مع كل مواجهة فلسطينية إسرائيلية، يُفتح النقاش حول ما هي أدوات القوة التي يمتلكها العرب والفلسطينيون في مواجهة آلة الحرب الإسرائيلية، ومجمل سياساتها الاستعمارية بحق الشعب الفلسطيني من احتلال وقتل وتهجير؟

والحقيقة، أن معركة غزة الأخيرة فتحت مرة أخرى، هذا النقاش، خاصة أن الهجمات الإسرائيلية لم تفرق بين أطفال وشيوخ ونساء ورجال، كما أن الاستهداف الإسرائيلي للمستشفى “الأهلي المعمداني” في قطاع غزة، لم يجد إلا كلمات تضامن غربية خجولة لم تدن إسرائيل، ولم تحملها من الأصل مسئولية هذه الجريمة، أو كما قال رئيس الوزراء البريطاني: سنبحث في الأمر ولن نسير خلف وسائل التواصل الاجتماعي.

أما زيارة الرئيس بايدن إلى إسرائيل، ولقاؤه برئيس الوزراء نتنياهو، ثم التصريحات التي أطلقها هناك، وبدت فيها الإدارة الأمريكية متمسكة بالعين الواحدة، لترى ما يجري في غزة.

إن تصريحات الرئيس الأمريكي نست أو تناست، أن هناك ضحايا فلسطينيين غالبيتهم الساحقة من المدنيين، وعاد وزاد في الحديث عن إسرائيل التي ولو لم تكن موجودة لخلقها، وقال إن “الطرف الثاني”، هو من ضرب المستشفي، ويقصد تنظيم الجهاد، حتى لا يشير إلى مسئولية إسرائيل.

وقد ذهب المستشار الألماني ورئيس الوزراء البريطاني، والرئيس الفرنسي حذو الرئيس الأمريكي بدرجات متفاوتة، وجوهر رسالتهم يقوم على اختزال، ما جرى في غزة في يوم هجوم حماس في 7 أكتوبر، والذي أدى إلى سقوط أعداد من الضحايا المدنيين، وتجاهل الضحايا المدنيين الفلسطينيين الذين يستهدفهم بشكل يومي جيش الاحتلال الإسرائيلي، وتبني الخطاب الإسرائيلي، بأن حماس هي داعش، أو كما وصفها بايدن انها أسوء منها.

والحقيقة أن السؤال المطروح يتعلق بأسباب هذا الدعم اللامحدود الذي يقدمه الغرب لإسرائيل، والتبني الكامل لروايتها السياسية؟ الإجابة العربية الجاهزة تقول، إن هناك تحالفا غربيا بالمعني التاريخي والحضاري بين الغرب وإسرائيل في مواجهة العرب والمسلمين؟ وإذا افترضنا وجود هذا التحالف، فهل لا توجد أوراق قوة أخرى تمتلكها إسرائيل، وفرضتها على العالم سياسيا وماليا، وإعلاميا بحيث خلقت جماعات ضغط، تتبنى روايتها السياسية، منذ النكبة وحتى عدوانها على قطاع غزة، وإنه من الصعب تبسيط الأمر، في إنه تضامن تاريخي وحضاري بين الغرب وإسرائيل، أو أنه دعم دول استعمارية قديمة لدولة استعمارية جديدة، أو دعم الديمقراطيات الغربية لنظام في إسرائيل، تعتبره ديمقراطيا.

والحقيقة أن العلاقة بين أمريكا وإسرائيل، وبين الأخيرة وبريطانيا، هي في جانب علاقة عضوية، منذ قيام الدولة العبرية، وحتى الآن، وترجع لأسباب تاريخية، وعقدة الذنب نتيجة الجرائم التي ارتكبت في حق اليهود على يد النازي، وشعور الدول الغربية بمسئولية تاريخية تجاه حماية إسرائيل.

أما الجانب الآخر والأهم، فيتعلق بنجاح إسرائيل في تصنيع جانب كبير من أوراق قوتها في العالم عن طريق “لوبي”، ساعدها في نشر روايتها التاريخية والسياسية، وهو ما غاب عن العالم العربي.

وقد نظر كثير من العرب إلي اللوبي الصهيوني المؤيد لإسرائيل باعتباره فقط تجمع ديني، وثقافي تتكون نواته الصلبة من اليهود المؤيدين لإسرائيل، إلا أن من المؤكد، أن هناك عوامل أخرى سياسية واجتماعية ساعدت على نجاحه، وغابت عن تحليلات البعض في عالمنا العربي الذين مالوا إلى الاستسهال بترديد شعارات “المؤامرة اليهودية”، و “الحقد اليهودي” على العرب والمسلمين، دون تقديم أي فهم علمي دقيق؛ لأداء هذا التجمع الديني ـ السياسي.

ودلت الطريقة التي تحرك بها جانب كبير من اليهود المؤيدين لإسرائيل على قدرتهم الفائقة على تحويل الاضطهاد الذي تعرضوا له على يد النازي من قضية عرقية ـ دينية تخص اليهود إلى قضية نضالية تخص الإنسانية كلها، وخاصة في الغرب. وهنا سنجد أن “صناعة” أوراق القوة المؤيدة لإسرائيل لم تكن في يوم من الأيام شيئا مكتسبا من التاريخ فقط، إنما كانت بالأساس مشروع للإنجاز السياسي تم على أرض الواقع، وحول مسألة إدانة انتقاد اليهود، أو التهكم عليهم أو التشكيك في الحجم الحقيقي لضحاياهم على يد النازي، إلى مسار للدفاع عن إسرائيل، وأصبح نقد سياساتها مساويا للعداء للسامية، ويمثل كراهية وعنصرية ضد اليهود.

ولعل هذا ما جعل العديد من الحركات اليسارية، وكثير من الجمعيات المناهضة؛ للتمييز العنصري في أوربا، تبدي تعاطفا واضحا مع اليهود، ليس بسبب “المؤامرة اليهودية”، كما يتصور البعض، إنما بسبب تعاطف هذه الحركات مع الجانب الإنساني الذي غلف به اللوبي المؤيد لإسرائيل خطابة الأيديولوجي، وتحيزاته المطلقة للدولة العبرية، فبدا في صورة المدافع عن حقوق الإنسان، ومحارب للعنصرية ونجح في خلق دوائر من الأنصار والمتعاطفين مع الرواية الإسرائيلية، سواء كانوا من اليهود أو غير اليهود، ومن أهل اليمين وأهل اليسار.

من الصعب تصور هذا النجاح الإسرائيلي في امتلاك أوراق قوة، وتأثير في المجتمعات الغربية، يرجع لتفوق عرقي أو لعبقرية “لشعب الله المختار”، أو كما يردد بعضنا إلى “المؤامرة اليهودية” التي تصيب مجتمعنا بالإحباط، وترجع تعثره لنظريات مؤامرة واهية وخرافات.

يقينا العالم العربي، لأسباب بنيوية، تتعلق بأزمة النموذج السياسي والاقتصادي الذي يقدمه، جعلته غير قادر على امتلاك أي أوراق قوة حقيقية قادرة على التأثير الكبير في الغرب، إلا ربما بعض شركات العلاقات العامة التي تسعى، لتجميل الصورة لا تغييرها.

أما الجانب الفلسطيني فرغم التضحيات الكبيرة التي دفعها، ويدفعه شعبه، منذ نكبته في 1948، وحتى استهداف المستشفى الأهلي المعمداني في غزة، إلا أن الانقسام بين فتح وحماس، وانفصال المشروع السياسي للضفة الغربية عن غزة، جعل أوراق القوة والتأثير التي تمتلكها واحدة من أعدل القضايا في العالم محدودا، ومتراجعا أمام هيمنة الرواية الإسرائيلية سياسيا وإعلاميا.

لقد حان الوقت، أن يقدم الشعب الفلسطيني قيادة سياسية جديدة تتجاوز القيادات الحالية، وتكون قادرة على التواصل مع العالم بلغته، وانحيازاته وتؤثر فيه، ولا تكتفي فقط بالحديث عن جرائم إسرائيل، والحقوق العربية والفلسطينية المغتصبة، إنما أن تضع هذه الحقوق في قالب إنساني، وديمقراطي جديد، يؤكد على الحرية والعدل والمساواة بين شعوب الأرض، وهي قيم تنتهكها كل يوم آلة الحرب الإسرائيلية، وداعموها في أمريكا والغرب.