عشية زيارة الرئيس الأمريكي “جو بايدن” إلى تل أبيب جرت واحدة من أخطر المجازر في التاريخ الإنساني الحديث، حيث قصفت الطائرات الإسرائيلية “المستشفى الأهلي المعمداني” في غزة، وتناثرت أشلاء جثث حوالي (500) مريض في المكان.
لم تؤثر الجريمة الشنيعة على أهداف “بايدن” من الزيارة.. ولا دعته؛ إلى التخفف من الانحياز المطلق لإسرائيل، مهما ارتكبت من جرائم حرب؛ بذريعة “الحق في الدفاع عن النفس”.
لا اكترث بإلغاء القمة الرباعية التي كان يفترض أن تعقد في العاصمة الأردنية عمان بمشاركة ملكها، ورئيسي مصر، والسلطة الفلسطينية، ولا توقف عند تظاهرات الغضب التي اجتاحت الضفة الغربية، ومدن عربية عديدة ورسائلها ونذرها.
مضى إلى أهدافه، دون أدنى تغيير في لغة الخطاب، ومؤكدا بالممارسة العملية عبارته التي كان يرددها، منذ سنوات شبابه: “أنا صهيوني”.
“حزنت وغضبت؛ بشأن الانفجار في المستشفى المعمداني، ويبدو أن الجانب الآخر وراء ذلك، وليس أنتم” موجها كلامه إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتانياهو”.
كانت تلك العبارة الموجزة والفاضحة كافية بذاتها؛ لكشف مستوى تماهيه مع جرائم الحرب الإسرائيلية.
تبنى الرواية الإسرائيلية التي يعرف هو، ويعرف العالم كله، أنها محض أكاذيب وادعاءات، من أن صاروخا أطلقه تنظيم “الجهاد الإسلامي” انفجر فوق المستشفى بالخطأ.
تحرز قليلا بكلمة “يبدو”، خشية اتهامه بالكذب المتعمد على الرأي العام في بلاده.
بدا شريكا أصيلا، فيما يُرتكب من جرائم حرب في قطاع غزة المحاصر، وليس في المستشفى فقط.
أحياء بكاملها أزيلت، قطعت المياه والكهرباء، وإمدادات الغذاء، واضطر مئات الآلاف من الفلسطينيين؛ للنزوح هربا من موت محقق.
أصبحت غزة مع استحالة الحياة فيها كغرف غاز نازية، يحترق داخلها الفلسطينيون.
المنظمات الدولية تحذر من الإبادة الجماعية التي يتعرضون لها، فيما رئيس أقوى دولة في العالم يعطي الضوء الأخضر؛ لارتكاب مزيد من جرائم الحرب.
المفارقات وصلت ذروتها بادعاء “نتنياهو” أمامه، وهو يُؤَمن، ويُصدِّق، أن “الإرهابيين المتوحشين”، قاصدا منظمات المقاومة الفلسطينية يتحملون مسئولية مجزرة المستشفى، وأن الحليفين الأمريكي، والإسرائيلي “قوة حضارة” و”قوة سلام”.
انتُهكت الأوصاف، والمعاني بفحش غير مسبوق، كأن الفلسطينيين “حيوانات بشرية”، على ما صرح وزير الدفاع الإسرائيلي بلا مواربة أو خجل.
ثم وصلت مهمة “بايدن” إلى ذروة، لم يسبقه إليها رئيس أمريكي آخر باجتماعه مع مجلس الحرب الإسرائيلي؛ للاطلاع على حقائق الموقف والتشاور في الخطوات التالية.
المعنى يتجاوز التغطية السياسية لجرائم الحرب إلى المشاركة الكاملة فيها.
بأي معنى عسكري مباشر، فإن الولايات المتحدة تحارب الشعب الفلسطيني المحاصر.
في (7) أكتوبر لحقت هزيمة مذلة بالجيش الإسرائيلي، وبدت الدولة العبرية منكشفة، ومهزوزة بصورة، لم يسبق أن تعرضت لها من قبل.
هرعت الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي وحلف “الناتو” إلى نجدتها.
هذا تطور له ما بعده، ويؤشر إلى سيناريوهات جديدة، تطرق أبواب الشرق الأوسط.
هناك عنوانان رئيسيان لزيارة “بايدن”:
الأول، إنقاذ إسرائيل من تبعات زلزال هزيمة (7) أكتوبر، التي أذلت جيشها، وأفقدته ثقته في استخباراته، وقدرته على الردع في محيطه، ومنع أية أطراف إقليمية أخرى، إيران وحزب الله بالخصوص، من أن تستغل الوضع الإسرائيلي المتدهور.
أرسلت إلى شرق المتوسط بالقرب من إسرائيل حاملتي الطائرات “جيرالد فورد” و”إيزنهاور” وسفن حربية، وألفي جندي مارينز على أهبة التأهب؛ للانتشار وبالوقت نفسه، أرسلت بريطانيا بوارج حربية إلى المكان نفسه.
تدفق رؤساء دول ووزراء خارجية، ودفاع المنظومة الغربية إلى تل أبيب على نحو يكاد، يشبه في أجوائه وتفاصيله، ما يحدث مع أوكرانيا.
في الحالة الأوكرانية، فإن العدو الروسي قوة عظمى نووية، ولديه ترسانات سلاح وتحالفات استراتيجية، واقتصادية تمكنه من التحدي والصمود.
وفي الحالة الإسرائيلية، فإن العدو الرئيسي فصيل فلسطيني مسلح، يتمركز في منطقة ضيقة جغرافيا، ومكتظة بالسكان، وأوضاعه الاقتصادية خانقة تحت الحصار.
بدت إسرائيل دولة هشة على وشك الانهيار.
الهزيمة الإسرائيلية كانت مدوية وعميقة، ومما يصعب ترميم جراحها بأي وقت منظور.
هذا ما لا يصح نسيانه، أو تجاهل تداعياته السياسية والاستراتيجية بأي حساب.
الثاني، البحث عن أفق سياسي للعمليات العسكرية الإسرائيلية بالتشاور حول الخطوات التالية.
تكاد تغيب عن الإسرائيليين أية تصورات سياسية تُسوغ الاستمرار في القصف العشوائي لغزة، أهلها وبيوتها ومستشفياتها، سوى دفع الفلسطينيين إلى التهجير القسري إلى سيناء، وهو خطر ماثل، رغم الرفض المشترك المصري والفلسطيني المعلن.
إذا مضى ذلك السيناريو إلى آخره، فإننا أمام نكبة فلسطينية وعربية ثانية، وحرب أخرى مصرية إسرائيلية، لا يمكن استبعادها.
أثناء زيارته أشار، “بايدن” بصورة عابرة إلى حل الدولتين، ودمج إسرائيل في محيطها.
حل الدولتين يكاد أن يكون منعدما تماما، في ظل سيناريو تهجير قسري آخر متوقع للفلسطينيين من الضفة الغربية إلى الضفة الأخرى في الأردن.. والدمج بالتطبيع والتعاون الاقتصادي، يكاد أن يكون محض أوهام.
مشروع التطبيع كله، سوف يتقوض نهائيا وإلى الأبد.
المنطقة كلها سوف تشتعل غضبا، ولن يبقى فيها حجر على حجر.
لإضفاء شيء من الإنسانية على زيارة، تفتقد إلى أية قيم أخلاقية، أعلن “بايدن” عن تبرع بقيمة (100) مليون دولار للضفة وغزة، دون أن يقول من سوف يتسلمها، وكيف يتوقع أن تُصرف؟
وعود في الهواء بلا قيمة عملية، كأننا أمام عملية مقايضة بالأموال؛ لأرواح الفلسطينيين المدنيين العزل.
كما دعا الحكومة الإسرائيلية إلى تمرير المساعدات الإنسانية المتراكمة، عبر معبر “رفح” بأسرع وقت ممكن.
“نتنياهو” اشترط ألا تصل إلى “حماس”، وهو شرط يصعب التحقق منه، ويمكن إسرائيل في أي لحظة من إيقافها.
يستلفت الانتباه هنا، ما صرح به متحدث إسرائيلي: “، لا وقف إطلاق نار إنسانيا في هذه المرحلة”.
الموقف نفسه تبنته الولايات المتحدة في مجلس الأمن الدولي؛ لإجهاض مشروع قرار برازيلي؛ لهدنة إنسانية.
إنه المضي قدما، عبر طرق ملتوية إلى التهجير القسري داخل سيناء.
في إحدى تلك الطرق، تبنى وزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكن” فكرة إنشاء “مناطق آمنة” في جنوب غزة؛ لتوفير الحماية للمدنيين، وإدخال المساعدات الإنسانية إليهم.
“بايدن” تبنى الأطروحة نفسها.
الكلام الأمريكي يحمل وجهين متناقضين: الأول، إنساني وضروري وعاجل.. والثاني، ملغم ومنذر ويمهد؛ للتهجير القسري في خطوة تالية.
لم تكن هناك أدنى مفاجأة، في أن ينتهك الإسرائيليون كل التعهدات التي قطعت بهذا الشأن، حيث لم تتوقف الغارات على النازحين إلى الجنوب، والأماكن التي قيل إنها آمنة.
ولا كانت هناك مفاجأة في التواطؤ الأمريكي.
رغم تحذير “بايدن”، من أن احتلال غزة خطأ فادح، إلا أنه لا يمانع في عملية برية محدودة؛ تستهدف اجتثاث “حماس” و”الجهاد”.
العملية البرية تتوافر مقدماتها، لكن هناك خشية من كلفتها الهائلة، إذا لم تنجح الغارات المكثفة في تقويض قدرة “حماس” والجهاد الصاروخية، وهو لم يحدث حتى الآن، أو إذا ما اتسع نطاق الحرب إلى الجبهة الشمالية بتدخل حزب الله، الذي تفوق طاقاته العسكرية والصاروخية، حسب بعض التقديرات ما لدى حماس عشر مرات.
السيناريوهات مفتوحة، واحتمالات توسع نطاق الحرب واردة.
إيران حساباتها معقدة، لكنها قد تجد نفسها منخرطة في حرب لا تطلبها، وحزب الله له ضغوطه الداخلية والتزاماته الإقليمية، التي قد تحجم اشتباكاته الحدودية، لكنه يجد نفسه أمام اختبار مبدأ “وحدة الساحات”، الذي طالما تبناه ودعا إليه.
الولايات المتحدة تؤكد مرة بعد أخرى، أنها لن تخوض حربا مباشرة، إذا ما تدخل حزب الله، لكنه من غير المستبعد، أن يحدث مثل هذا التدخل المباشر، إذا لحقت هزيمة بالحليف الإسرائيلي على الجبهة الشمالية، أثناء احتدام المعارك في الجنوب.
“لو لم توجد إسرائيل لأوجدناها”.
كانت تلك العبارة التي أطلقها “بايدن” في تل أبيب تلخيصا؛ لطبيعة الصراع على المنطقة.
لم تكن تزيدا على الحقيقة، بل الحقيقة نفسها.
طرأت فكرة بناء دولة عازلة بين مصر والشام على “نابليون بونابرت”، أثناء الحملة الفرنسية قبل، أن تضعها بريطانيا موضع التنفيذ بوعد بلفور (1917).
الحقائق وحدها تتحدث الآن على إيقاع المجازر في غزة المقاتلة.
في كل الاحتمالات والسيناريوهات، فإن زلزالا استراتيجيا سوف يضرب الشرق الأوسط، سياساته وتحالفاته ونظمه، خلال الشهور والسنوات القليلة المقبلة.