي، قد قامتا بإعدادها تحت إشرافه في منتصف عام 2007 تحت عنوان “نحو سياسات اجتماعية متكاملة في مصر”*. كانت الورقة قد طرحت ثلاث أسئلة بحثية عن: لماذا تحتاج مصر إلى تغيير جذري في السياسات الاجتماعية، وما هي محاور، وطبيعة التغيير في السياسات الاجتماعية، ثم كيفية تفعيل الرؤية الاجتماعية المُقترحة.

كانت الإجابة على السؤال الأول، تتمحور في أن المطلوب هو الاستمرار في “تحسين” سياسات الدعم من خلال التركيز على الاستهداف، وإدارة الدعم وحجمه. وكانت الإجابة على السؤال الثاني، تتركز حول دراسة السياسات الاقتصادية والسياسات الخدمية، وسياسات الأمان الاجتماعي.

أما الإجابة عن السؤال الثالث، فقد تعرضت إلى ضرورة خلق توافق وطني حول عناصر الرؤية الجديدة؛ من خلال منتدى وطني سنوي للسياسات الاقتصادية والاجتماعية، بالإضافة إلى دورٍ تلعبه المجالس المحلية للمشاركة في التخطيط ومتابعة التنفيذ، وأهمية وجود مرصد وطني مستقل، يتولى متابعة تنفيذ الرؤية ومعدلات تنفيذها، ثم تشجيع المراكز البحثية المختلفة على بحث المشكلات الاجتماعية ونشر نتائجها. ولما كان تنفيذ السياسات الاجتماعية المختلفة يتطلب تغييرًا في الأطر المؤسسية؛ لتوفير آليات التنفيذ، فقد اقترحت الورقة ضرورة توفير بِنَى مؤسسية للسياسات الاجتماعية، يشمل تفعيلًا للمجموعة الاجتماعية بمجلس الوزراء، وإعداد موازنة سنوية للفئات المهمشة والأولَى بالرعاية، بما يسمى “موازنة الفقراء” تُلحَق بالموازنة العامة للدولة، وتفعيل مبادئ إدارة المخاطر، وإعادة الهيكلة للوحدات الحكومية المعنية.

وأزعم في تقديرٍ خاصٍ مِني، أن تطبيقًا حقيقيًا لما ورد بتلك الورقة الهامة، كان من شأنه أن يحول، دون الانفجار العظيم في يناير 2011، أو -على أقل تقدير- أن يُؤخره لسنوات، لكن عناد الرئيس الأسبق حسني مبارك، كان قد تسبب في العكس تمامًا، حيث تَسَارَعَت وتيرة تراكم الظروف الموضوعية للتغيير، ما أفضى إلى تعجيل الثورة ضد نظام حكمه.

المحطة الثانية: في بحثٍ كان الدكتور جلال قد أعده، وقَدَمه للحوار المجتمعي في مايو 2011 بشأن؛ رؤيته المستقبلية للاقتصاد المصري -وقد آثر أيضًا أن يورده كاملًا**- انتقد نموذج التنمية الذي كان مُتَبَعًا واصفًا إياه، بأنه كان “مَعيبًا” ينحاز للطبقة الحاكمة، وللأغنياء بمنحه امتيازات لأصحاب رؤوس الأموال على حساب العمال، والفلاحين والمستهلكين، واعتمد بشكل مُبَالغ فيه على آليات السوق، دون اتخاذ الإجراءات الفعالة، التي من شأنها الحد من سوء استغلال قوى السوق، أو منع الفساد أو الحد من الفقر المُدقِع.

وأشار الدكتور جلال، إلى أن ما تحتاجه مصر هو نموذج متوازن، يركز على قوة كل من الدولة والقطاع الخاص، والمجتمع المدني، فلا يُعلي من قيمة الأسواق على حساب الحكومات، ولا العكس أيضًا، فمصر ستحسن صُنعًا، إن قامت بتحديد أهدافها، ثم اختيار أكثر الأدوات المناسبة؛ لتحقيق هذه الأهداف. اقترح الدكتور جلال أُسُسًا لبناء نموذج التنمية الاقتصادية الذي يراه، بتوصياتٍ تتعلق بالسياسات المالية، والنقدية والتشغيلية، مع تحقيق التوازن بين النمو والتوظيف والتوزيع، من خلال بذل الجهد على ثلاث جبهات: الحفاظ على استقرار الاقتصاد الكلي، والعمل على تعزيز المُدخرات المحلية، وإصلاح نظام التعليم والتدريب، بالإضافة إلى التطبيق الحقيقي لمبادئ المساواة بإعادة النظر في أساليب الإنفاق العام، وإصلاح النظام الضريبي، واستحداث برامج تأمين فعالة، وعادلة في مجالي الصحة والبطالة.

وهنا أيضًا، أزعم في تقديرٍ خاصٍ مِني، أن عنايةً مُستَحَقة بما جاء ببحث الدكتور جلال في ذلك الوقت الحساس الذي تَلَى الثورة في 2011، كان من شأنها أن تخلق لمصر نموذجًا مُعتَبَرًا للتنمية أو -على أقل تقدير- أن تُجَنِبها مزيدًا من عَثرات الطريق. فنموذج “التنمية”، كما كتبت عدة مراتٍ من قبل، هي مسار مُتعَدِد المستويات المُتشابكة التي يؤثر بعضها على البعض، من المستوى الاقتصادي والاجتماعيى والسلوكي والثقافي، على خلاف نموذج “النمو” الذي يُقاس نجاحه بتطور الناتج القومي رقميًا، دون الأخذ بالاعتبار انعكاس أثر ذلك التطور على حياة الناس بتمظهراتها المتنوعة.

المحطة الثالثة: في محاضرته التي أشرت إليها في بداية هذا المقال، والتي أوردها الدكتور جلال كاملةً في خاتمة كتابه، أشار إلى صعوبة منع، أو تجنب الأزمات القادمة من الخارج، لكن من الممكن الأخذ بأسباب القوة؛ للتعامل معها من خلال إصلاح البيت من الداخل، وهو أمر يتطلب إصلاحات على مستوى الاقتصاد الكلي، وهيكل الاقتصاد والعدالة الاجتماعية، مع بلورة البدائل التي تقتضى حوارًا مجتمعيًا، مُشيرًا إلى أن الحوار الوطني (الذي لم يكن حينها قد بدأ بَعد)، ربما يكون منصة مناسبة لذلك.

طرح الدكتور جلال في هذا الفصل ثلاث أفكار إضافية للمناقشة: فكرة التحول من التنمية بالمشروعات إلى التنمية بالسياسات، بما يعني ضرورة إعطاء إصلاح السياسات أولوية على المشروعات الكبرى التي كان لها ما يبررها؛ لدوران عجلة الاقتصاد في السنوات الماضية، وفكرة الدور الأمثل للدولة في الاقتصاد من ناحية كَون الدولة صانعًا للسياسات ومراقِبًا للأسواق، وفكرة كيفية تحديد الأولويات الاجتماعية التي أشاد فيها بالدعوة للحوار الوطني، باعتباره أفقًا مفتوحًا؛ لتبادل الأفكار وأداة موضوعية؛ لتحديد الأولويات. إذن، فالدكتور جلال يطرح في محاضرة الإطلالة على المستقبل، “منهاجًا” للعمل يصلح كإطارٍ عامٍ، يُبنَى ويؤَسَس عليه كنقطة انطلاق، تفضي إلى تبني اختياراتٍ، يُتَوَافق عليها بين فئات المجتمع وقواه الحية، أو هكذا فهمت من محاضرته القَيّمة.

ظني، ونحن على أعتاب إنجاز استحقاق دستوري هو الأهم، أن كتاب الدكتور جلال، بما يحتويه من وجهات نظر ودراساتٍ ومقترحاتٍ، يجدر به أن يكون على رأس المراجع للعاكفين على إعداد البرامج الانتخابية لمرشحي المنصب الرفيع، وكذا القائمين على صياغة، وتطوير وثائق المؤسسات السياسية، والاجتماعية في استحقاقاتٍ أخرى. وأتمنى عليهم -في المنهج- أن يقوموا بصياغة رؤاهم على المستوى الكُلي عن نموذج التنمية الذي يتبنونه، ثم يبتكروا من الاستراتيجيات والأهداف الموضوعية والواقعية في ضوء الإمكانات المتاحة على الأمدية قصيرة، ومتوسطة وطويلة الأجل، ما يمكنهم من تحقيق تلك الرؤى، وقياس ومتابعة نتائجها، أخذا بالاعتبار المنتجات الفكرية للمدارس الاقتصادية الحديثة وخبراتها العملية، وأخص بالذكر المدرسة الهندية والمدرسة اللاتينية، في إطار ما خَلَقَه تطور الواقع من فرصٍ تاريخية بعالم تتغير ملامحه، وتتبدل صور تحالفاته بسرعة شديدة.

شكرًا للدكتور أحمد جلال على جهده الوطني الطيب في إنجاز “ضد التيار”، وربما سمحت الظروف لاحقًا، أن أسرد للقارئ الكريم تجربة لقائي مع الدكتور أحمد جلال الذي شَرُفتُ بمعرفته شخصيًا للمرة الأولى، من خلال العمل تحت إدارته بالحوار الوطني، فأتيحت لى فرصة الاقتراب الإنساني منه والحديث إليه فى شؤون وشجون شتى، ليتأكد لى -عمليًا- إطراءً كثيفًا على شخصه الكريم، كان صديقي الراحل الدكتور سامر سليمان، رَحِمَهُ الله، قد باح به إلىَّ منذ سنوات.