نبدأ بالمتفق عليه بين المراقبين والخبراء والرسميين في المنطقة، وفي العالم، وهو صعوبة أو استحالة التنبؤ بكيفية، وموعد انتهاء الحرب الحالية بين إسرائيل وحركة حماس الفلسطينية، كما يصعب أو يستحيل التكهن بنتائج هذه الحرب على صعيد القضية الفليسطينية، ومستقبل الصراع حولها.

ولكن وسط كل هذه الصعوبات تظهر نتيجة واحدة مؤكدة، أو شبه مؤكدة، وهي التحقيق السياسي الشامل في أسباب النجاح المذهل لحركة حماس في مفاجأة  المؤسسة السياسية والأمنية الإسرائيلية، بهجوم السابع من أكتوبر، الذي كان كاسحا وشاملا واحترافيا، والذي أسفر في مراحله الأولى عن خسائر هائلة في الأرواح والمرافق، فضلا عن عدد كبير من الأسرى، والأهم أنه أسفر عن انهيار أسطورة الردع، وانهيار ثقة الإسرائيليين في القيادتين السياسية والعسكرية، خاصة وأن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو  كان قد بنى استراتيجيته؛ لقطع الطريق على حل الدولتين على استدامة حالة الانفصال بين السلطة الفلسطينية في رام  الله، وبين حكومة حماس في غزة، وذلك من خلال السماح بوصول المعونات المالية للحركة، إضافة بطبيع الحال إلى التوسع الاستيطاني، وغير ذلك من السياسات.

كانت مؤشرات آخر استطلاع للرأي العام الإسرائيلي- قبل كتابة هذه السطور- تقول، إن ٨٤% من المواطنين، يعتقدون أن ما جرى يعكس فشلا مؤكدا لقيادة الدولة، وأن ٥٦ %، يرون أنه يتحتم علي رئيس الوزراء  بنيامين نتنياهو الاستقالة، بعد أن تنتهي هذه الحرب، وكان، ولا زال هناك إجماع بين المعلقين داخل اسرائيل، وخارجها، على أن مشروعات نتنياهو وحكومته، للإصلاح القضائي التي أحدثت شرخا كبيرا في المجتمع، والجيش نفسه، من أهم أسباب ذلك الفشل.

إذن فإن المؤكد، أن نتنياهو شخصيا إما أن يحاكم، فيجبر على اعتزال المنصب، والحياة السياسية، وإما أن يستقيل قبل أن يحاكم، فيجبر أيضا علي مغادرة المسرح  السياسي إلي الأبد، أما إذا استطاع الإفلات من هذه المصائر؛ بسبب دهائه السياسي، وخبراته مع قدراته الواسعة علي المناورة؛ فالمنطقي أن يخسر الانتخابات العامة التي سيحتاجها؛ لتجديد الثقة به بعد هذه الحرب، وما كشفته  المفاجأة المذهلة من إهمال، وتقصير وسوء تقدير وخسائر.

لكن المسألة هنا في حقيقتها، ليست مصير نتنياهو الشخص أو السياسي، بل هي مسألة مستقبل اليمين الإسرائيلي بشقيه القومي والديني، ومن ثم مستقبل إسرائيل نفسها، أو بالأحرى مستقبل الديمقراطية الإسرائيلية.

ففي المستوى الأول من التحليل، نفترض منع إسرائيل من تنفيذ مشروع التطهير العرقي للفلسطينيين،  أي الترانسفير، وفقا للخطط المؤجلة لليمين، وفي هذه الحالة غير المؤكدة، سيكون “طوفان الأقصي “، قد اكتسح أو أغرق  المشروع اليميني القومي، والديني بتصفية القضية الفليسطينية نهائيا وإلى الأبد، وضم الأراضي الفليسطينية المحتلة، وتحقيق حلم إسرائيل الكبرى، المندمجة في المنطقة، والمقبولة بل المرحب بها من كل جيرانها العرب، على حساب حقوق شعب فلسطين، وذلك ما لم تتحول  الحرب الحالية الي حرب إبادة، وتطهير عرقي بالكامل للفلسطينيين، كما سبقت الإشارة، ليس في قطاع غزة وحده، ولكن أيضا في الضفة الغربية، ورغم أن المسئولين الإسرائيليين لا يطرحون هذا الترانسفير علنا؛ كهدف لحربهم الحالية على حماس وحلفائها، إلا أن حديثهم عن تغيير المنطقة بهذه الحرب، وقرار فجر يوم الجمعة الماضي بإخلاء شمال قطاع عزة يثيران القلق من احتمال حدوث ذلك السيناريو، فهذا الإخلاء القهري يتضمن تهجير أكثر من مليون فلسطيني في ظرف ٢٤ ساعة وفقا لمنطوق القرار، وبما أن هذا مستحيل عمليا فهناك قلق مبرر من نزوح جماعي، نحو الحدود المصرية ،كما أن تأكيدات المسئولين المصريين، والأردنيين بالذات رفضهم، لاستقبال لاجئين فلسطنيين بدعاوى إنسانية، تشير بدورها إلى أن سيناريو الترانسفير ليس مستبعدا بصفة قاطعة ونهائية.

بالقطع ليس من السهل الجمع بين  هذا الترانسفير، وضم الضفة وغزة رسميا، وبين اندماج اسرائيل في المنطقة، وليس من الصعب توقع اندلاع براكين الغضب في كل المنطقة، بما يهدد بانخراط  أطراف أخرى في هذا الصراع المسلح (كحزب الله مثلا)، وبما يهدد عددا لا بأس به من أنظمة الحكم العربية المهمة، وذلك في حالة إقدام اسرائيل على تنفيذ طرد الفلسطينيين جماعيا من الأراض المحتلة، كما أنه لا توجد مؤشرات علي استعداد المجتمع الدولي؛ لقبول مثل هذه الجريمة، بما في ذلك الغرب المتعاطف تقليديا مع إسرائيل.

عند هذه النقطة علينا، أن نتذكر أن حرب اكتوبر، والتحقيقات الاسرائيلية حول أسباب المفاجأة، والتقصير فيها، أسفرت عن إنهاء هيمنة اليسار ويسار الوسط، أو ما يسمى بالصهيونية العمالية علي الحكم والسياسة في إسرائيل، وذلك طبعا بين أسباب أخرى، منها تزايد أعداد المهاجرين من اليهود الشرقيين إلى إسرائيل، وكان اليمين القومي والديني بقيادة الليكود هو البديل الجاهز، فظل هذا اليمين مهيمنا على الحكم والسياسة باطراد، منذ عام ١٩٧٦، وذلك باستثناء فترات قصيرة، لحكومات وحدة وطنية، أو حكومات غير يمينية، تكاتفت جهود  الإدارات الأمريكية  مع اللوبي الصهيوني غير الليكودي، ومراكز التأثير في الداخل للإتيان بها، مثلما حدث في حالة حكومة إسحق رابين التي لم تعمر طويلا؛ بسبب اغتياله من قبل متطرف ديني، وبتحريض من اليمين السياسي، أو في حالة حكومة إيهود باراك بعد ذلك، وهي بدورها لم تعمر طويلا، وكان ذلك أيضا من مؤشرات عدم استقرار الحكومات في إسرائيل الذي يعود في جذوره إلى الصراع بين اليمين واليسار حول قضايا الأمن، والقضية الفلسطينية، أوالعلاقة مع الفلسطينيين.

ليس ذلك فحسب، ولكن حتى الحكومات اليمينية نفسها، لم تتمكن أي منها من استكمال مدتها الدستورية؛ لتشهد اسرائيل أكثر من خمس انتخابات عامة في السنوات الست الأخيرة، وها هي ذي الحكومة الحالية في مهب الريح، كما أوضحنا، ومعها قيادة أو  ظاهرة نتنياهو، ومعهما مشروع تصفية القضية الفلسطينية، وذلك في وقت، لا يبدو فيه، أن كلا اليمين واليسار الإسرائيليين قادران على تقديم قيادة تحظى بالقبول الشعبي، وتطرح مشروعا مقبولا؛ لحل معضلة إسرائيل مع الفلسطينيين.

فإذا افترضنا ثبات كل هذه المعطيات حتى إجراء الانتخابات العامة التالية في إسرائيل، والتي لن تجري بطبيعة الحال إلا بعد انتهاء الحرب الحالية، وفي ضوء ما سيظهر من نتائج التحقيق في النكسات الفاضحة لإسرائيل في بدايتها، فالأغلب ألا تسفر هذه الانتخابات عن أغلبية برلمانية، تكفي لتأسيس حكومة مستقرة، وقادرة على اتخاذ القرارات الصعبة المطلوبة؛ لسلام عادل مع الفلسطينيين، وسيعني هذا إعلان إفلاس النخبة أو الطبقة السياسية في إسرائيل، وعندئذ فكل الاحتمالات ستكون مفتوحة، وقد قرأنا في الأيام الأخيرة فيضا من المقالات لكتاب إسرائيليين، ويهود أمريكيين، وأصدقاء غير يهود لإسرائيل يوجه نداءات، (استغاثة) للإدارة الأمريكية، وللوبي اليهودي الأمريكي؛ لإنقاذ اسرائيل من نفسها، حتى لا تتحول إلى دولة فصل عنصري، وحتى لا يحكمها فاشيون دينيون أو قوميون أو عسكريون.

أما كيف سيأتي هذا الإنقاذ؟ وما هي سبل الوصول إليه غير النصح والإرشاد؟ فيمكن أن يكون من خلال خلال التفاهم بين المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، بمعناها الواسع واللوبي الصهيوني الأمريكي، والإدارة الأمريكية نفسها، على سيناريوهات تحفظ الشكل الديمقراطي، وتدفع إلى الواجهة بجنرال متقاعد مثل،/ بيني جانتس، وهو ما سبق تجربته في انتخابات عام ١٩٩٨، التي تكاتفت فيها تلك الأطراف الثلاثة؛ لدعم إيهود باراك، ضد نتنياهو نفسه، وذلك بمبادرة من إدارة الرئيس الأمريكي وقتها بيل كلينتون، وكانت تلك أقرب لحظة، لتحقيق السلام بين إسرائيل وبين الفلسطينيين، بعد لحظة رابين، أما أسباب ضياع تلك اللحظة ، فهي خارج موضوعنا اليوم.

كذلك من المحتمل أن ينشق الجناح العلماني في الليكود، ويفضل الائتلاف مع أحزاب الوسط ويسار الوسط، بدلا من الائتلاف مع الأحزاب الدينية، والأحزاب القومية الأشد تطرفا، لكن ذلك أيضا لن يحدث إلا من خلال التفاهم بين المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، وبين واشنطن واليهود الأمريكيين، وعلى الأغلب لن تكون رئاسة الحكومة في هذه الحالة ليكودية.

من الواضح، أن السيناريوهات المذكورة توا لمستقبل إسرائيل، بعد أن تسكت المدافع، مشروطة بعدم تنفيذ الترانسفير، أما إذا جرى ذلك الترانسفير المشئوم، فليس بوسعنا الآن توقع توابعه الزلزالية في عموم المنطقة، أما نتائجه المباشرة في إسرائيل، فستكون إسرائيل العظمى العنصرية التي يحكمها غلاة القوميين المتشددين، والتي غالبا سيتعطل مشروع دمجها في المنطقة، التي ذكرنا لتونا، أن زلازل الترانسفير سيجتاحها.