فتحت عملية غزة جراحا عربية ودولية وفلسطينيه كثيرة، فهناك الوهن والضعف العربي المستمر، منذ عقود، وخاصة فيما يتعلق بتراجع الدعم للقضية الفلسطينية، وهناك أيضا الانحياز الدولي، وخاصة الأمريكي الفج والأعمى لإسرائيل، وأخيرا هناك الانقسام الفلسطيني المستمر، منذ 2007، والذي صار أحد حجج إسرائيل؛ للتملص من استحقاقات السلام.

مقاومة تخلق مسارا سياسيا

يمكن القول، إن هذه الجراح السابقة على عملية غزة، بقيت معها، ولن تختفي بعدها، خاصة أن الفصائل الفلسطينية دخلت في أعقاب الانتفاضات الشعبية في مواجهات مسلحة مع الدولة العبرية، لم تؤد إلي تسوية، فقد أخذت المقاومة صور انتفاضات شعبية في 1987 و2000، فانتفاضة الحجارة التي جاءت في أعقاب عملية دهس، قام بها سائق شاحنة إسرائيلي يوم 8 ديسمبر 1987، بحق مجموعة من العمال الفلسطينيين العزل في مخيم جباليا شمال قطاع غزة، لم يؤد بالعالم الغربي إلى وصف السائق الإسرائيلي، بأنه إرهابي، مثلما يفعل مع المتطرفين الإسلاميين.

وقد كان هذا الاعتداء هو الشرارة التي فجرت “انتفاضة الحجارة”، حيث تظاهر عشرات الآلاف من الفلسطينيين في مختلف المدن لفلسطينية، وهاجموا أهدافا إسرائيلية مستعملين الحجارة والسلاح الأبيض، بينما استعملت قوات الاحتلال الأسلحة النارية والدبابات، فاستشهد 1162 فلسطينيا، بينهم حوالي 241 طفلا، وأصيب نحو 90 ألفا، مع تدمير ونسف 1228منزلا، واقتلاع 140 ألف شجرة من المزارع الفلسطينية، كما قتل 160 إسرائيليا أغلبهم جنود.

وقامت الحكومة الإسرائيلية في ذلك الوقت باعتقال حوالي 60 ألف فلسطيني من كل المناطق، بما فيها عرب 48، وهو رقم هائل، ومع ذلك لم يثن الشعب الفلسطيني عن التمسك بحقه في بناء دولته المستقلة.

ويمكن القول، إن انتفاضة الحجارة خلقت مسار تسوية جديدة، وكانت سببا رئيسيا وراء الذهاب، نحو اتفاق أوسلو في 1993، وبمقتضاه عادت منظمة التحرير إلى جزء من الأراضي الفلسطينية، وأسست السلطة الوطنية، وحصلت على حكم ذاتي كخطوة على طريق بناء دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس.

مقاومة فشل المسار السياسي

شعر الفلسطينيون بخيبة أمل كبيرة من عدم وجود أي تقدم في المسار السياسي، كما استمرت إسرائيل في ممارستها العدوانية بحق الشعب الفلسطيني، وتضاعف معدل بناء المستوطنات في الضفة الغربية، وجاء اقتحام شارون لباحات المسجد الأقصى؛ ليفجر في عام 2000، “انتفاضة الأقصى” التي يمكن اعتبارها أول احتجاج على فشل المسار السياسي، أسفرت عن استشهاد قرابة 4412 فلسطينيـا، و48322 جريحا ومصابا، ومقتل 1069 إسرائيليا، وإصابة 4500.

وقد مثلت هذه الانتفاضة حالة “هجين” بين الانتفاضة المدنية الشعبية، وبين العمل المسلح أو الانتفاضة المسلحة، وكانت هي بداية التحول في أساليب المقاومة الفلسطينية من العمل المدني الشعبي إلى الفعل المسلح.

ويمكن القول، إنه بسبب السياسات الإسرائيلية التي قادها رئيس الحكومة الراحل أريل شارون، واستكملها رئيس الحكومة الحالي بنيامين نتنياهو، تبخرت أحلام السلام وحل الدولتين، فشهدت الضفة الغربية تضاعفا في أعداد المستوطنين، 7 مرات على مدار 20 عاما، وأصبحت حوالي 40% من أراضي الضفة، تسيطر عليها إسرائيل؛ عبر بناء عشرات المستوطنات التي  قضت تقريبا على حل الدولتين.

المقاومة المسلحة

تحولت المواجهات التي جرت في قطاع غزة إلي نموذج للمقاومة المسلحة، ضد الاحتلال الإسرائيلي، حيث شهدت مواجهة عنيفة بين الفصائل الفلسطينية، وإسرائيل في 2008 قتل فيها 13  إسرائيليا، و١٤٠٠ فسلطيني، كما شهدت في صيف 2014، خمسين يوما من المواجهات المسلحة، قادتها حركة حماس، قتل فيها 73 إسرائيليا في مقابل أكثر من ٢٠٠٠ فلسطيني، ثم شهد قطاع غزة مواجهات مسلحة أخري بين حركة الجهاد وإسرائيل في 2019 و2022، ثم في شهر مايو الماضي، كما استمرت المواجهات المسلحة في الضفة الغربية جنبا إلي جنب مع الانتفاضات، والتظاهرات الشعبية، واستمر عرب إسرائيل في التظاهر ضد الدولة العبرية العنصرية من أجل؛ الدفاع عن حقوقهم في المساواة ورفضا للعنصرية والتمييز.

وجاءت عملية غزة الأخيرة التي نفذتها حركة حماس التي نجحت في القيام بعملية خداع استراتيجي، باغتت به جيش الاحتلال، وقتلت أعدادا غير مسبوقة من الإسرائيليين، لتثير رفض كل الدول الغربية، وخاصة أمريكا بجانب أوروبا والهند، وفتح مرة أخرى نقاش حول استهداف المدنين، فيقينا لا أحد في أي ثقافة أو دين او أمة، يبرر قتل المدنيين العزل أي كانت هويتهم أو ديانتهم، إنما المشكلة الرئيسية تكمن في ممارسة الغرب لهذا الكيل بمكيالين، حين اعتبر كل من يحمل السلاح؛ لتحرير وطنه من الاحتلال هو إرهابي، يجب قتله، وليس مقاوم يجب التفاوض معه، ونزع الأسباب التي تدفعه؛ لحمل السلاح أي وجود احتلال باطش وعنصري.

ما جرى في غزة يوم السبت الماضي، يقول إن المشكلة ليست فقط أو أساسا مع فصائل المقاومة، وعلى رأسها حماس، إنما مع شعب بأكمله يرزح تحت سطوة احتلال استيطاني مدعوم من القوى الكبرى، وإنه في حال فككت إسرائيل القوى العسكرية لحماس أو قضت عليها، فإن هذا لا يعني انتهاء ظاهرة المقاومة، إنما ظهورها بمسمى وشكل جديد، قد يكون أكثر يأسا أو تطرفا من حماس؛ لأن أسباب وجوده هي الاحتلال والقهر والظلم.

عملية غزة تقول، إن كل أشكال المقاومة ستستمر، ما دام بقى الاحتلال، ولا يمكن إدانة المقاومة المسلحة والعنيفة، ما دام بقى الاحتلال، صحيح إنه قد يختلف على توقيت أدوات المقاومة، ونجاعة  بعض وسائلها، فقد يختار الكثيرون المقاومة الشعبية المدنية، وقد يرى آخرون، إنه قد فاض الكيل، ولم يعد هناك أمل إلا بالمقاومة المسلحة؛ لتردع جرائم الاحتلال.

إن الهجوم الإسرائيلي على غزة الذي لم يفرق بين شيوخ وأطفال، ونساء ورجال، سيستمر حتى يُفَكك جانب كبير من القوة العسكرية لحماس، وسيدمر البنية التحتية للقطاع، وسينتقم بشكل وحشي من المدنيين والأبرياء، ولكنه لن يقضي على رسوخ فكرة المقاومة لدى الشعب الفلسطيني، وقدرته على إنتاج أدوات وتنظيمات جديدة، ما دام ظل يرزح تحت الاحتلال.

لا مستقبل لإسرائيل إلا بقبول تسوية تاريخية، تقبل فيها بدولة فلسطينية في الضفة، والقطاع عاصمتها القدس، وإلا سننتظر أكتوبر جديد في عام جديد.