بعد ليلتين من الحيرة في محاولة التعامل المنطقي بتحليلاتٍ، وحساباتٍ للمكاسب والخسائر، انزوى العقل متواريًا في خَجلٍ مُفسحًا الطريق للقلب، للقلب فقط، ولا شيء سواه الآن. لم تعد لكل تساؤلات العقل من جدوى أمام الأحمر القاني المُتدفِق عَبر الزمن، حيث لا فارقَ هناك بين طفل رضيع وشيخٍ عجوز، يغادران في ألم. لم تعد الإجابة،على أهميتها، وجدارتها بالرصد، واجبة الآن على أسئلةٍ مِن نوع مَن الذى بدأ بالاستفزاز، ولا ما هي طبيعة الخطوة التالية، وتاريخها المرصود، إن وُجِد، ولا مَن الذي حَرَض، ودَبَر وخَطَط بالضغط على الجرح النازف، منذ سنين؛ كى ينفجر الآن. إن عاين المرء ما حدث بفَجرِ اليوم السابع من هذا الشهر البديع، في سياقٍ زمنىٍ طويلٍ من الأحداث التى عَمَّدت بالدم تاريخًا من الآلام العظيمة، فلن يُجهِد نفسه في البحث عن إجابة، بل لعله يُحجِم عن السؤال ذاته، إن رَاوَد عقله الذي نال من الهزائم ما نال.
“أذهَب عميقًا في دَمى، أذهب عميقًا فى الطَحين، لِنُصابَ بالوطنِ البسيطِ، وباحتمالِ اليَاسَمين”. يأتني صوته في خلفية المشهد اليومي المُتكرر واضحًا وسط الصراخ، والعويل وصخب صافرات الإنذار، وأزيز الأشباح السوداء التي تقذف الموت، ولا تهدأ. ألمح طيفه بين رُكام البنايات، وبقايا أشجار الزيتون المحترقة. شاحبًا كان، وقد ازداد تَورُم عيناه المُستديرتين، كَكُرَتين من البلور، انطفأ وَهَجهما. دُخانٌ كثيف يملأ السماء الزرقاء الساكنة، وكأنها ترقب، بلا اكتراثٍ، ما يحدث بعيدًا عنها على الأرض، استغفر الله. غبارٌ يتراوح ما بين الأبيض والأسود، وسط ألسنة اللهب صاعِدًا إلى السماء، ثم يتلاشى كسحابةٍ، ذهبت بعيدًا في غروب النهارات القصيرة، حاملةً معها أرواحًا، غادرت الأجساد التي لم تعد تشعر الآن، بشيء على الإطلاق، مجرد أشلاءٍ من لحمٍ، فَقَدَ دِفئه. لا يمكن للعقل، أن يحيط خُبرًا، بما يحدث، حين يستوى الموت -حرفيًا- بالحياة، فلا يصبح للعُمرِ من معنىً فريدٍ. يُداهِمُنى اضطراب ضربات القلب، وارتفاع السكر والضغط والهَمُ الثقيل. أخجل مِن متاعبي، ضعيفٌ أنا، وأقوياءٌ للغاية مَن هُم هُناك، بِحُكم المكان والمكانة.
“أذهَب عميقًا في دَمي، أذهب عميقًا فى الطَحين، لِنُصابَ بالوطنِ البسيطِ، وباحتمالِ اليَاسَمين”. بعد أيامٍ من استسلام العقل للقلب، وعلى وقعِ الاعتياد البائس، بدأ العقل في الإلحاحِ ثانيةً على استحياءٍ، بحثًا عن الإجابات المُحتَمَلة على سؤالٍ قديمٍ كَدهرٍ، لكنه ما زال بديهيًا وبِكرًا بلا إجابةٍ، منذ 1936، وإن تكثف حضوره بقسوة في 1948، فأفرز واقعًا بائسًا، ما لبث إلا، وقد تطور لواقعٍ جديدٍ أكثر بؤسًا بعد ذلك بتسعة عشر عامًا. لا ومضات مضيئة، منذ ذلك الحين باستثناءٍ وحيدٍ، لم يكتمل.
إلى متى تستمر الآلام العظيمة والحصار السرمدي؟ ألجأُ في البحث عن الإجابة؛ للصاعِدِ نحو التئامِ الحُلم، للمولودِ من حَجَرٍ وزَعتر، للنازِلِ من نَحلة الجُرح القديم إلى تفاصيلِ البلاد، حيثُ اغترابُ البَحرِ بين رصاصتين، للغيومِ التى شَرَدَتهُ، وللجبالِ التي رَمت معاطِفها؛ فخبأته. ألجأُ في البحث عن الإجابة، لِمَن سَرَقوه من الأبَد، وبَعثروه على الصليب، فهو الخريطة والجسد، وهو اشتعال العَندليب. ألجأُ في البحث عن الإجابة، لِمَن لَهُ وصايا البُرتقال، وتجاعيدُ الجبال والهتاف والزفاف، لمن له المجلاتُ الملونة والمراثي المُطمئنة، لِمَن لَهُ مُلصقاتُ الحائط، العَلَم، التَقدُم، فرقة الإنشاد، مرسوم الحداد وكلُ شيء. أردِدُ مع صاحب الطيفِ الهَزيل: “يا أيُها الوَلدُ المُكَرَّسُ للنَدى، قَاوِم”، ثم أذهبُ عميقًا ولا أعود.
*قصيدة “أحمد العربي” للشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش.