قبل مائة عام من الآن، في خريف وشتاء 1923م، كان المصريون بزعامة سعد زغلول وقيادة حزب الوفد المصري يخوضون أول انتخابات برلمانية وفق دستور 1923م عقب الاستقلال الشكلي عن بريطانيا عقب ثورة 1919م المجيدة، كانت المعركة -التي فاز فيها الوفد بزعامة سعد زغلول- محطة على طريق طويل من أجل الحقوق والحريات، أي التحرر من سلطة الأجنبي وكذلك التحرر من الاستبداد المحلي، وهو الطريق الذي بدأ مع الثورة العرابية، ومازال مستمراً حتى اليوم والغد، ومازالت دواعي النضال الدستوري من أجل الحقوق والحريات المدنية قائمة بعدما تم سلب أكثرها في السنوات العشر المظلمة 2013 – 2023م تحت مبرر الحفاظ على الدولة وتثبيتها وبنائها وغيرها من المزاعم الواهية.

قبل سقوط الملكية 1953م وقبل اتفاق الجلاء 1954م ثم قبل الجلاء الفعلي للإنجليز، قبل كل ذلك كان الغرباء هم من يصادرون حقوق المصريين وحرياتهم، ثم من بعد ذلك، وعلى مدى سبعين عاماً، تعاقبت ديكتاتوريات فردية مطلقة، تفاوتت في مقادير ما صادرت من حقوق وحريات، بدأت بمصادرة الحريات السياسية وإتاحة بعض الحقوق الاجتماعية والاقتصادية لبعض الطبقات في عهد عبدالناصر، ثم انعكست بإتاحة بعض الحريات السياسية في مقابل سلب بعض الحقوق الاجتماعية والاقتصادية في عهدي السادات – مبارك، ثم في السنوات العشر المظلمة تمت مصادرة وسلب الاثنين معاً : الحريات السياسية وكذلك الحقوق الاجتماعية والاقتصادية لأجل مهمة أسطورية خرافية اسمها بناء دولة جديدة  ولم يتم فقط سلب الحريات والحقوق لكن تم الذهاب إلى ما هو أبعد وأخطر، تم سلب الأساس المدني للعقد الاجتماعي الذي انبنت عليه الدولة المصرية الحديثة.

فلم يحدث أن زعم حاكم حديث من محمد علي باشا حتى حسني مبارك أنه قد أوتي منصبه من الله ولم يثبت أن حاكماً على مدار المائتي عام قال أن شرعيته مستمدة من نص الآية الكريمة رقم 26 من سورة آل عمران، التي تشرح أن الله – جل في علاه – يؤتي الملك من يشاء، وينزعه ممن يشاء، وأنه يعز من يشاء، وأنه كذلك يذل من يشاء، وأنه بيده الخير، وأنه على كل شئ قدير.

لم يكن محمد علي باشا يؤمن بفكرة الشعب، لكنه كان يعترف أنه أخذ السلطة بمزيج من الخداع والذراع، وكذلك لم يؤمن أبناؤه وأحفاده من بعده بالشعب، الفاضل منهم كان يعتبر الشعب رعايا ينبغي الإحسان إليهم، ثم بدأوا يدركون مفهوم الشعب تحت ضغطين:

1- ضغط الاحتلال الذي همشهم وحكم في وجودهم وتحت اسمهم فتذكروا ورقة الشعب يتقربون إليه لعلهم يستقوون به في مواجهة استهزاء الاحتلال بهم.

2 – ثم ضغط الحركة الوطنية من الثورة العرابية حتى ثورة 1919م فتذكروا الشعب للمرة الثانية وتوددوا إليه أو بالتحديد إلى بعض طبقاته، وقد حاول فؤاد ثم نجله فاروق اللعب بورقة الخلافة الإسلامية لكن لم يقل أحدهما ولا كلاهما أن سلطانهما من الله أو أن الله قد آتاهما الملك، وما كان أحد منهما يجرؤ على ذلك.

كذلك كان الحال فيما بعد ثورة 1952 م التي بدأت حركة تحرر وانتهت ديكتاتورية سرطانية طغيانية مزمنة، لم يذكر عبد الناصر غير الشعب ولم يصدر عنه كلمة واحدة تنسب سلطته إلى الله، وكذلك كان السادات رغم نزعاته الدينية، ورغم رفعه شعار دولة الإيمان، إلا أنه لم يتطرف للزعم أن سلطته من عند الله، ويمتاز مبارك بالديكتاتورية العملية الواقعية الهادئة، لم يبحث عن أي غطاء ديني ولا قومي ولا ثوري ولا عروبي ولا اشتراكي ولا أي شعار من أي نوع، ديكتاتورية تنفيذية هادئة مع خطاب رسمي مجدول من نصوص الدستور والقانون والعرف الدولي، لم يكن يسعى إلى شعبية ولا جماهيرية ولم يكن للجانب العاطفي أو الانفعالي نصيب في تفكيره السياسي، كان يعلم الحقيقة المجردة وهي:

1 – أن حكمه في الداخل محمي بالجيش.

2 – وأن حكمه في الخارج محمي بالأمريكان.

3 – وأنه في حاجة إلى أموال العرب دون أن يقودهم ودون أن ينقاد لهم.

4 – الشعب يكفيه الحد الأدنى من الحقوق والخدمات الأساسية والمرافق العامة.

5 – لا يصدم الشعب بسياسة مباغتة أو تحول صادم.

ثم جاءت السنوات العشر المظلمة 2013 – 2023م تحكم بقبضة من حديد، وتبدي انشغالاً غير مسبوق بالدين، تدعو لتجديد خطاب الدين، وتنفق المليارات في تشييد كنائس وجوامع ذات بذخ امبراطوري، وتكثر من الحديث العاطفي عن صلاتها بالله، وعن مناجاتها مع الله، ماذا تقول لله، وماذا يقول الله لها. هذه الجرعة الدينية الزائدة عن الحد المعقول تستهدف مواجهة خطرين:

1 – أولهما خطر الإسلاميين الذين حكموا الفترة القصيرة قبل دولة 30 يونيو 2013م.

2 – ثم مواجهة النزوع الديمقراطي الذي تجلى في العقد الأول من القرن وبلغ ذروته في ثورة 25 يناير 2011م والذي عاد يبحث عن نفسه بعد أن تحولت دولة 30 يونيو إلى ديكتاتورية عاتية.

هذا النزوع الديني لدولة 30 يونيو تبلور حول مفهوم مركزي هو أن السلطة من الله، وهذا بالبداهة يعني أن السلطة ليست من الشعب، الشعب دوره هو الموافقة والتصديق بما اختاره الله، الشعب ليس طرفاً في حيازة السلطة ولا في تداولها ولا في كيفية مزاولتها، الله فقط هو من يمنحها، والله فقط هو من ينزعها.

هذه النظرية أخرجت الشعب من أفق الدولة، الدولة صارت لنفسها. الدولة من أجل الدولة ثم الدولة من أجل الحاكم الفرد المطلق هو يبنيها كيفما يشاء، يبنيها كأنها لم تكن من قبل، يبنيها كأنها تظهر للوجود أول مرة، يبنيها كأنها ولدت فقط في اللحظة التي آتاه الله فيها الملك.

هذه النظرية بهذه الصياغة دشنت طريقاً للتطور إلى الخلف، إلى ما قبل الدولة الحديثة، إلى ما قبل بلورة مفاهيم الوطن والمواطن والمواطنة والحقوق والواجبات والحريات والدستور والقانون، هذه النظرية تضع المصريين في مكان بعيد عن المواطنة بما عليها من واجبات وبما لها من حقوق وبما تتمتع به من حريات، هذه النظرية تضع المصريين في مكان وسط بين الرعايا والعبيد، أنصاف رعايا، أنصاف عبيد، قليل من الحريات مع كثير من القيود، قليل من الحقوق مع سلب الكثير منها. بهذه النظرية- الله مصدر السلطة- خرجت الدولة المصرية عن مسارها، لم تعد فقط كما كانت منذ أسسها محمد علي باشا دولة ديكتاتورية تسلطية تستخدم الحداثة في قهر الشعب، لكن زادت على ذلك ونسبت ديكتاتوريتها إلى الله.

القول بأن الله مصدر السلطة من شأنه أن  يُخلي مسئولية الديكتاتورية عن تعديل الدساتير، وتظبيط الاستفتاءات والانتخابات العامة على مقاسها، و السيطرة الأمنية على الأحزاب والنقابات والجامعات والجوامع والكنائس والمرافق والإدارات والمحليات وكافة مؤسسات الدولة والمجتمع المدني، وخنق الحريات، وسلب الحقوق، وتخويف الرأي العام، وتكميم الأفواه، وتصفية البلد من كل صوت حر، وإغلاق المجال العام أمام المبادرات الشعبية، وتصعيد المنافقين والجاهلين والمنتفعين.

لم يحدث أن اعترض البرلمان في السنوات العشر على قرض من القروض التي قادت البلد إلى مثلما انتهت إليه القروض الخديوية في سنوات حكم الخديو إسماعيل 1863- 1879م، ولم يحدث في السنوات العشر أن جرت انتخابات حرة، ولا انعقدت اجتماعات سياسية إلا للحكم وأحزابه، ولا عرفت البلاد الحد الأدنى من حريات الصحافة والكتابة والتعبير والتفكير والإعلام.

القول بنظرية أن الله مصدر السلطة يُعيد كفاح المصريين من أجل الحقوق والحريات المدنية ومن أجل دولة الدستور والقانون إلى المربع رقم صفر، على المصريين أن يبدأوا نضالهم الدستوري من جديد، واضعين في اعتبارهم أن هذه النظرية الجديدة مجرد نكسة من النكسات التى مروا بها من قبل كما هي مجرد عقبة من عقبات كثيرة سبق ومرت بهم من قبل، كذلك واضعين في اعتبارهم أن الطرق إلى المستقبل سوف تبقى مسدودة ما دام بقيت هذه النظرية سارية المفعول وموضوعة موضع التنفيذ والتطبيق.

خطورة هذه النظرية أنها تنسف نضال المصريين من الثورة العرابية 1881م حتى ثورة يناير 2011م من أجل حقهم في اختيار الحكام ومراقبتهم ونقدهم ومناقشتهم و مساءلتهم ومحاسبتهم ومحاكمتهم وعزلهم- بالدستور والقانون- عندما تقتضي المصلحة العامة عزلهم، كان هذا هو جوهر كفاح المصريين من خلع إسماعيل حتى خلع مبارك.

اختلاق شرعية دينية للحكم تقليد قديم سواء قبل الأديان السماوية أو بعدها، وقد استقرت زمناً طويلاً في التاريخ السياسي للمسيحية ثم في التاريخ السياسي للإسلام، في الحالتين تم تأويل النصوص لخدمة أغراض السلطة، وبالذات في تقرير حقها في اقتضاء الطاعة من المحكومين، فجمع الحكام بين الوظيفتين الدينية والمدنية، وبذلك يكون من المستحيل مساءلتهم أو محاسبتهم على ما يقترفونه في حق الشعوب من جرائم وخطايا وموبقات.

في المسيحية تبلور الطغيان حول نظرية الحق الإلهي للملوك، فالسلطة لله، ثم منحها إلى سيدنا آدم، ثم من سيدنا آدم انحدرت منه إلى الملوك، والملوك غير مسئولين أمام أحد غير الله، ومن ثم لهم سلطة مطلقة غير مقيدة، لا يقيدها ما ورثوه من قرارات وقوانين وأعراف ورثوها عمن سبقهم من الملوك، بل وغير مقيدين بما يصدر عنهم هم شخضياً من قوانين لأن لهم الحق في تغييرها وقتما وكيفما شاءوا وغير وارد أن يُقيد الملك بقرار من الملك، وعلى هذا يترتب أمران :

1- أولهما: كل حكومة هي- بالبداهة- مطلقة ولها حق الطاعة على رعاياها أو عبيدها.

2- ثانيهما: غير صحيح أن الإنسان يولد حراً، بل يولد مقيداً بواجب الإذعان لإرادة الملك الذي يمارس الحكم بتفويض من الله رأساً.

وفي تاريخ الإسلام كانت السلطة تؤول لأصحابها بالسيف، أو كما وصف المقريزي اثنين من كبار مؤسسي الدول في الإسلام، مؤسس الدولة العباسية، ومؤسس الدولة الفاطمية، قال المقريزي “خرج كلاهما يطلب الخلافة والسيف يقطر دماً “.

في الواقع كان الحكم للسيف الأقوى، ثم تأتي بعد ذلك تأويلات النصوص الدينية لإضفاء الشرعية على ما أنجزته السيوف وعلى ما أسسته الدماء وعلى ما أقامه العنف، تأتي تأويلات النصوص لتنسب كل ما وقع من مظالم إلى إرادة الله.

أوروبا حسمت هذه المعضلة حسماً نهائياً، سواء على المستوى الفقهي، أو على مستوى الممارسة السياسية العملية من القديس توما الأكويني 1225 – 1274م في القرن الثالث عشر الميلادي حتى جون لوك 1632 -1704 م في القرن السابع عشر الميلادي، خمسة قرون وأوربا تكافح مزاعم الحق الإلهي للملوك ، تسعى لتقييد سلطاتهم ، وتسعى لتدعيم سلطة الشعب سواء النبلاء أو الطبقة الوسطى أو عامة الناس، تسعى لكيلا تسيطر السلطة التنفيذية على السلطة التشربيعية، وتحصين استقلال السلطة القائية من تأثير أي مؤثر غير ضمير القاضي ونزاهة قلبه وشرف عقله وإيمانه بقدسية رسالته ونزوعه للعدل والاستقامة.

في قلب العصور الوسيطة قال القديس توما الأكويني السلطة للشعب، وعلى نار ثورة البرلمان الانجليزي ضد الملوك من آل ستيوارت قال جون لوك السلطة للشعب، البرلمان الانجليزي قاد الثورة مرتين في القرن السابع عشر، في المرة الأولى حكم على شارلز الأول 1600 – 1649م بقطع الرأس، وفي المرة الثانية هرب جيمس الثاني 1633 – 1701م خارج البلاد وعاش حياته في المنفى  ثم انقضت مائة وخمسون عاماً بين قطع رقبة تشارلز الأول في ثورة البرلمان الانجليزي 1649م وقطع رقبة لويس السادس عشر في ثورة الشعب الفرنسي 1792م ، بقطع هاتين الرقبتين العظيمتين تأكدت أوروبا أن مزاعم الحق الإلهي للملوك بدأت تخبو وأن نظريات الحكم بتفويض من الله لم يعد لها مستقبل وأن عصر السيادة للشعوب قد هل هلاله وأن فكرة الأمة مصدر السلطات بدأت تضرب جذورها في الأرض وأن حق الشعوب في اختيار الحكام ومحاسبتهم وعزلهم بات في متناول الأيدي.

الحق الإلهي للملوك – في تاريخ أوربا المسيحية- كان مدعوماً بنص من رسالة القديس بولس الرسول إلى كنيسة روما، يقول النص : ” على كل إنسان أن يخضع لأصحاب السلطة، فلا سلطة إلا من عند الله، والسلطة القائمة هو (الله) الذي أقامها، فمن قاوم السلطة قاوم تدبير الله، فاستحق العقاب ” ثم يقول” لذلك لابد من الخضوع للسلطة، لا خوفاً من غضب الله فقط، بل مرعاةً للضمير أيضاَ”.

بدأت بذور المعارضة للتأويل الذائع من داخل الكنيسة نفسها، سواء بدافع شريف نزيه أو بدافع النكاية في الملوك لصالح سلطة البابوات، وسواء كان هذا أو ذاك، فإن فكرة السيادة للشعب كانت تكسب- ببطء وعلى مر القرون- أرضاً جديدة، بلغت ذورتها في بريطانيا القرن السابع عشر، وقد تطوع السير روبرت فيلمر 1588 – 1653م وكان من أشد المؤمنين بنظرية الحق الإلهي للملوك، وألف كتاباً يرد على الكاثوليك والبروتستانت الذين يرفضونها، وقد أيد السلطة المطلقة للملك تشارلز الأول في صراعه ضد البرلمان وأقصى تنازلات قدمها في هذا الكتاب هي حق اللوردات في مجلش الشيوخ في تقديم توصيات غير ملزمة للملك، وقد تطرف سير روبرت فيلمر في تعظيم سلطة الملك وتقزيم سلطة البرلمان، وقد عاش، وشهد سقوط نظريته، ورأى رأس الملك وهي تنقطع، ورأى نفسه والثوار يقتحمون عليه منزله كلما احتاجوا إلى سلب ونهب. ولم يكتب بعده أحد يؤيد الحق الإلهي للملوك بهذا التطرف، وشقت أوروبا طريقها نحو نضال دستوري انتهى بملكيات دستورية تملك ولا تحكم وجمهوريات رئاسية أو برلمانية تخضع فيها طبقة الحكم لرقابة الشعب وتخضع الدولة لسيادة القانون ولا يوجد في الدولة مخلوق آدمي واحد فوق القانون أو فوق المساءلة.

عندنا- في الشرق الإسلامي وكذلك المغرب الإسلامي- الحكم كان وما زال لمن غلب، والدولة كانت وما زالت ملتزمة بنفسها على حساب الشعب، الدولة هي الحكام. الدولة أداة الحكام لقهر الشعب. إقامة الدولة والحفاظ عليها مبرر لكل الجرائم ضد الشعب. من الفتنة الكبرى ثم بنو أمية ثم بنو العباس حتى يومنا هذا، لم نقاوم مثلما قاومت أوروبا. الطبقة الدينية تحت السيطرة إما تنتج من الفقه ما يخدم آلة الطغيان، وإما تلزم الصمت والسكوت بفعل القهر والعنف، وإما تواجه، وهو قليل نادر، يُذكر في أبواب النوادر والمآثر والشجاعة الأدبية.

الفقه السياسي الإسلامي- ما زال مسكوناً بروح عصور القهر القديم- لم يخرج من قواقع الطاعة وولي الأمر وأهل الحل والعقد، لم يتنور بعد بنور الشعب وروح الشعب وقوة الدفع التي تنطوي عليها همم الشعوب، ما زال فقهاً يلف ويدور حول ولاة الأمور لا حول هموم الناس الذين هم غاية الأمور. حتى المصطلحات- وهي أكثر شيء يحمل روح الزمن- ما زالت منقولة بنصها وحرفها من أزمان قديمة، فقه الحرية لم يُكتب بعد، وهذا واحد من الأسباب التي تفسر الصلة الوثيقة بين الديكتاتوريات وأنظمة الحكم في بلاد الإسلام مشرقاً ومغرباً.

بقيت ثلاث نقاط:

الأولى: أن المٌلك المقصود في آية رقم 26 من سورة آل عمران هو النبوة وليس رئاسة الجمهورية، النبوة وليس الحكم، هو انتقال النبوة من بني إسرائيل إلى النبي العربي حضرة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، وهو الأمر الذي كان مثار غضب اليهود وعدم رضاهم، فجاءت الآية ترد الأمر إلى الله، يؤيد ذلك ما ورد في الآيتين 73 و 74 حيث تم التعبير بالفضل والرحمة مثلما عبر عنها بالملك ،ففي الآية 73 ” قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم “، ثم في الآية 74″ يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم”. وهكذا تم التعبير عن النبوة وانتقال النبوة بثلاث مصطلحات مختلفة في اللفظ متوافقة في المعنى وهي المُلك، والفضل، والرحمة. وبكل يقين ليس مقصوداً الحكم ولا رئاسة جمهورية مصر العربية ولا الرغبة في التخليد في السلطة تحت زعم إرادة الله.

الثانية: ليس من الدين ولا من العقل ولا من العدل أن نحكم الناس بالقوة ثم نقول ذلك من عند الله، ونلحق بهم القهر والفقر ثم نخلي مسئوليتنا، ما دام نحن في الحكم بإرادة الله. الحكم شأن مدني أرضي بشري يتم بالتوافق بين الناس والتراضي بينهم، والخير العام والصالح المشترك وسعادة المجموع هو غايته، وليست غايته قهر الشعوب وإخضاعهم بالقوة ثم تزييف وعيهم، ثم إجبارهم على تقبل الأمر الواقع.

الثالثة: الشعب المصري- بطبيعته- شعب مسالم غير مشاكس، صبور غير متسرع، حذر غير مندفع، حمول غير متعجل، تحمل في السنوات العشر 2013 – 2023م قهراً وفقراً متلازمين لم يحدث أن تحملهما أي شعب آخر على وجه الكرة الأرضية خلال الفترة ذاتها طوال السنوات العشر، لو أن كل هذا القهر مع كل هذا الفقر نزل بأي شعب آخر لكان مصيره أحد أمرين: إما الإنفجار وإما الإنهيار، إما انفجار الشعب في وجه السلطة، وإما انهيار الدولة تحت عدم كفاءة السلطة، لكنه شعب صبور حكيم يعرف كيف يتجاوز وكيف يستوعب وكيف يهُب من مرقده كلما ظن الظانون أنه قد مات في مرقده.