قامت الجمهورية الجديدة من 2014م على فكرة إخفاء الشعب المصري من المعادلة السياسية، إخفاءَ يصل به إلى حالة الموات السياسي، بحيث لا يهمس ثم لا ينبس ثم لا ينطق ثم لا يرفع صوتاً باحتجاج أو معارضة.
فقد جاءت دولة ما بعد 30 يونيو 2013م وهي تعتقد- ولا تُخفي عقيدتها- أن الشعب خطر على الدولة، وقد ثبت هذا الخطر بما لا يدع مجالاً للشك في خروج الشعب بالملايين في أواخر يناير وأوائل فبراير 2011 م.
لم تقدر دولة ما بعد 30 يونيو أن الخطاً كان من الدولة ذاتها التي كانت قد تعفنت وكمكمت وزكمت رائحتها الأنوف من طول ما استقرت ثم استبدت ثم فسدت ثم ضعفت ثم ترهلت ثم شاخت ثم عجزت عن إصلاح نفسها ثم سقطت.
العكس هو ما قد حدث إذ اعتبرت دولة ما بعد 30 يونيو أن الشعب بخروجه هز أركان الدولة وعرضها للخطر الذي تعرضت له دول ومجتمعات في الإقليم إبان ثورات الربيع العربي، دولة ما بعد 30 يونيو حملت الشعب مسؤولية 25 يناير وما بعدها، وقد عقدت العزم على ألا يتكرر يوم مثل يوم 28 يناير 2011م حيث أعطت الشرطة ظهرها للشعب وكفت عن أن تدخل في صدام عنيف معه وتركت مواقعها وغادرت الميادين وكانت النتيجة: سقوط النظام.
لم تدرك دولة ما بعد 30 يونيو أن نظام ما قبل 25 يناير كان قد استنفد رصيده وانقضت أسباب بقائه وفقد مبررات وجوده ومات من مطلع القرن الحادي والعشرين مع ظهور فكرة التوريث من الأب الحاكم إلى النجل الشاب بدءًا من عام 2002م، النظام كان قد سقط بالبطيء على سنوات، وفقط كانت 25 يناير رفعاً للغطاء عن الموت المستور عن الأعين.
ثم بعد دولة 30 يونيو جاءت الجمهورية الجديدة، وبدل أن تقوم بإصلاح الدولة وإرضاء الشعب عمدت إلى إعادة انتاج الدولة القديمة مع جرعة زائدة من العنف والقسوة بقصد إيقاع أكبر قدر ممكن من القهر بالشعب حتى لا يكرر خطأه الذي اقترفه في يناير 2011م.
وقد أثبت الشعب عراقته التاريخية في قدرته على التحمل، فهو الشعب الوحيد- في كافة القارات- الذي نزل به من القهر والفقر في عشر سنوات 2013 – 2023م ما يكفي لدفع غيره من الشعوب إلى أحد احتمالين أو هما معاً: فإما الانفجار وإما الانهيار، الشعب المصري- بصلابته الروحية والنفسية- لم يقع له انفجار ولا انهيار، فهو – بالطبيعة- شعب مسالم صبور حمول غير متمرد ولا مشاكس، الصبر التاريخي العميق الجميل هو كل عدته وعتاده في مواجهة ما يحيق به من ظلم ومن يحكمونه من الظالمين، هذا الصبر لا يعني جمود الشخصية المصرية، ولا يعني أنها ثابتة ثبات الجماد والأحجار على خصال عقلية ونفسية وروحية معينة، كما لا يعني أنها- كشخصية قومية- سلبية أو خانعة أو جبانة كما يحلو للبعض أن يزعم، بل هي شخصية قوية تستمد قوتها من مرونتها ومن استعدادها للتطور وقبول ما يقضي به الزمن من تغير وتبدل.
رأيتُ هذا الشعب، رأيتُ شرائح منه وطلائع تمثله وتعبر عنه، رأيتُه يعلن أنه على قيد الحياة فلم يمت سياسياً ولم يفقد شهيته للسياسة كما خططت وأرادت الجمهورية الجديدة، وهي جمهورية عقيم، هي سلطة لا تحب الشعب كقوة سياسية، ولا يحبها الشعب كقوة تسلط وآلة قهر ومكنة فقر، لا تأمن للشعب، ولا يأمن لها الشعب.
رأيت طلائع الشعب في مكاتب الشهر العقاري وما حولها على مدى ثلاثة أيام كاملة من الصباح حتى المساء، رأيت مصريين من البنات والشباب والسيدات والرجال من كافة شرائح الطبقات الوسيطة ومن كافة الأجيال ومن كافة المهن ومن كافة الخلفيات الثقافية ومن كافة المستويات المعيشية، حدث ذلك في الثلث الأول من أكتوبر 2023م، حيث ذهبوا يستصدرون توكيلات انتخابية دعماُ لشاب فكر أن يترشح لمنصب رئيس الجمهورية، ورأوا فيه روح المبادرة، وعلقوا عليه أملاً، ورأوه نافذةً للمستقبل، أعجبهم فيه أنه ترشح من دماغه ومن قراره وأنه ليس من مجموعة المرشحين الذين وقع اختيار الديكتاتورية عليهم لتمثيل دور المرشحين المنافسين لرئيس الجمهورية، والشعب يعلم أنهم ليسوا مرشحين على وجه الحقيقة، كما أن الشعب يعلم أنهم ليسوا منافسين على وجه الحقيقة، ليست لديهم شجاعة الترشح بقرار مستقل من أنفسهم لأن هذا يعني تحدياً شخصياً للحاكم، كما تنقصهم شجاعة المنافسة الحقيقية لأن الجسور مقطوعة بينهم وبين الشعب، هم مجرد تسديد خانات وملء فراغات وتستيف أوراق واستيفاء الشكل القانوني للانتخابات حتى يتم تخليد الحاكم في الرئاسة دون تغيير ولا تداول سلمي حقيقي للسلطة.
المرشح الشاب جاء من خارج هذه المسرحية، لهذا تجاوب معه غير قليل من المصريين، تجاوبوا معه رغم الحصار عليه ورغم التضييق عليهم، وكانت ثمرة هذا التجاوب حالة ديمقراطية وليدة ولو على نطاق ضيق محدود.
أهمية هذه الحالة الديمقراطية، ولو أنها محدودة وعلى نطاق ضيق، ولم تُترك حتى تتسع وتكتمل، تكمن في عدة نقاط:
1 – هي حالة ديمقراطية عملية نفعية مجردة عن الإيديولوجيا النظرية والشعارات السياسية، فالمصريون الذين خاضوا هذه التجربة نظروا للديمقراطية كما ينبغي النظر إليها، نظروا على أنها مصلحة دنيوية، لا عقيدة ولا ديانة ولا مذهب، مصلحة تمكن المواطن من التعبير عن إرادته، وأول أبجديات هذه الإرادة أن يتمكن المواطن من اختيار من يحكمونه وهذه هي أول السياسة العملية، ذهب الذين ذهبوا إلى مكاتب الشهر العقاري لإستصدار توكيل لترشح من يظنون أنه سوف يأتي بإرادتهم لا بإرادة القوة، وكان هذا المسلك منهم احتجاجاً على الوضع القائم حيث الحاكم له صلاحيات ألوهية كلية شمولية طغيانية قاهرة.
2 – لا ديمقراطية دون استعداد للصراع من أجلها، ولا صراع من أجلها دون أن تكون من ورائها مصلحة أو مصالح للفئات الاجتماعية التي تكافح من أجلها، ينجح النضال الديمقراطي عندما يجعل من الديمقراطية وسيلة وغاية في آن واحد، وسيلة لتحقيق المصالح وغاية لاستمرار ترشيد النظام السياسي وضبط حركة الحكم. التجربة الديمقراطية الأولى 1923 – 1953م حققت مصالح الطبقات الارستقراطية ولما ضاقت عن تحقيق مصالح الطبقات الوسيطة والفقيرة سقطت، سقطت لأنها لم تستوعب غير طبقة واحدة، سقطت لأنها همشت باقي الطبقات الذين شاركوا أو فرحوا بسقوطها. ثم غابت الديمقراطية من 1953م – 2023م إلا من ومضات محدودة الأثر سطحية العمق.
3- من مطلع القرن الحادي والعشرين والمصريون يحاولون، عشر سنوات من المحاولة سبقت 25 يناير، أعقبها عشر سنوات من البطش بعد 30 يونيو، وما زالوا يتلمسون الطريق ماذا يفعلون في هذا القرن الجديد؟ القرن التاسع عشر كان قرن التمدين أي الالتحاق بالحضارة الأوربية لكنه انتهى بالعكس تماماً، انتهى بالاحتلال الأوروبي، بدل أن نكون أنداداً لأوروبا صرنا خاضعين لها، كانت هذه هي خلاصة مساعينا في القرن التاسع عشر، نوينا الذهاب إلى آفاق التمدين، لكن وقعنا في وهدة الاحتلال.ثم كانت الوطنية والدستور والاستقلال والعدل الاجتماعي هي محاور وجبهات كفاح المصريين في القرن العشرين، هذه كانت مقاصدنا ونوايانا، لكن مآلاتنا الفعلية انتهت إلى عكس ما نوينا وإلى نقيض ما قصدنا: 1- وطنية عنيفة غليظة قاسية تمجد نفسها على حساب الشعب وتعبد ذاتها على نفقة المصريين. 2- دستور من نصوص معطلة بحبر رخيص على ورق أرخص فلا يصون حريات ولا يحفظ حرمات ولا يكفل الحقوق. 3- استقلال لنا منه الشكل دون المضمون فقد خرج المستعمرون وبقى تراثهم حياً في نظرة الحاكمين للمحكومين، رحل المستعمرون وبقي لنا وعلينا مضمون العلاقة الاستعمارية، علاقة الاستعلاء ثم القهر ثم الاستغلال. 4- ثم عدالة اجتماعية ضاعت في مجتمع يشهد تفاوتاً صارخاً في حظوظ الحياة بين من يملكون ومن لا يملكون.
4 – بعد ربع قرن من النضال غير المنظم من مطلع القرن حتى كتابة هذه السطور، لم تتحدد وجهة المصريين في القرن الجديد على نحو واضح، الشيء الواضح هو الرسالة العمومية التي عبر عنها الشعب إبان ثورته المجيدة في 25 يناير 2011م، رسائل من نوع العيش، الحرية، العدالة الاجتماعية، الكرامة الإنسانية.ثم بعد ربع قرن من النضال لا توجد قوة منظمة غير مؤسسات الدولة بما فيها الجيش والبيروقراطية الأمنية والإدارية، أقصد لا توجد قوة سياسية مدنية منظمة لها فكر ولها وزن ولها ثقل ولها حضور ولها مشروع ولها رؤية للمستقبل. لا يوجد شيء من هذا. ومن ثم لا توجد بلورة عملية لقوة تغيير معتبرة على الأرض. الفراغ سيد الموقف، لا يملؤه صوت يهمس أو ضمير ينبس أو ضوء خافت هنا أو هناك وعلى فترات متباعدة.
5 – حدثت مصادرة للمجال العام من منتصف 2013م، وهي فترة كافية لتجفيف المنابع، وإحكام الخناق، فلا برلمان يعبر عن الشعب، ولا صحافة حرة، ولا أحزاب مسموح لها بالحركة، ولا إعلام مفتوح لتعدد وتنوع وجهات النظر، ولا انتخابات حقيقية، ولا سماح بأي مما هو منصوص عليه في الدستور من حريات وحقوق، كل ذلك مع التوسع في السجون واستسهال إيداع كل من ينطق وراء الأسوار فترات تطول وتقصر حتى إذا تأدب وعرف الصراط المستقيم خرج صامتاً عن خوف أو عن تعب ومرض أو عن تعقل وإيثار للسلامة.
لكل هذه النقاط الخمس، فإن طلائع المصريين الذين ذهبوا إلى مكاتب الشهر العقاري، كانوا في الحقيقة كمن عادوا من العالم الآخر، أو كمن خرجوا من كهف لبثوا ظلماته أمداً بعيداً، أو من نفذوا بجلدهم من نفق مظلم له فتحة مدخل تستدرجهم داخله وليست له فتحة مخرج تستنقذهم منه. كانوا بشارة النور ورسالة التحدي لما فُرض عليهم وعلى البلد كلها من قهر وقمع، كانوا رسالة مفادها أن الشعب حي لم يمت كما خططت دولة 30 يونيو ومن بعدها الجمهورية الجديدة.
إحياء الشعب- كقوة سياسية وإرادة فاعلة وصاحب سيادة- هو الضمان الوحيد لإيقاف طغيان الديكتاتورية، لكن هذا الإحياء يلزمه فكرة مقبولة ومعقولة تحظى بالقبول من عموم الشعب، فكرة يلتف حولها المصريون.
عظمة ثورة 1919م أنها جمعت الناس على فكرتين: 1- الاستقلال والدستور. 2- الدين لله والوطن للجميع. الفكرة الأولى حددت الغاية. الفكرة الثانية منعت الانقسام الديني على الأقل. ولما حدث انقسام كان سياسياً لا دينياً. كان تعدداً لا تشرذماً، كانت ديمقراطية معيبة من زاويتين: العيب الأول أنها تحت الاحتلال الفعلي رغم الاستقلال الشكلي. العيب الثاني: أنها ديمقراطية الارستقراطية لم تتسع للشعب كله.
ثورة 23 يوليو 1952م قامت من أول يوم على استبعاد الشعب، بزعم أن أبناءه من ضباط الجيش ينوبون عنه ويمثلونه في الحكم، هذا الاستبعاد للشعب جعل الجمهورية تولد غير جمهورية حقيقية، تولد جمهورية أوليجاركية، القرار فيها حكر على الحاكم الفرد المطلق وعدد محدود ممن هم محل ثقته، وظلت الأوليجاركية تضيق ثم تضيق ثم تضيق حتى وصلت في السنوات العشر الأخيرة قبل ثورة 25 يناير 2011م أن مصر كان يحكمها عدد أصابع اليدين.ثم أخذت تضيق وتضيق وتضيق بعد 30 يونيو 2013م فمن يحكمون الجمهورية الجديدة لا يزيدون عن أصابع اليد الواحدة.هذه هي مشكلة مصر الأولى ومنها تتفرع باقي المشكلات.
هذه الجمهورية الأوليجاركية لا مكان فيها للشعب، فالبرلمان الذي هو- نظرياً- يمثل الشعب وينوب عنه هو في الحقيقة من اختيار الأوليجاركية وليس من اختيار الشعب، ومن ثم فهو في خدمة الأوليجاركية ضد الشعب، فلم يحدث في السنوات العشر أن استخدم البرلمان حقه الدستوري ليعترض على القروض المهولة التي قفزت بمديونية البلاد إلى أرقام كابوسية، لم يستخدم البرلمان في الاعتراض على إنفاق هذه القروض في مشاريع للفشخرة الأسطورية يتحمل الشعب أثقال ديونها ولا يستفيد منها، كذلك لم يعترض البرلمان على ما حاق بالشعب من قهر غير مسبوق وفقر غير مبرر. برلمان 2015م ثم برلمان 2020م كلاهما من صنع الأوليجاركية وكلاهما خدم أغراضها ضد المصالح والأولويات العامة للشعب .
بعد عشر سنوات 2013م- 2023م من أشد أنواع الجمهوريات أوليجاركية ليس للشعب من نصيب غير الخوف والقهر وغير الصبر والفقر، ولو أردنا الخروج من هذه المحنة فليس من حل إلا مصارحة أنفسنا بالحقيقة، ثم مواجهة الأوليجاركية ليس في انتخابات الرئاسة، لكن في انتخابات البرلمان، حتى ننتزع سلطة الرقابة والتشريع لصالح الشعب، حتى نستنقذها من سيطرة الأوليجارك عليها، وهذا هو أول طريق الديمقراطية الطويل، الفصل بين السلطتين لأن دمجهما بهذه الصورة القسرية يمكن الأوليجارك من رقاب الشعب.
الشعب الذي خرجت طلائعه تمارس أدنى حقوقها الدستورية- استصدار توكيل انتخابي لمرشح لم يوافق هوى الديكتاتورية- فوجدت هذه الطلائع نفسها بين وحشين: وحش البيروقراطية الفاسدة تمتنع بدعوى وقوع السيستم، ثم وحش البلطجية المستأجرة تهدد وتتوعد .
السؤال: هل لهذه الطلائع مستقبل؟ وهل للشعب مكان تحت قبضة الأوليجاركية؟
الجواب في تجريد الأوليجارك من السيطرة على البرلمان، انتزاع البرلمان ليكون صوت الشعب على وجه الحقيقة، وليكون قوة توازن في مواجهة الديكتاتورية.
وهذا موضوع عدة مقالات في وقت لاحق بمشيئة الله.