أمضى اللاعبون الإقليميون السنوات الخمس الماضية (٢٠١٩-٢٠٢٣) في إيجاد حلول عملية؛ لإنهاء الصراعات وإقامة العلاقات وتفكيك المحاور الإقليمية المصطرعة، مع تجنب عدد من القضايا التي قفزوا عليها، أو أعادوا تعريفها أو جرى تهميشها. أبدت دول المنطقة استعدادًا متزايدًا؛ لإيجاد حلول وسط عملية، وقابلة للتنفيذ على أساس المصالح المشتركة- وهي ظاهرة يشار إليها، أحيانًا باسم بناء “شرق أوسط جديد”.

منذ عام 2019، شرعت دول الشرق الأوسط في فترة طويلة من الدبلوماسية الإقليمية الواقعية، مدفوعة بتناقص المشاركة الأمريكية، والتحولات الجيوسياسية الناجمة عن الحرب في أوكرانيا، وإعادة ترتيب الأولويات الإقليمية الأوسع؛ للاحتياجات الاقتصادية الوطنية. شهدت هذه الفترة تطبيع العلاقات بين إسرائيل والبحرين والإمارات العربية المتحدة في اتفاقيات أطلق عليها إبراهيم 2020، وإنهاء حصار قطر في عام 2021، وإعادة ضبط العلاقات الخليجية التركية في عام 2023، واستعادة العلاقات الإيرانية السعودية بواسطة الصين، والمفاوضات اليمنية جارية أيضاً، وكذلك “إعادة تأهيل” بشار الأسد في سوريا بعد عقد من الحرب الأهلية التي ترعاها القوى الخارجية.

يرمز هذا التقارب إلى شرق أوسط جديد يتسم: بالواقعية، ويركز على المصالح الوطنية أولا، التي بات أهم مرتكزاتها التنمية الاقتصادية، بدلا من الأيديولوجيا، ويهمش بعض القضايا، كما لا يدمج تطلعات شعوب المنطقة في سياساته.

تصور الشرق الأوسط في أبعاده المستجدة، استند إلى أسس أربعة:

١-المصالح الوطنية أولا: لقد كشفت السنوات القليلة الماضية بالفعل عن مدى استعداد القوى الإقليمية مثل، المملكة العربية السعودية وتركيا؛ لتحدي الولايات المتحدة بشأن؛ قضاياها الأكثر أهمية: التحوط في مواجهة الغزو الروسي لأوكرانيا، والحفاظ على أسعار النفط مرتفعة، وبناء علاقات أقوى مع الصين.

برز من خلال هذه السياسة التنافس بين “الأشقاء” -كما يظهر في العلاقات السعودية الإماراتية حين سعت الأولى، لأن تكون المركز الاقتصادي الأول في المنطقة بدلا من دبي. وفق هذا التصور، تمت مراجعة عديد من السياسات التي استقرت لسنوات. الانتقال من المعونة إلى الاستثمار مجرد مثال، لأمثلة عديدة في هذا السياق.

٢- الاقتصاد يقود السياسة: تركيا تريد استثمارا وتدفقا ماليا، والخليج يحتوي إيران استعدادا؛ لما بعد النفط، بما يتطلبه من هدوء، يسمح بتدفق الاستثمارات، وإيران أنهكتها سنوات الحصار، وتريد أن تحل مشاكلها مع الولايات المتحدة والغرب، وإسرائيل تسعى بتطبيعها مع الخليج؛ للاستفادة من فوائضه المالية؛ لتكون مركزا أساسيا في الممرات الاستراتيجية، ومسارات الطاقة التي يتم إنشاؤها.

غلبة الاقتصاد، تعني ضرورة الحفاظ على موقف غير تصادمي في السياسة الخارجية، وذلك لتخفيف التوترات السياسية مع الشركاء الإقليميين.

٣-إخراج الأيديولوجيا من المشهد، حيث الواقعية هي التي يجب أن تسود. لم يتم استبعاد الإسلاميين وحدهم- وفق هذه السياسة- بل امتد الإقصاء؛ ليشمل جميع المكونات الفكرية والتنظيمات السياسية التي يمكن أن تعبر عن بقايا الأيديولوجيا. شمل هذا التصور الوهابية، كما امتد إلى بقايا التيارات القومية. لم يعد جذر التنافس مع إيران هو المسألة الشيعية، أو باعتبارهم روافض؛ ولكن التدخلات في شؤون الدول والصراع حول التصورات المطروحة للإقليم، بما تتضمنه من مصالح.

٤- استند مفهوم الاستقرار على المستوى الوطني أو في العلاقات بين دول الإقليم على القفز على تطلعات الجماهير. وتهميش قضايا حيوية مثل، حقوق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته. تصاعد التقارب الإقليمي مع تراجع لمسألة الحرية في المنطقة بعد التواطؤ على الربيع العربي، بما يمكن معه القول، بأنه تقارب المستبدين، كما زادت معدلات عدم المساواة في الفرص والدخول والثروات- كما رصدته عديد من التقارير الاقتصادية الدولية.

لم يعد تقارب المستبدين فقط؛ بل ارتكز إلى مصالح تحالفات رأس المال أيضا بامتداداتها في الرأسمالية الدولية.

طوفان الأقصى والديناميكيات الجديدة

أتت طوفان الأقصى برياح جديدة، لا أظنها وحدها قادرة على عكس الاتجاهات الأربع السابقة، لكن الكيفية التي ستنتهي بها المعركة مُحدِد مهم في ضبط ملامح “الشرق الأوسط الجديد”.

من هذا المنظور يمكن الإشارة إلى النقاط التالية:

١- تظل المصالح الوطنية المحدد الأساسي في تناول قضايا السياسة الخارجية، لكن تعريفها والقضايا التي تشملها، ستتسع لتحوي عددا من الموضوعات التي جرى تهميشها أو تجاوزها.

من المرجح الآن أكثر من أي وقت مضى، أن تجعل السعودية التطبيع مشروطاً بالسياسة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين. الأمن القومي المصري تأثر بما يجري في غزة، ومن غير إيجاد حل للحصار المفروض عليها من عقد ونصف، فإن إمكانية تهديده ستظل قائمة.

وجود البعدين الإقليمي العربي والإسلامي يوفر الغطاء والحماية والدعم لبعض القضايا، لذا يجب الاستثمار فيه. التقارب الإقليمي الذي تم في السنوات الماضية، يمكن أن يلعب دورا في احتواء هذه الأزمة غير المسبوقة، ومنع تصعيدها وانتشارها.

٢- يظل التقارب المستند فقط إلى الاقتصاد هشا وقابلا للانفجار بسهولة، ومن فواعل من غير الدول مثل حماس. كما لا يمكن القفز علي التناقضات بسهولة.

التقارب بين الخليج وإسرائيل- على سبيل المثال- يخلق تناقضا في العلاقة مع إيران التي تضع إسرائيل فيتو على علاقة لها طبيعية مع الغرب. التقارب بين إيران ودول الخليج- كما افترضت إيران- لا يمكن أن يخلق صدعًا بينها وبين الولايات المتحدة؛ إذ اثبتت هذه الأزمة، أن للولايات المتحدة مصالح في المنطقة لا يمكن بأي حال أن تتركها.

يمكن للاقتصاد، أن يلعب دورا في التقارب الإقليمي؛ لكنه وحده- دون أن يتضمن حلا لتناقضات السياسة- سيظل ضحلا وهشا وعرضة؛ للتهديد بشكل مستمر.

٣- في هذه الأزمة برزت كل الخطابات الدينية: إسلامية والمسيحيين اليمينيين “البروتستانت الإنجيليين ” ويهودية، وأضيف إليها القومية الهندوسية التي رأى فيها بعض المراقبين، أنها أحد أسباب الموقف الهندي الداعم لاسرائيل بعد أن كانت- تاريخيا- مساندة للفلسطينيين. أصبحت الهند اليوم شريكًا استراتيجيًا وثيقًا للولايات المتحدة، وحليفًا قويًا لإسرائيل.

ذكرتنا التغطية الإعلامية الغربية، وتصريحات بعض مسئولي الحكومات الغربية بالجذر اليهودي المسيحي للحضارة الغربية، وبأجواء ١١ سبتمبر التي تصاعدت فيها الخطابات الثقافية، وحديث صراع الحضارات والفسطاطين، لكنه هذه المرة متلبس بصعود الهويات الدينية الممتزج بيمين متطرف، يحكم في بلدان عديدة، كما يظهر -على سبيل المثال- في إيطاليا والهند.

سمة أخرى، تفرقه عن حقبة سبتمبر، وهو أنه عابر للأديان والثقافات والقارات. إن المتأمل لخريطة مؤيدي اسرائيل تجدها، تضم الهند وفرنسا وإيطاليا وبريطانيا، وألمانيا وفي القلب منها حكومة اسرائيل التي كانت تقودها الصهيونية الدينية المتطرفة التي يتصاعد الحديث داخل الكيان الصهيوني الآن عن تحميلها المسئولية، عن انزلاق الأوضاع إلى ما هي عليه الآن.

وهنا ملاحظة يحسن الإشارة إليها وهي: في هذه الأزمة؛ يجب التخلص من المتطرفين على جانبي الصراع، بالطبع أنا أعتقد، أن حماس حركة مقاومة لكن يجب، أن نلحظ، أن المطلوب هو التخلص منها باعتبارها حركة ارهابية تشبه داعش، وفي نفس الوقت من المتوقع التخلص من اليمين اليهودي المتصهين، فبخلاف ذلك، لا يمكن للاقتصاد أن يعمل مرة أخرى، ولا للممرات الاستراتيجية ومسارات الطاقة أن تُفعل.

٤- بالطبع كان أحد مُحددات موقف الحكومات العربية في عدم إدانة حماس برغم ضغوط الولايات المتحدة، والحكومات الغربية هو موقف الرأي العام العربي المساند لها، وللقضية الفلسطينية. هذه الأزمة كشفت وجود رأي عام عربي، وإسلامي داعم لقضية فلسطين، ومساند لها ورافض للتطبيع مع الكيان الصهيوني على حساب حقوق الفلسطينيين، لكنه يظل: مؤقتا؛ شواغله كثيرة؛ فأولويته لقمة العيش التي تضغط عليه، ويعاني من ضعف التأثير؛ فهو لا يرسم سياسة، وإنما يحتج على سياسة قائمة، وقدرته على تشكيل الشبكات التنظيمية ضعيفة، كما يظل حرمانه من الحرية محددا أساسيا في رسم ملامح أدواره. برغم ذلك فيجب، أن نلاحظ، أنه يتراكم مع الأزمات، وهذا ما تخشاه الحكومات العربية؛ فقد انبعثت الانتفاضات العربية من رحم الاحتجاج، والتظاهر تأييدا للفلسطينيين في انتفاضاتهم، منذ مطلع هذا القرن.

لا يعني كل ما سبق عدم قدرة الرأي العام العربي على فرض بعض مُحددات للقضية الفلسطينية. أثبت الرأي العام -كما برز في البحرين والمغرب مثالا- على خسارة رهان التطبيع مجتمعيا، وارتباطه بحقوق الشعب الفلسطيني. هناك توحيد للشعور العربي الإسلامي؛ لكنه مرتبط بالأحداث الكبري. ستظل الحكومات العربية عالقة بين مصالحها الاستراتيجية التي تتمحور أساسا حول استمرارها في مقاعد السلطة وبين شعوبها.

تتبقى نقطة أخيرة، وهي أن السياق اللصيق بإعادة صياغة الشرق الأوسط الجديد لا يتم بمعزل، عما يجري من تغير في هيكل القوة في النظام الدولي. دفع هذا مارك لينش -أستاذ العلوم السياسية والشؤون الدولية في جامعة جورج واشنطن- إلى القول،

بأن “طوفان الأقصى” ستهدد “المصالح الأمريكية الأساسية في الشرق الأوسط، وفي أوكرانيا، وفي منافسة واشنطن مع الصين على النظام في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.” ، ويضيف: “إننا نواجه معًا [يقصد الغرب] أكبر تهديد للنظام العالمي، منذ ثلاثينيات القرن العشرين.”

هل الشرق الأوسط الجديد يعيد تشكيل النظام الدولي أم العكس؟ وما موقع هذه الأزمة في هذه التشكلات؟ -سؤال يستحق أن نخصص له مقالنا القادم.