كأن القضايا محل الانتخابات الرئاسية المصرية كالفقر والمرض والعوز والجوع والأمية والدين الخارجي قد انتهى آثارها، حتى يأتي تأجيج الصراع الإسرائيلي الفلسطيني؛ ليضيف مشكلة جديدة على مائدة الاقتراع في الانتخابات المصرية المقرر لها، أن تجرى في ديسمبر القادم.

المشكلة الكبرى الآن، هي أن مشاعر المصريين، خاصة الرأي العام الشعبي نحو القضية الفلسطينية متأججة، وكم ودرجة الغضب من تاريخ الصراع مع إسرائيل في ذهن المصريين كبير، وربما لا تقل، إن لم تزد عن حدة الغضب الفلسطيني تجاه إسرائيل.

دفن الأسرى المصريين أحياء في سيناء، واحتلال أرضها لسنوات طويلة، وتعبئة الغرب المنشئ لهذا المشروع الاستعماري، ضد مصر ومنع تطورها وتنميتها، وسلب الموارد الطبيعة والمواد الخام من الأراضي المصرية المحتلة، وتهجير المصريين من قراهم وغيرها وغيرها من أمور، استحدثت مؤخرًا بالسعي الصهيوني بتعاون عربي؛ لإيجاد بديل عن قناة السويس، كلها أشكال لم، ولن تمحى من ذاكرة المصريين، بل أنهم يسعون دومًا، أن تكون ذاكرة تتوارثها الأجيال، حتى لا ينسى الأبناء ما عاني منه الآباء والأجداد.

وعلى الرغم، من أن الدولة في مصر سعت إلى الحد من تلك الذاكرة، من خلال تطبيق اتفاقات اقتصادية وثقافية مع إسرائيل، عبر معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية عام 1979، إلا أن تلك الجهود فشلت، وظل السلام المصري الإسرائيلي باردًا، وما برحت أن بقت تلك الأمور حبرًا على ورق، إذ لم يستطع أي حاكم مصري، أن يجبر شعبه على التعاطي معها، كما فعلت بلدان عربية أخرى بعضها، لم يشارك مباشرة في الصراع مع إسرائيل.

لذلك لا محالة، أن تكون الحرب اليوم في غزة، وربما جنوب لبنان حاضرة على مائدة الانتخابات الرئاسية المقبلة.. لكن كيف؟

في البداية هناك سؤال مهم..هل من الضرورى بداية، أن تجرى الانتخابات في ظل تلك الظروف والمعطيات الإقليمية الخطيرة؟ الإجابة على الأرجح بنعم. إذ أن الشارع الدستوري لم يترك خيارا أمام الشارع القانوني، وصانع القرار، بأنه طالما، أن الانتخابات ستجرى وفق معادلة قاض على كل صندوق، فلا مناص من انتهاء تلك العملية قبل 18يناير2024. من هنا، فإن التأجيل هو قرار في غاية الصعوبة، وسيكون شديد الوطأة على العملية الانتخابية، التي ستجرى حتمًا بإشراف موظفي الدولة، وليس القضاة لو تجاوزنا هذا الموعد. لكن هذا كله لا يمنع، أن يُضغط جدول الانتخابات لناحية التبكير أو الإرجاء لأيام، لكن هذا أو ذاك سيكون داخل الفترة الزمنية المرصودة حاليا.

تبقى مشكلة التعاطي مع الشارع، وهي الهم الأكبر أمام صانع القرار الذي على الأرجح سيكون أمام عدة أمور ضاغطة. أولها، عليه من حيث المبدأ ضغط من قبل مواطن معبئ، ضد كل ما هو صهيوني. ثانيًا، عليه أداة ضغط ترتبط بتعبئة إسبوعية قادرة على الحشد، وهي صلاة الجمعة، وهو جَمع طبيعي وجاهز للتظاهر، وهو تظاهر على الأرجح، لن يقابل بأية مواجهة أمنية؛ بسبب مناخ الانتخابات، لكنه في ذات الوقت ضغط، قد يتراوح بين الحث على التفاعل الإيجابي مع الموقف، وبين الاتهام بالتخاذل أمام إسرائيل. وثالثا، عليه ضغوط من قبل قوى مدنية، سيراها تسعى إلى المزايدة على مواقفه، ومن ثم، عليه دائما أن يقفز إلى الأمام؛ ليسبقها سعيا؛ لتجنب مواقف غير محمودة منها في الشارع. رابعًا وأخيرا، وربما هذا هو الأهم، عليه مواجهة الإخوان المسلمين الذين ما فتئوا، أن يستغلوا كل حدث داخلي أو خارجي بغرض زعزعة نظام 30 يونيو.

يبقى السؤال: ماذا سيفعل صانع القرار أمام كل هذه الضغوط؟

بالطبع هو في موقف لا يحسد عليه، ليس فقط؛ بسبب تلك الضغوط آنفة الذكر فحسب، بل بسبب ضغوط أخرى خارجية، ترتبط بدعاوى الترانسفير أو تهجير عشرات الآلاف من الفلسطينيين من أهل غزة، ولاجئ 48 القاطنين بها على أرضها إلى سيناء. هذا الأمر لا يرتبط بتصريحات بعض المسئولين الإسرائيليين للسكان في غزة بالذهاب إلى مصر، بل أيضا بما يتردد من ضغوط أمريكية؛ لضرورة قبول مصر بذلك، وهو ما ترفض مصر مناقشته من حيث المبدأ.

هنا يبدو، أن المواقف ستتضح بالشكل الذي ستتطور إليه الأمور، بمعنى أن المعطيات على الأرض هي من سيتحكم في المشهد المصري التالي. بعبارة أخرى، ربما تصبح القاهرة مجرد رد فعل، لما يجرى من أحداث. لكن لا شك أن هذا من أكبر الأخطاء التي يمكن أن ترتكب لا حقا.

واحد من الأمور التي يجب أن تتفاعل معها القاهرة؛ كي تكون فاعلا في الأحداث، وليس رد فعل أو مفعولا به، أن تستعيد مصر زمام المبادرة التي سبق، أن قامت بها في مرات عديدة، بالسعى؛ لوقف إطلاق النار بين الجانبين. صحيح أن تلك المرة مختلفة عما سبقتها، لأن الإسرائيليين يدركون، أن الصفعة التي تلقوها كبيرة للغاية وغير مسبوقة، وأن عليهم إسكات غضب الداخل بالمزيد من المعاناة لشعب غزة، من قتل وتشريد وارتكاب المذابح وإحكام الحصار وغيرها من أمور، وهو ما يجعل صانع القرار المصري في مأزق البحث عن دور جديد؛ للتهدئة. لكن في ذات الوقت يجب أن نشير، إلى أن إسرائيل بالمقابل ربما تجد في وقت ما في الدور المصري مخرجًا كبديل لحالة العض على الأصابع، لا سيما مع تحقيق الطرف المقابل نجاحات على الأرض، خاصة وأن تلك هي بالفعل اللغة التي درج الصهاينة على فهمها، وعدم فهم غيرها. ولا يخفى على كثيرين، أن تلك المساعي ستفضي إلى إخراس الأصوات الداعية إلى الترانسفير، والتي ستكون عواقبها وخيمة، ليس فقط على القضية الفلسطينية، بل- والأهم مصريا- على الاقتصاد للمصري الذي بالكاد يتحمل وجود مئات الآلاف من السوريين والسودانيين واليمنيين والعراقيين.

الأمر الآخر المهم، هو ضرورة امتصاص غضب الشارع المصري من جراء الأعمال الصهيونية الإجرامية، عبر تفاعل صانع القرار مع أحداث الحصار، والتجويع لشعب غزة، ومن ثم، فإن دفع المزيد من المساعدات من الأدوية والأغذية عبر الشاحنات من معبر رفح (بعد غلق معبر كرم أبو سالم التي تشرف عليه إسرائيل)، ربما يكون مهما للغاية، رغم الضغوط الصهيونية التي شوهدت؛ لرفض ذلك، كما أن قبول مساعدات الأطراف العربية الرسمية وغير الرسمية؛ للتبرع بكافة أعمال الإغاثة، ولو بوساطة الأمم المتحدة والصليب الأحمر الدولى؛ لكي يشهد العالم رد الفعل الإسرائيلي على ذلك، سيكون له مردود كبير على الأرض؛ لامتصاص غضب المصريين من أوضاع أخوانهم الإنسانية المأساوية، وكذلك امتصاص رغبات بعض الفلسطينيين؛ للقدوم إلى مصر، لا سيما في هذا الوقت، ونحن على مقربة من الانتخابات الرئاسية. بالطبع من الضرورى إلى جانب كل ذلك مد الفلسطينيين بالمساعدة في فتح المعبر لاستقبال الحالات المرضية الحرجة؛ لعلاجها على نفقة الدولة في البلاد. ولعلنا نهمس في آذان البعض، لو قلنا إن مصر يمكن، أن تضطر -بيدها هذه المرة- إلى فتح الأنفاق التي أغلقتها بأيديها، بغرض مرور المساعدات عبرها؛ لتخفيف المعاناة عن الفلسطينيين.

كل تلك الإجراءات وإجراءات أخرى كالتبرع بالدم (الذي بدأت حملته فعلا منذ يومين)، وتقديم المواد الخام القادرة على تأسيس مأوى؛ لمن فقد مسكنه وغيرها من الأمور، يجب أن تلقى إعلاميا قدرًا من الاهتمام، حتى يعرف الداخل قبل الخارج، أن مصر قادرة على الفعل، وليس مجرد رد الفعل. ومن ثم سيكون كل ذلك مع آله إعلامية قوية؛ لتبرير رفض الترانسفير باعتباره خدمة للكيان الصهيوني، أكبر داعم لصانع القرار في الانتخابات القادمة، التي يمكن في ظل تلك الأجواء، والأفعال المصرية الإيجابية، أن تجري في هدوء نسبي. وقد أفلح الرئيس المصري كثيرًا في التأكيد مساء الخميس الماضي على ربط الترانسفير بتصفية القضية الفلسطينية، وهو أمر حقيقي ترغب إسرائيل في العمل عليه، حتى تفرغ القطاع من سكانه، ويصبح لدينا مشكلة لاجئين أخرى، ودولة جديدة، لم تعرف المخيمات، يراد لها أن تغرق في أوحالها.