فاجأت حركة المقاومة الإسلامية حماس العالم فجر يوم السبت 7 أكتوبر بعملية عسكرية بالغة الجرأة ضد إسرائيل، غير مسبوقة في حجمها وتعقيدها وفاعليتها، على نحو وَضَعَها فى مقارنة بحرب 1973. نتج عن العملية سقوط ما لا يقل عن 1300 قتيل إسرائيلى، وأكثر من ستة آلاف جريح، وما يقارب 150 أسيرا عاد بهم مقاتلو حماس إلى قطاع غزة، وهي أرقام هائلة بالنسبة لإسرائيل بالقياس إلى حجمها السكاني، وما اعتادته من محدودية خسائرها البشرية في مواجهاتها العسكرية السابقة.
إلا أن خسارتها الأكبر كانت اللطمة الهائلة التي وجهتها هذه العملية لكبرياء مؤسساتها الأمنية والدفاعية، لما كشفته من ضعف هائل في أداء المخابرات والجيش ونظم المراقبة والإنذار والإنقاذ، وسوء تقديرها لقدرات حركة حماس ونواياها، وفشلها في حماية مواطنيها على هذا النحو الفادح، بالإضافة إلى الشرخ الذي سببته في الاعتقاد، بأن إسرائيل أصبحت محصنة من التهديد الفلسطيني والعربي.
كما هو متوقع، ردت إسرائيل بعملية عسكرية شديدة العنف على قطاع غزة، لم تفرق فيها بين الأهداف المدنية والعسكرية. وفي محاولة لغسيل سمعتها، طالبت إسرائيل سكان قطاع غزة بترك منازلهم والتوجه جنوباً نحو حدود القطاع مع مصر، بل أن بعض المسئولين والسياسيين الإسرائيليين، دعا مصر صراحة لفتح حدودها؛ لاستقبال المدنيين الفلسطينيين، لتتمكن من القضاء على حماس، دون إيذاء المدنيين.
صحيح أن مجريات هذه الحرب تمس -فى المقام الأول- الشعب الفلسطينى وإسرائيل، لكن موقع مصر ووزنها ودورها الإقليمي والدولي وعلاقتها التاريخية بفلسطين وتحديداً قطاع غزة، تجعلها أكثر طرفا خارجيا، يتأثر أمنه القومي ومصالحه العليا، بما يجري اليوم، كما أنها -بقدراتها ونفوذها- من أكثر الأطراف الخارجية قدرة على التأثير على الوضع، ما دامت امتلكت الرؤية المتكاملة التى تتخطى مجرد إعلان المواقف المبدئية، أو التصدي للأخطار المباشرة، وما دامت استجمعت العزيمة والفاعلية الدبلوماسية التي تليق بقوة إقليمية كبرى، وفاعل رئيسي على المستوى الدولي.
الانفجار الذي حدث، رغم ما فيه من مفاجأة، كان يجب توقعه. فقد كانت الأعوام الأخيرة شديدة القسوة على القضية الفلسطينية، بلغت أقصى درجاتها بتشكيل حكومة إسرائيلية يمينية متطرفة بقيادة بعض قادة حركة الاستيطان، تعادي خيار الدولتين، وتعمل على تقويضه، وتتبنى خطاباً معادياً للعرب، يستحضر المفردات المتعلقة بإخلاء الأرض من السكان العرب. كما بلغت محاصرة الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، والتضييق عليهم في المعايش، خاصة في غزة، والمطاردات الأمنية في الضفة، مستويات غير مسبوقة، وتركت السكان في حال شديدة القسوة.
وقد تمكنت إسرائيل عبر السنوات، بما تملكه من قدرات عسكرية فائقة، وغطاء دبلوماسى دولى، من إغلاق كل السبل المتاحة أمام الفلسطينيين. فبديل التفاوض انتهى عملياً في ظل التحولات العميقة في المجتمع والهيكل السياسى في إسرائيل وفي الموقف الإقليمي والدولي، وتبين عدم فاعلية خيار العصيان المدني الذي شهدته الانتفاضة الأولى ولم يغير شيئاً، وكذلك خيار العمليات الانتحارية والعنف الفردي الذي ردت عليه إسرائيل بعنف بالغ أوشك على تدمير المجتمع الفلسطينى ذاته، وببناء الجدار العازل الذي جعل الضفة الغربية قريبة جدا من السجن المفتوح الذي أصبحته غزة. في نفس الوقت بدأ قطار التطبيع العربى مع إسرائيل يتسارع، حتى أوشك على الوصول إلى المملكة العربية السعودية، وبدا أن الشعب الفلسطيني يقف وحيداً في مواجهة هذا المصير القاسي.
الخلاصة أن الفلسطينيين وجدوا أن القهر الذى يتعرضون له، والتسليم الإقليمي والدولي بالأمر الواقع، يمهد الطريق نحو نجاح إسرائيل في مخططها للاحتفاظ بكل الأرض دون أي تنازل، وفي نفس الوقت تحقيق السلام التام بكل مشتملاته، وفرض هذا الواقع إلى الأبد، بدلاً من مبادلة الأرض المحتلة بالسلام والتطبيع مع العالم العربى كما اتفق المجتمع الدولى واستلزمت قرارات الأمم المتحدة.
إلا أن هذه المعادلة لا يكفي معها قهر الشعب الفلسطيني، والقبول أو التسليم الإقليمي والدوليى، وإنما تتطلب أيضاً استسلام فلسطيني، وهنا كان التحدي للمقاومة الفلسطينية.
في ظل ما سبق جاء ما جرى يوم 7 أكتوبر، كمحاولة لتأكيد أن الشعب الفلسطيني سيظل يقاوم هذا الواقع، وأنه كلما تغلبت إسرائيل على شكل من أشكال المقاومة، أتى الفلسطينيون بشكل جديد، غالباً ما يكون أكثر عنفاً وتدميراً، ما دام ظل الصراع والاحتلال مستمرين. ومن هنا يمكن فهم حسابات حركة حماس، وفهم التأييد الواسع الذي لاقته عملية 7 أكتوبر بين الشعب الفلسطيني، رغم ما أعقبها من عقاب جماعي بالغ الشراسة والتدمير.
لم يكن من الصعب التنبؤ بطريقة الرد الإسرائيلى، حيث أن عقيدة الردع الإسرائيلية تقوم على مبدأ الرد بأقصى قوة ممكنة، وتكبيد الخصم خسائر تفوق كثيراً ما تكبدته إسرائيل. إلا أنها تخطت هذا المستوى، وأعلنت، مدعومة بالولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية، أن هدف عمليتها هو تغيير المعادلة الأمنية في غزة كلية، على نحو يجعل احتمال تكرار هذه العملية مستحيلاً، وذلك بالقضاء على حركة حماس تماماً، كما تم القضاء على داعش.
إلا أن الانتقام من حركة حماس، كما اعتادت إسرائيل شيء، والقضاء عليها كما تم مع داعش شيء آخر تماما، في ضوء الفارق الجوهرى بين تنظيم نابع من مجتمعه، ويجسد قضية حقيقية بغض النظر عن الرأي في منهجه؛ وبين تنظيم رحال يهيم بحثاً عن مكان يرتكز فيه، دون أن يعبر عن قضية جادة. والحقيقة أن من يعرف حقائق المجتمع الفلسطيني يدرك أن القضاء على حركة حماس أمر بعيد الاحتمال، لا سيما إذا لم يتم التوصل إلى تسوية عادلة للقضية الفلسطينية. وحتى لو تم -بضربة من القدر- القضاء على التنظيم، فسينشأ قطعاً في المجتمع الفلسطيني تنظيم مماثل في استعداده لحمل السلاح في مواجهة إسرائيل، بغض النظر عن خلفيته الإيديولوجية، وهو أمر من المرجح أن إسرائيل تدركه تماماً.
فما هى، إذن، أهداف إسرائيل الفعلية من العملية؟ لا جدال في أن في مقدمة الأهداف إنزال هزيمة قاصمة بحركة حماس من خلال ضرب بنيتها الأساسية، واستنزاف ما لديها من ذخيرة وقدرات عسكرية، والقضاء على ما يمكن الوصول إليه من قياداتها، والتضييق عليها أكثر على الصعيد الدولى، وإثارة غضب المجتمع الفلسطيني عليها، باعتبارها المتسبب فيما يعانيه من تدمير ومن يسقط من ضحايا على يد إسرائيل.
إلا أن اختيار هدف طموح مثل القضاء على حركة حماس بما يعنيه من امتداد العملية العسكرية لفترة مفتوحة، ومستوى التدمير الذى تنزله إسرائيل على القطاع، ثم الإلحاح الذي تثار به فكرة تحريك سكان القطاع نحو الحدود مع مصر، والحاجة لأن تفتح مصر حدودها لاستقبال “المدنيين” الفلسطينيين لتتمكن إسرائيل من القضاء على حماس بعيداً عن المدنيين، يشي بأن إسرائيل ربما يكون لديها خطط أكثر طموحاً في القطاع.
فقطاع غزة بكثافته السكانية وظروفه الاقتصادية القاسية ظل يمثل صداعاً أمنياً مستمراً لإسرائيل، لم تفلح معه كل محاولاتها لتهدئته. هل يعني ذلك أن إسرائيل قررت أن تجرب الاحتمال الوحيد الذي لم يتم تجربته: إخلائه من سكانه، ودفعهم لحياة أرحب وربما أكثر رخاءً في مصر، وتحميل الأخيرة مسئولية السيطرة عليهم؟ هل وجدت إسرائيل في ذلك فرصة لأن تضم القطاع بما يملك من احتياطات من الغاز الطبيعى لما لديها من احتياطات، في وقت تزداد أهمية الغاز الطبيعى؟ هل تجد إسرائيل في القطاع ساحة مناسبة لتجربة نموذج لما تنوي تنفيذه في الضفة الغربية، التي يمثل الوجود الفلسطينى فيها بدوره صداعاً من نوع مختلف، يتطلب حلاً بنفس القدر من الجذرية؟
لا يوجد فيما هو معلن من مواقف رسمية ما يمكن أن يؤكد أو ينفي هذه الاحتمالات، لكن هناك الكثير من الشواهد والقرائن ومن دروس التاريخ ما يعززها، ويدعو للتحسب لها، أولاً وقبل كل شئ من جانب مصر، ثم الأردن، ومعهما باقى الدول العربية بطبيعة الحال.
لم تواجه مصر موقفاً على هذا القدر من التعقيد، وتهديداً لأمنها القومى على هذا القدر من الخطورة منذ حرب أكتوبر 1973. فبجانب ما ينطوي عليه هذا المخطط من مظلمة جديدة للشعب الفلسطينى، وانتهاك خطير لمصر وسيادتها، فإنه يمثل أيضاً تكريساً لتفوق اسرائيل الاستراتيجي في المنطقة، وعلى مصر تحديداً، الأمر الذي يحملها تكلفة باهظة تمس مكانتها ومصالحها وقدراتها على الدفاع عن أمنها.
ورغم أن رد الفعل المصري في البداية جاء متردداً غير واضح، فإنه تطور تدريجياً مع اتضاح النوايا الإسرائيلية. وربما كان أهم تطور فيه إعلان فتح معبر رفح لدخول المساعدات ومواد الإغاثة إلى القطاع دون انتظار موافقة إسرائيل، وفي تناقض مباشر مع رغبتها في خنق القطاع وحرمانه من أسباب الحياة حتى يتم القضاء على حركة حماس. كما كان موقف مصر حاسماً في رفض فتح ممر آمن عبر معبر رفح لدخول المدنيين الفلسطينيين الفارين من المعارك، وتأكيد أن مكان الشعب الفلسطيني هو أرضه، وأن مصر لن تشارك في عملية جديدة لاقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه وتحويل المزيد منه إلى لاجئين.
إلا أن هذا الموقف الدفاعي -على صحته- لا يكفي وحده مطلقاً في مواجهة النهج الهجومي الإسرائيلى الحالي، وما يحظى به من دعم غربي شبه مطلق. فالتصدي للسياسة الإسرائيلية، وتوظيف هذه الأحداث المؤسفة في زيادة فرص استعادة مساعي تسوية، يتطلب سياسة أكثر حزماً ونشاطاً وعلانية وجرأة، تواجه إسرائيل وحلفاءها بقوة ووضوح وغضب.
والبداية هي التصدي لمحاولة ربط هذه الأزمة بالحرب على الإرهاب أو المواجهة مع إيران، ووضعها بإحكام في إطار الفشل في إيجاد تسوية عادلة للقضية الفلسطينية، وغلق كل أبواب الحل أمام الفلسطينيين.
كما ينبغي أن توضح مصر بكل حزم لإسرائيل وللولايات المتحدة وللقوى الأوروبية، أن علاقات مصر بإسرائيل تتوقف إلى حد بعيد على سياسة إسرائيل تجاه قطاع غزة، وأن حجم العمليات الإسرائيلية في القطاع، وما تخلفه من ضحايا ودمار يفوق كل قدر مقبول بالنسبة لمصر، وإننا نطلب من إسرائيل النزول بمستوى العنف والعشوائية في عملياتها بشكل جوهري وفوري، لأن الأمر لا يتعلق فقط بالاعتبارات الإنسانية التي يفترض، أن يراعيها الجميع، وإنما أيضاً بأمن مصر القومي، وباستقرار المنطقة كلها.
وسيكون على مصر أيضاً التحرك بشكل علني، وصريح ونشط في الاتصال بالولايات المتحدة والدول الأوروبية، وعدم الاكتفاء باستقبال الزائرين وإصدار البيانات، إنما القيام بزيارات مكوكية، تعبر عن درجة الاهتمام والانزعاج المصري، والضغط عليهم ليس فقط؛ لتفهم موقف مصر، وإنما لتغيير موقفهم من رد الفعل العسكري الإسرائيلي، وسحب الضوء الأخضر أو الشيك المفتوح الممنوح لها الذي نعتبره خطأً كبيراً، بل وأن نذكرهم، بأن استمرار هذه القضية دون حل، كما تصر الحكومة الإسرائيلية، هو ضمانة مؤكدة؛ لتكرار مثل هذه الأحداث المؤسفة، وأن علينا جميعاً التعلم من أخطائنا والخروج منها بالدروس الصحيحة، وألا نسير وراء إسرائيل، دون تفكير نحو المزيد من الدماء والدمار وعدم الاستقرار، الذي إن اقتصر على إسرائيل والأراضى الفلسطينية اليوم، فإنه لن يظل محصوراً فيهما مستقبلاً.
كما سيكون على مصر، رغم كل تحفظاتها على حركة حماس، التصدى بكل حزم لمحاولات تحويل الحركة إلى نسخة أخرى من داعش، وبالتالي حظر أي تعامل معها وأي اتصال بالمسئولين فيها، لأن هذا سينتقص من حرية حركة مصر على الساحة الفلسطينية، وسيضيف عنصر تعقيد إضافي، الجميع في غنى عنه.
يتطلب نجاح هذه التحركات قيام مصر بتعبئة العالم العربي حول هذه المواقف، وبناء جبهة عربية قوية وموحدة، وتنسيق تحركات مصر مع الدول العربية الرئيسية، وفي المقدمة منها بطبيعة الحال السعودية والأردن وقطر والسلطة الفلسطينية، وربما العودة؛ لتشكيل لجنة تسيير وزارية عربية مصغرة على المستوى الوزاري، تكلف بتنسيق المواقف مع القضية الفلسطينية، لزيادة فاعلية التحركات العربية وتفادي تضاربها. صحيح أن هذا الأمر لم يكن سهلاً عادة، إلا أن تداعي الأحداث على مدى الأسبوع الماضي، ترك تأثيراً قوياً على مختلف الدول العربية، وربما يكون قد أتاح فرصة؛ لضبط إيقاع السياسات العربية تجاه إسرائيل، واستعادة قدر أكبر من التناغم والفاعلية.
مثل هذا النهج، ينبغي أن يأتي في سياق سياسة مصرية أوسع، وأشمل تجاه إسرائيل والصراع العربى الإسرائيلي، الأمر الذي حاولت مناقشته في مقالين، سبق نشرهما في هذا الموقع العزيز في مايو الماضي بعنوان “المسألة الإسرائيلية وسياسة مصر الخارجية”، وعنوانهما: