“وليس عندنا في الشرق أو في مصر، ما يدل على العداء للسامية، ولا عندنا عقد الذنب العميقة عند الأوروبيين، ضد إحراق وإغراق وطرد اليهود..وإنما الذي عندنا هو التكفير عن هذه الذنوب الأوروبية..فبسبب إرهاب اليهود في أوروبا، جاء اليهود إلى الشرق..وبسبب العداء للسامية ظهرت الصهيونية .. أي القومية اليهودية.. أو جمع اليهود من كل مكان إلى مكان واحد، هذا المكان هو القلب الدامي للعالم العربي .. فنحن- هنا- نكفر عن جريمة، لم نرتكبها، وعن اضطهاد لم نقم به. ذبحوهم وقتلوهم بالملايين هناك، ليموت ويتشرد منا الألوف والملايين في كل أرض .. ولتقع حروب توسعية على الدول العربية .. ومع ذلك فحربنا مع إسرائيل حرب، ضد كيان سياسي عنصرى مجنون، ضد نظام إرهابي .. وليس ضد الساميين الذين هم كل العرب ومعظم اليهود.”* كان ما سبق هو آخر فقرة في مقال للأستاذ أنيس منصور رحمه الله (اقتبست عنوان مقالي هذا منه)، وقد جُمِع ضمن مقالات عديدة للكاتب الراحل في كتاب حَمل نفس العنوان. يمكنك أن تختلف مع الأستاذ أنيس في أمور كثيرة، لكنك لا تملك إزاء، ما كان يطرحه من أفكار، إلا أن تقرأها بدرجة من التعمق والمُتعة في آن واحد، حيث كان أسلوب الأستاذ أنيس البسيط طازجُ المفردات، مُحَفِزًا على ذلك.
“وَجَع في قَلب إسرائيل”..عنوانٌ لاذعٌ ومُثيرٌ ينطوى على كثير من الإشارات التي تستثير في القارئ شَغَفًا للقراءةِ من نوعٍ خاصٍ، إذ تتركه حين يُطالع العنوان، حائرًا يتسائل في فضولٍ، ما إذا كان العنوان تعبيرًا عن كراهة لإسرائيل، باعتبارات المدلول الفولكلوري الشعبي المَوروث، أو أنه تقريرٌ لتشخيصٍ ما. فإن قَرأ العنوان بالعامية المصرية، تولدَ لدى القارئ انطباعًا، بأن الكاتب يدعو على إسرائيل بِوَجع القلب، وإن قرأه بالفصحى، كان الانطباع مختلفًا يمكن معه استنتاج أن الكاتب يَصِف الآلام التى أصابت قلب إسرائيل. كان الأستاذ أنيس بالغ الذكاء يعرف جيدًا، كيف يستفز القارئ- مُسبقًا- ليجذبه جَذبًا ناعِمًا لقراءة، ما قد لا يكون مُرضيًا لقناعاته.
تَذَكرتُ كتاب الأستاذ أنيس، بنهاية الاسبوع الماضى على وقع تبعات المذابح الصهيونية اليومية بِغَزة، فآثرتُ أن أُشرِك القارئ الكريم في بعضٍ من أفكاري حول الآلام التى أصابت قلب الدولة الصهيونية جراء تلك المذابح، وإن كنتُ لا أُمانِع أبدًا، إن رَدَدَ القارئ الكريم عنوان المقال بدَفعٍ من انطباعات الفلكلور الشعبي المُذهِل البديع.
بشكلٍ شامل يمكننا القول، بأن لاستمرار تلك المذابح، أثر عنيف على الاقتصاد العالمي وقدرته على التعافي الواهن المحدود، حيث لم تَزَل آثار الأزمة الأوكرانية قائمة؛ لغياب آفاقٍ منظورة لحلها، وكذلك تؤثر مشاكسات روسيا بإنذاراتها الصريحة، والمبطنة بالتدخل في الصراع بِغَزة، ناهيك عن رسائل وكلاء إيران المحمولة على جناحِ القذائف هنا وهناك، بما ينذر بتفجير الأوضاع فى بؤر حيوية أخرى بالمنطقة. من المؤكد أن العالم سيشهد تَنَامٍ في معدلات التضخم تأثُرًا بزياداتٍ بدأت بالفعل، ويُرتقب حدوث المزيد منها، في أسعار الطاقة بما يزيد من تكلفة نقل البضائع، وما يتعلق بذلك من ارتفاعات في قِيَّم التأمين على أعمال نقل تلك البضائع، مُقابل المخاطر السياسية المُحتملة.
من المؤكد أيضًا أن الموازنة العامة الأمريكية والموازنات المالية للدول التي ترتبط اقتصاداتها بالدولار الأمريكي، ستشهد مزيدًا من الخسائر؛ بسبب ارتفاعات مُتَوَقَعَة في أسعار الفائدة على الاقتراض طويل الأجل بالدولار الأمريكي، والتي وصفها جيروم باول رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، بأنها ستكون خسائر جوهرية significant. ظني أن الاقتصاد الأمريكي سيشهد واحدة من أعتى موجات خسائره، بسبب تحمله لتكلفة باهظة للدعم المالى غير المحدود الذي يبذله لدعم الدولة الصهيونية، الأمر الذي قد يُكَلِف إدارة الرئيس بايدن مستقبلها، إن لم تفلح في احتواء الموقف في سنةٍ تضطرها الظروف فيها ألا تكون بطة عرجاء.
بشكلٍ مُحدَدٍ، تعاني الدولة الصهيونية من أوجاع اقتصادية عظيمة، نتجت عن استدعاء ما يزيد عن 300 ألفًا من الضباط والجنود الاحتياطيين؛ للانضمام للقوات النظامية، وهو ما أدى إلى شللٍ شبه كاملٍ للحياة الإقتصادية هناك، حيث يشغل أغلب من تم استدعائهم وظائف حيوية بأنشطة سوق المال والبنوك والشركات، وما يتصل بتلك الأنشطة من خدمات أهمها البرمجيات، بخلاف مساهماتهم في أنشطة الزراعة، والسياحة والصناعة التحويلية والتنقيب عن النفط والغاز، وامتلاكهم للحصة الأكبر من ريادة الأعمال والمشروعات الصغيرة والمتوسطة ومتناهية الصغر. ستكون التكلفة الاقتصادية والمالية لاستمرار تلك المذابح استثنائية على الدولة الصهيونية، لكن هناك دومًا إدارة أمريكية تدفع جزءًا من الثمن من ضرائب مواطنيها، وتقوم بتحميل الجزء الآخر للعالم أجمع. وبالتالي فَلن تُشكلُ التكلفة الاقتصادية والمالية ،على فداحتها، وَجَعًا كبيرًا لدى الدولة الصهيونية.
الوَجع الحقيقي في قلب إسرائيل، يَكمُن في فقدانها لمواطنيها. بلغ تعداد سكان الدولة الصهيونية صبيحة 7 أكتوبر 9.8 ملايين نسمة. فقدت الدولة الصهيونية 1,300 نسمة، ماتوا جراء الأحداث، وأُصيب 4,229 نسمة آخرون بجروح، حسب تقريرٍ للأمم المتحدة صدر يوم الثلاثاء الماضى. وهناك من سيدفعهم رعب استمرار موجةِ الطوفان الحالي، والخوف مما يتبعها من موجات أخرى في المستقبل، إلى هجرةٍ عكسيةٍ تهبط بتعداد السكان إلى مستويات متدنية، غير مسبوقة من شأنها، أن تؤثر جذريًا على التركيب الديموجرافي للسكان.
على الجانب الآخر، وحسبما أشارت آخر تقارير وزارة الصحة الفلسطينية مساء السبت الماضي، ارتقى من الفلسطينيين، منذ بدء الأحداث، 4,385 شهيدًا بينهم 1,756 طفلًا و976 إمرأة، إضافة إلى 13,561 مُصابًا. اعتاد أصحاب الأرض الأصليين أوجاعًا من هذا النوع، إذ تَسَاوَى الموت لديهم مع الحياة، لكن الدولة الصهيونية موجوعة بِحقٍ في وجودها ذاته.
إن أركان الدولة، أي دولة، تتمثل في شعبٍ، وحُدود، أقليمٍ يعيش عليه هذا الشعب، ومؤسسات تدير شئونه. وبهذا المفهوم، يمكننا أن ندرك حجم أوجاع الدولة الصهيونية بأركانها الثلاثة، حيث يتجلى الوجع في القلب بفقدان الشعب بين قتيل وجريح ومُرتَعِبٍ، يسعى للفكاك من الجحيم، وبين حدود، لم تعد آمنة على خلاف ما وعد نتنياهو شعبه، حيث أثبتت المقاومة، أن حدود تلك الدولة ليست آمنة على الإطلاق في محيط عامٍ يبغضها، وبين مؤسسات أهدرت ممارسات نتنياهو الأخيرة جدارتها على إدارة شؤون الشعب باحتقاره للفصل بين السلطات.
يدير نتنياهو الدولة الصهيونية وسط اضطرابات غير مسبوقة داخليًا، وإقليميًا ودوليًا بدرجة من التهور الاستثنائي، تضعه أمام خيار وحيد، هو “إنهاء الصراع” على نحوٍ قد يبدأه باجتياح بري مُحتمل خلال الساعات القادمة**. في مسعاه؛ لإنهاء الصراع.
قد ينتهج نتنياهو نهجًا من اثنين:
الأول، هو القضاء التام على الفلسطينيين من أصحاب الأرض على غرار، ما فعله الأمريكيون الأوائل بالهنود الحمر، وهو أمر أراهُ بالغ الصعوبة من الناحية العملية، وإن كان ليس مستبعدًا على إدارة مجنونة جريحة في صميم كبريائها. وربما يدفعها غرور القوة وقبح الاجتراء،إن تحقق هذا الأمر لا سمح الله، إلى مُطالبة مَن تبقى مِن الفلسطينيين بتعويضاتٍ لقاء، ما حاق مِن خسائر بالدولة الصهيونية.
والثاني، هو استمراره في المذابح، والحصار، ومنعه للإمددات الغذائية والدوائية من الخارج، وقطعه للوقود والماء والكهرباء، من أجل استنزاف طاقة الفلسطينيين ودفعهم دفعًا للرضوخ؛ لاتفاق مخزٍ للسلام مقابل مجرد الحق في الحياة، أى حياة. بجميع الأحوال.
وأيًا كانت طبيعة النهج الذي سيتبناه نتنياهو، فستزداد آلام الدولة الصهيونية، حيث للاجتياح البرى للمدن تكلفة إنسانية باهظة، في وقتٍ لم يعد لدى أصحاب الأرض الأصليين ما يخسرونه….. وَجَع في قلب إسرائيل.
*الصفحة 141 من كتاب “وَجَع في قلب إسرائيل”- الطبعة الثانية الصادرة عن المكتب المصري الحديث في 1979.
**كُتِبَت هذه السطور مساء السبت 21 أكتوبر