كلما يشتد الصراع بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، لا يغيب عن الساحة السياسية دور، وتأثير القوى الإقليمية في الصراع. المواجهات المتصاعدة الدائرة حاليا عقب هجوم حماس المفاجئ على إسرائيل مع استمرار قصف إسرائيل لقطاع غزة، ليست بالاسثناء من تلك القاعدة. ولكن المختلف في هذه الأحداث، هو حدوثها في وقت، تتغير فيه موازين القوى في المنطقة، وتتطور معها العلاقات الإقليمية، ومن تلك التغيرات تصاعد نفوذ الدول الخليجية في المنطقة مع تسارع وتيرة التقارب الخليجي-الإسرائيلي.

من يتابع الأحداث الأخيرة، سيلاحظ ظهور طرف طارئ في الجدالات، حول دوافع هجوم حماس. إذ سرعان ما ظهرت تكهنات بين المحللين والإعلاميين والسياسيين، تتهم إيران بالضلوع وراء هجوم حماس على إسرائيل؛ بهدف وقف مفاوضات التطبيع الجارية بين السعودية وإسرائيل.

تلك التحليلات دفعت وزير الخارجية الإيراني؛ لنفي تلك الاتهامات، واعتبر أن لها “دوافع سياسية.” ولكن طهران عبرت رسميا عن تأييدها؛ لعملية لحماس، بالإضافة إلى أن المتحدث باسم حماس قال، بأنه فخور، بأن إيران توفر الدعم لهم (دون تحديد علاقة ايران بذلك الهجوم)، ردا على سؤال حول دور الدعم الإيراني في تنفيذ الهجوم الأخير، صرح العميد علي فدوي (نائب القائد العام للحرس الثوري الإيراني)، بأن حماس نجحت في عرقلة عملية التطبيع بين السعودية وإسرائيل، ولقد أطلق العميد الإيراني على تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل، بأنها مؤامرة خبيثة من تخطيط واشنطن.

ربما يكون من الصعب القطع بضلوع إيران في الأحداث الأخيرة ولكن بروز أهمية الرياض بهذا الشكل يوضح محورية الخليج في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، والتوازنات الإقليمية الحالية.

الرياض: دعم للقضية أم مصالح خفية

قبل اندلاع تلك الأحداث كانت هناك مفاوضات جارية؛ للتوصل لاتفاق تطبيع بين الرياض، وتل أبيب برعاية أمريكية، ولقد أكد كل من محمد بن سلمان، ونتنياهو في تصريحات سابقة، بأنهم على وشك التوصل إلى اتفاق للسلام. ولكن تلك المفاوضات توقفت في أعقاب هجوم حماس الأخير، وتصعيد اسرائيل، فبحسب مصدر سعودي لوكالة فرانس برس، قررت الرياض أن تعلق مشاركتها في محادثات السلام كرد فعل على الأحداث الجارية.

لقد أصدرت السعودية عدة بيانات ذات لهجة شديدة، تدين فيها القصف الإسرائيلي، وحصار إسرائيل لغزة، وترفض فيها دعوات تهجير الفلسطينيين. في وسط تلك الأحداث، اهتمت القوى الإقليمية، والدولية بالتباحث مع الرياض، فلقد عقد بلينكن لقاء مع محمد بن سلمان، ودعا بلينكن في اللقاء؛ للضغط على حماس، بينما ولي العهد السعودي، أكد على سعي الرياض؛ لتهدئة الموقف، والعودة لمسار السلام. كما تلقى محمد بن سلمان أول اتصال هاتفي من الرئيس الإيراني؛ للتباحث حول الأوضاع في غزة.

على الرغم من إصدار الرياض تصريحات رسمية شديدة اللهجة، تدين فيها إسرائيل، وتظهر دعمها للقضية الفلسطينية، ولكن كما يلاحظ كريستيان كوتس أولريكسن، بأن وراء تلك المظاهر بدعم فلسطين هناك مصالح للسعودية، تحاول الرياض بالدفع نحو حل دبلوماسي؛ لانهاء النزاع في سبيل منع انتشار الصراع الى البلدان المجاورة، ووقف تدخل إيران، أو حزب الله في المستقبل القريب، تلك المساعي السعودية، تدخل في سياق الخطة الأكبر للرياض الرامية؛ لتقليل المخاطر والتوترات في المنطقة من أجل؛ تحقيق الاستقرار الإقليمي اللازم؛ لتطبيق رؤية 2030. حيث أن تصاعد التوترات الإقليمية سيؤثر سلبا على تصور هذه الرؤية لمستقبل السعودية، ونشاطها الاقتصادي المرتبط بتحقيق مستهدفات الرؤية.

فيما يتعلق بمستقبل التطبيع مع اسرائيل، علقت الرياض مشاركتها في المفاوضات فقط، ولم توقفها نهائيا، مما يعني أن السعودية لم توقف مسار التطبيع تماما، وأن استمراره لا يزال ممكنا. ولكن كما لاحظ مراقبون، بأن محمد بن سلمان حقق بالفعل إنجازات عديدة، فلقد استطاع تحويل، وتبييض صورته في العالم في وقت قصير من قاتل منبوذ (يرفض الرئيس الأمريكي مقابلته) خاصة، عقب قتل خاشقجي إلى شخصية مؤثرة في المنطقة، وصانع تغيير، اضطر الرئيس الأمريكي؛ لمقابلته في النهاية، لهذا قد لا يحتاج بن سلمان لاتمام صفقة التطبيع، وقد يكتفي بالنجاحات التي حققها حتى الآن. ولكن في جميع الأحوال، الرياض لا تزال مترددة؛ بشأن اتخاذ قرار نهائي؛ بشأن التطبيع. حتى الآن، تركت السعودية مسار التطبيع مفتوحا، وعلى الأرجح، أن الرياض ستستخدمها كورقة للضغط؛ لتهدئة الأوضاع في غزة.

اختبار لاتفاقات إبراهام

على الجانب الآخر، دول الخليج الموقعة لاتفاقات إبراهام، كان موقفها واضحا في إدانة حماس، ودعم الجانب الإسرائيلي. لقد وصفت خارجية الإمارات هجمات حماس، بأنها تصعيد خطير، وعبرت عن استيائها؛ بشأن احتجاز حماس لمدنيين إسرائيلين. بالإضافة إلى البحرين التي أصدرت بيانات تماثل التصريحات الإماراتية. كما أنه في الأيام الأولى للصراع، أكد وزير التجارة الإماراتي، بأنهم لا يخلطون السياسية بالتجارة، وأن ما يجري في غزة، لن يؤثر على العلاقات التجارية مع إسرائيل. لقد اتصل أيضا رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو بمحمد بن زايد ليكون أول اتصال من رئيس الوزراء الاسرائيلي لأحد الحكام العرب خلال الأزمة، ولقد أكد نتياهو في المكالمة بأن اسرائيل عازمة على تدمير قدرات حماس. ولكن لاحقا الوقع الشديد لقصف اسرائيل لمستشفى المعمداني أجبرت الإمارات والبحرين على إصدار بيانات تدين فيها تل أبيب.

موقف الإمارات والبحرين العلني، يعبر عن السياسات الجديدة لدول الخليج عقب توقيع اتفاقات إبراهام، حيث أن الدول الخليجية أصبحت لا تجد غضاضة في التعبير علنا عن دعمهم لتل أبيب. ولكن موقف الإمارات الرافض لحماس ليس مدفوعا فقط بنمو العلاقات التجارية، والأمنية مع إسرائيل عقب اتفاقات إبراهام. هذا الموقف هو انعكاس أيضا؛ لعداء الإمارات المطلق لجماعة الإخوان، ورؤية الإمارات لجماعة الإخوان- وجميع الجماعات التابعة لهم في المنطقة، ومنهم حماس- كخطر على أمن الإمارات.

وبالمقابل الموقف السعودي يتعامل مع الجماعات المرتبطة بجماعة الإخوان بشكل أكثر براجماتية ومرونة، فلقد ظهرت مؤشرات في الآونة الأخيرة، على أن السعودية أصبحت أكثر انفتاحا على عودة العلاقات مع حماس، كما أن حماس ترغب بترميم العلاقات مع الرياض عقب سنوات من التوترات.

يتوقع وليام وكسلر (الذي تحدث لعدة مسئولين إماراتيين)، بأن الإمارات في تصريحاتها وسياستها العلنية ستسعى؛لتهدئة التصعيد بين حماس وإسرائيل بمساعدة أطراف إقليمية، ولكن وكسلر يضيف، بأنه في السر “الكثير سيأملون، أن تقضي إسرائيل على حماس” بأسرع وقت ممكن، على حد تعبيره. ويوضح وكسلر أيضا، بأن الإمارات لها ثلاثة مخاوف أخرى من عواقب هذه الأزمة، أولها، أن يفتح هذا الصراع الباب؛ لأن ينتشر الصراع خارج حدود غزة، ويشمل حزب الله وإيران وسوريا، مما قد يعرض أمن الإمارات للخطر، ثانيا، أن الغضب الشعبي في العالم العربي تجاه ما يحدث في غزة، قد يتحول لتظاهرات تهدد استقرار الأنظمة الحليفة للإمارات، مما قد يؤدي إلى وصول جماعة الإخوان للسلطة في بعض البلدان مجددا، وثالثا، تشعر الإمارات ببعض القلق؛ بشان مستقبل غزة (في حال نجاح إسرائيل في القضاء على حماس)، حيث يأمل المسئلوون الإماراتيون، أن تسمح إسرائيل بعودة الفلسطنيين النازحين للقطاع مجددا، والسماح بعبور المساعدات في حال نجاح تل أبيب باقتلاع حماس بشكل تام من غزة.

الخليج في مأزق غزة

ليس من المعلوم إذا كانت إيران دبرت لهجوم حماس أم لا، ولكنه بالتأكيد وضع دول الخليج في موقف مستعص. هناك غضب شعبي عارم في المنطقة تجاه إسرائيل، والذي يزداد يوميا مع انتشار لقطات المصابين والقتلى في غزة. هذا الرأي العام الساخط يضع الإمارات والسعودية في موقف حرج، ويجعل من العصيب على الدول الخليجية الاستمرار في أي مفاوضات سلام جديدة مع إسرائيل، أو التعبير علنيا عن دعم تل أبيب (بشكل خاص السعودية التي تحتل مكانة محورية في العالم الإسلامي). ولذلك ستحاول الأنظمة الخليجية (وخاصة دول اتفاقيات إبراهام) المحافظة على توازن صعب، للحفاظ على روابطهم مع إسرائيل مع محاولة ارضاء الرأي العام في المنطقة الداعم لفلسطين في نفس الوقت. خاصة أن إيران وحلفاءها في المنطقة يروجون، لفكرة أن طهران هي الراعية للمقاومة الفلسطينية، وحامية قضية فلسطين في المنطقة، بينما الدول العربية هم أصدقاء إسرائيل، ولا يكترثون بفلسطين.

كما أن دول الخليج، وخاصة السعودية والإمارات يسعون؛ لتحقيق بيئة إقليمية مستقرة؛ لتحقيق رؤاهم الاقتصادية الجديدة، فلا يريدون توترات جديدة في المنطقة. كل من الإمارات والسعودية، عملوا في السنوات الأخيرة على تهدئة الصراعات في المنطقة للحد من المخاطر الإقليمية، وحماية أمنهم– خاصة مع تراجع اهتمام واشنطن بالمنطقة- مما تطور إلى تقارب، وتحسين العلاقات مع خصومهم مثل، أنقرة وطهران.

ترى الإمارات والسعودية، أنه كلما طال النزاع، ازدادت احتماليات توسع الصراع خارج حدود غزة، والانتقال للدول المجاورة، وتدخل حزب الله وإيران، مما قد يعني ازدياد خطر توجيه ضربات من إيران أو وكلائها نحو السعودية والإمارات. كما أن إدارة تلك التوترات الأمنية تستنفد موارد مالية، هم بحاجة ماسة؛ لضخها في اقتصاداتهم المحلية؛ من أجل تحقيق رؤاهم لـ 2030، بالإضافة إلى أن الأخطار الأمنية والتوترات الإقليمية تعرقل مشاريعهم التجارية والاقتصادية. ولهذا ستسعى السعودية والإمارات؛ لتهدئة الأوضاع في غزة سريعا.

ولكن هذا ليس بالهدف اليسير، حيث أنه ليس من الواضح إلى أي مدى، ستستمر المواجهات. القتال الدائر بين حماس وإسرائيل يختلف عن الوقائع السابقة. على الرغم من أن هجوم حماس حطم الاعتقاد السائد، بأن إسرائيل لا تقهر، ولكن هذا الهجوم؛ تسبب أيضا في آثار عكسية خطيرة على غزة وحماس. في السابق كان يتبع الجيش الإسرائيلي استراتيجية تعرف “بجز العشب”، وهي تعتمد على شن هجوم بين الحين، والآخر على غزة؛ لإضعاف البنية التحتية لحماس، وعندما تعيد حماس بناء قدراتها، تكرر تل أبيب الهجوم مجددا، ثم تتكرر تلك العملية مرارا وتكرارا، ولكن تلك الاستراتيجية أصبحت غير مقبولة في تل أبيب الآن؛ بسبب شدة هجوم حماس هذه المرة، هدف إسرائيل من هجماتها الحالية على قطاع غزة، هو القضاء على حماس نهائيا.

هذا الوضع المعقد، يجعل استمرار الحرب لفترة طويلة من الاحتمالات المرجحة، مما قد يؤخر أو يحبط مراد السعودية والإمارات باستقرار الأوضاع بأسرع وقت ممكن. ترى السعودية والإمارات، بأن منطقة غير مستقرة تعني خطرا على أمنهم ومصالحهم الاقتصادية، فربما قد لا يمانعان، من أن تقوم إسرائيل بالقضاء على حماس بشكل نهائي– في الواقع، قد تفضل الإمارات هذا السيناريو، لأن هذا سيعني القضاء على حماس التي تعدها الإمارات خطرا على أمنها– فكل من السعودية والإمارات في نهاية المطاف، يريدون منطقة مستقرة بلا صراعات، بأي وسيلة ممكنة. ستكشف الأحداث في المستقبل القريب، كيف ستتعامل الدول الخليجية مع تلك المعضلات، والمآزق المفاجئة القادمة من غزة.